كل المنشورات

تفكيك بنية تفكير المجتمع الإسرائيليّ والإيرانيّ

جريدة عُمان، الأربعاء 29 ذو الحجّة 1446هـ/ 25 يونيو 2025م

عملت قناة الجزيرة قبل أشهر من خلال برنامج المقابلة لقاء مع الدّكتور فوزي البدويّ من تونس حول العلاقة بين المسلمين واليهود منذ الإسلام المبكّر وحتّى يومنا هذا، والوجود اليهوديّ في العالم العربيّ وحضورهم في العديد من حواضره، وفكرة الصّهيونيّة ورؤيتها الحاليّة، والبدويّ “متخصّص في الدّراسات اليهوديّة ومقارنة الأديان”، أشتغل كثيرا على اللّغات القديمة وخصوصا العِبريّة، واقترب بشكل كبير من النّصوص اليهوديّة القديمة، التّوراتيّة والتّناخيّة والتّلموديّة، ومن الكتابات اليهوديّة التّراثيّة والمعاصرة، وهو يقرأها من الخارج، بروح أكاديميّة معرفيّة نقديّة وفق المنطق العقليّ، بعيدا عن الأيدولوجيّات المسبقة.

وأنا أتأمل بعض الرّدود على حلقة البدويّ، أجد تكفيرا وسبّا وتحقيرا من بعض المعلّقين، ويستأنسون بحلقة قام بها أحد الدّعاة التّونسيين في الرّدّ عليه، وينادون بمشاهدتها، فذهبت لمشاهدتها لكنني لم أستطع الإكمال، فهناك فارق كبير بين من يتحدّث بروح علميّة وأكاديميّة، وبين من لديه أحكام مسبقة، وغايته تقزيم الآخر باسم الحفاظ على الإسلام، وفي المقابل تابعت حلقة في “عرب كاست” مع عليّ الجفريّ، والجفريّ داعية شهير، بيد هناك فارق كبير بين من ينطلق إنسانيّا ومعرفيّا كالجفريّ تحت مظلّة “هاتوا برهانكم” وبين الدّعاة الجدد، والّذين لا يتقنون غير تصنيف الآخر وتحقيره والتّكفير المبطّن.

الحرب الأخيرة بين الكيان الصّهيونيّ وإيران، ومن خلال الرّدود في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وخصوصا أكس، بل ومن خلال المقاطع القصيرة وشيء من الطّويلة في “يوتيوب” وبعض من البود كاست؛ كشفت لنا هذه الحالة المعرفيّة المتدنيّة ليس في فهم جانب الكيان الصّهيونيّ فحسب، بل وحتّى في فهم المنطق الإيرانيّ، فهناك شبه قطيعة معرفيّة وثقافيّة مع إيران لأكثر من أربعة عقود، وقبل ذلك لم يكن لها حضور كبير في البنية المعرفيّة منذ نهاية الدّولة القاجريّة وحتّى عهد الشّاه، وزاد الأمر سوءا بعد 1979م لتبنى هذه العلاقة على الطّائفيّة، والّتي نراها اليوم، تحت مصطلحات “الرّوافض، والمتعة، وجدليّة سبّ الصّحابة، وتحريف القرآن، والمجوس”، فهناك حالة من الفرح لضرب إيران من باب “ضرب الظّالمين بالظّالمين”، وهناك استدعاء لفتاوى متطرّفة منها إسقاطات تأريخيّة يتّم إسقاطها على فترة ينبغي أن يسودها التّعقّل، وأن تتقدّمها المعرفة، وأن يكون أساسها الإنسان وحرمة دمه وعرضه، وعدم الوقوف مع العدوان، والدّعوة إلى السّلم والحوار.

ومنذ نكبة 1948م وجدت بعض الدّراسات القوميّة واليساريّة ككتاب “إسرائيل فكرة .. حركة .. دولة” من تأليف هاني الهنديّ ومحسن إبراهيم عام 1958م، ثمّ تبعتها بعض الدّراسات العميقة في أواخر القرن العشرين وحتّى اليوم، خصوصا دراسات الوحدة العربيّة منذ تأسيسها عام 1975م، ووجدت دراسات مستقلّة سواء بحثيّة أو استقصائيّة تأملية ككتاب “صراع اليهوديّة مع القوميّة الصّهيونيّة” لعبد الله عبد الدّايم، “وموسوعة اليهود واليهوديّة والصّهيونيّة” لعبد الوهاب المسيريّ، “والأطماع الصّهيونيّة التّوسعيّة في البلاد العربيّة” لعبد الجبّار السّامرائيّ، “واليهود والتّحالف مع الأقوياء” لنعمان السّامرائيّ، “والمتدينون والعلمانيون في إسرائيل” لنافذ أبو حسنة.

كما وجدت العديد من التّرجمات حول الدّراسات الغربيّة حول اليهوديّة والصّهيونيّة، “كمحاكمة الصّهيونيّة الإسرائيليّة” لروجيه غاروديّ، “وصهيونيّة جديدة نفاثة” لإيلان بابيه وتوم سيغف ورون بونداك، ووجدت ترجمات لكتب إسرائيليّة ككتاب “علمنة اليهوديّة” ليعقوب ملكين، “والأصوليّة اليهوديّة في إسرائيل” لإسرائيل شاحاك ونورتون متسفيسكي، “ومستقبل إسرائيل” لشمعون بيريز، كما تمّ ترجمة التّلمود البابليّ وغيرها.

فهناك اجتهادات يغلب عليها الاجتهاد الفرديّ منها المؤسّسيّ، وإن وجدت مؤسّسات مستقلّة بحثيّا فهي أقلّ ممّا ينبغي في عالم كبير كعالمنا العربيّ، ومع وجودها ينبغي أن تعطى الثّقة في وسائل الإعلام بدل الحالة التّسطيحيّة الّتي نراها اليوم، وينبغي أن يلتفت إعلاميّا للقراءات الجادّة، ولا ينبغي وضع حاجز حول فهم البنى المختلفة عنّا لغويّا أو عرقيّا أو دينيّا، بل يجب الانفتاح عليها معرفيّا وأكاديميّا ومؤسّسيّا، بها نفهم العديد من الأحداث بشكل منطقي، وينبغي تجاوز الأطروحات الشّعبويّة، خصوصا من الدّعاة الجدد، أو على الأقل مزاحمتها بأطروحات معرفيّة جادّة.

ثمّ ذكري لإيران هنا ليس من باب التّقابل مع كيان أحتلّ أرضا لأسباب سياسيّة ثمّ أيدلوجيّة، بيد الحالة التّسطيحيّة الّتي نراها اليوم في الإعلام الرّقميّ كوسائل التّواصل الاجتماعيّ هو ما أرمي إليه في فهم الآخر، وقد وجدت دراسات جادّة في فهم المجتمع الإيرانيّ ومنها ترجمات “كالتّيارات السّياسيّة في إيران” لسعيد برزين، “ونقد الذّات” لحسين عليّ منتظريّ وغيرها.

نحن بحاجة إلى قراءة البنى الأخرى المختلفة عنّا في العرق والثّقافة، وإعادة تفكيكها وقراءتها، وفهم طرق تفكيرها وغاياتها، ومنها إسرائيل وإيران، فلا ينبغي أن نكون دوما ساحة حرب كما ذكرت في مقالتي السّابقة “المجال الجويّ العربيّ والحروب العبثيّة”، أو ساحة استقبال للمعرفة وتدوير لها، كما لا ينبغي أن نتوقف عند هذه الخطابات والبيانات الشّعبويّة والمهيّجة، وكأنّ الحرب كرة يتلاعب بها في ملعب ما، فهي لا تضّرّ المتحاربين فقط، بل يعمّ شررها الكلّ، ولا ترحم قريبا أو بعيدا، والحرب الحاليّة إن استمرّت لن تتضرّر بها إيران فحسب، بل نحن سنتضرّر أيضا إن لم يتصدّى لها العقلاء، وهذا يجعلنا أن نفتتح أكثر على الدّراسات الجادّة، البعيدة عن الأدلجة أيّا كان نوعها، وأن ينفتح الإعلام عليها، لتزاحم غيرها ممّا لا قيمة وفائدة منه، ممّا يدمر المجتمعات، ويقود الشّعوب إلى الصّراع والاحتراب.

السابق
المجال الجويّ العربيّ والحروب العبثيّة
التالي
حوار حول العقلانيّة في الفكر الدّينيّ وعلاقتها بالإلحاد مع صادق جواد سليمان (ت: 2021م)
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً