جدليّة العلاقة بين العلم والدّين قديمة المنشأ، ازدادت ظهورا في القرنين الميلاديين الأخيرين بعد صعود العلم التّجريبيّ، وتطور الفيزياء الحديثة، ولهذا أرى عبارة “العلاقة بين العلم والدّين” عبارة ليست دقيقة، والأولى أنّ نقول “العلاقة بين العلم والفلسفة”؛ لأنّ التّصور الدّينيّ أيّا كان مسماه، وأيّا كان مصدره حسب المعتقد الدّينيّ والشّعبيّ لا يخرج عن فلسفة التّصور الماورائيّ، وتصور الإله، وآلية التّواصل معه، وفلسفة العلاقة بين المخلوقين لبعضهم بمنازلهم، ثمّ العلاقة مع الآخر المختلف في الجنس أو النّوع أو الفصل، وهذه جوانب فلسفيّة في الجملة.
ثمّ إنّ العلاقة بين العلم والفلسفة هلاميّة أيضا فضلا عن الدّين، وذلك لأنّه “بالرّغم من ميلاد العلم يعود إلى ثلاثة قرون مضت؛ إلا أنّه ما يزال حتى اليوم مصطلحا غامضا تتضارب حوله الآراء، هذا التّضارب لا يعود إلى العلماء بالطّبع؛ بل إلى كثرة الأنشطة الإنسانيّة الّتي تحاول الانتساب إلى العلم…. بمعنى القول إنّ ما يميز العلم عن سائر المعارف الأخرى هو المنهج وليس المحتوى المعرفيّ”[1].
ولعلي أقترب هنا مثلا من المنظور الإسلاميّ أو القرآنيّ على سبيل الخصوص، وذلك لأنّ العلم ذاته له مفاهيمه وتصوراته المطلقة، ومصاديقه الظّرفيّة، فعندنا على الأقل ثلاثة أنواع من العلوم: العلم اللّغويّ الشّموليّ، والعلم المنطقيّ، والعلم التّجريبيّ، بغض النّظر هل يدخل الجميع في مفهوم المعرفة باعتبارها أوسع أو أضيق، أو يخرج العلم التّجريبيّ ليكون مستقلا بذاته، فهذا مبحث آخر لا علاقة له بموضع بحثنا.
وأصل العلم لغة من العلامة، أو هو “إدراك الشّيء بحقيقته”[2]، وقيل “هو المعرفة النّظاميّة المنسقة المبنيّة على الملاحظة والاختبار”[3]، ووروده في القرآن أقرب إلى مطلق الإدراك كقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة/ 10] من حيث الإثبات، أو {وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال/ 60] من حيث النّفي، ولهذا أسقط الجانب المنطقيّ على مفهوم العلم حيث أصبح في دائرة اليقينيات أو قريب منها إذا أطلق في القرآن، كمثل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة/ 30]، وجاء بمفهوم “مجموع مسائل وأصول كليّة تجمعها جهة واحدة”[4]، كما في قوله تعالى ضمنا: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشّعراء/ 197].
بيد أنّ إطلاق العلم حديثا “على العلوم الطّبيعيّة الّتي تحتاج إلى تجربة ومشاهدة واختبار، سواء كانت أساسيّة كالكيمياء والطّبيعة والفلك والرّياضيات والنّبات والحيوان والجيولوجيا، أو تطبيقيّة كالطّب والهندسة والزّراعة والبيطرة”[5]، فهذه في القرآن أقرب إلى الآية، ومنها فهم قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت/ 53].
وعلى ما تقدّم لا توجد لدينا إشكاليّة في العلم بمفهومه اللّغويّ أو المنطقيّ أو الفنيّ التّقنيّ، فالأديان والأساطير والعادات والتّقاليد والقوانين المجتمعيّة في ذاتها علم تحتوي علوما، فلا يدخل في مفهوم “العلاقة بين العلم والدّين”، وإنّما الجدليّة في العلم التّجريبيّ، حيث “أنّ ما نعنيه بالعلم هو العلم الطّبيعيّ أو التّجريبيّ وليس العلم الرّياضيّ أو امتداداته المنطقيّة، رغم الاعتراف الكامل بأنّه لولاه ما حققت العلوم الطّبيعيّة أدنى تقدّم، ولوقفت عند حدود الوصف الكيفيّ البسيط”[6].
فأهم الآراء هنا ثلاثة: فريق يرى أنّ الدّين (الحق) لا يتعارض مع العلم التّجريبيّ، ويدخل في دائرة الإعجاز، “ولئن كان كتاب الله وفي كلّ العصور معجزة بيانيّة، وبالخصوص في زمن التّنزيل الّذي كان العرب فيه في القمّة من البيان، وهو قد تحدّى النّاس أجمعين؛ فإنّ معجزات آياته العلميّة خالدة أيضا، وهي معجزات تتكشّف وتتزايد على مر العصور”[7].
وقيّدت هذا الفريق بالحق لاختلاف الأديان، مثلا اهتم المسيحيون بمعجزة الكتاب المقدّس، وكذا عند المسلمين، بيد أنّ المسلمين يرون التّناقض بين آيات الكتاب المقدّس والعلم وارد لأنّه دخل فيه التّحريف[8]، والعكس صحيح حيث أنّ القرآن من وضع محمّد عند المسيحيين، وأدخل البعض زيادات النّصوص كالرّوايات عند المسلمين.
لهذا نجد هذا الفريق حال التّعارض الظّاهري يضطر إلى التّأويل، كأيام الخلق في سفر التّكوين من العهد القديم، أو كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق/ 36]، حيث اضطروا إلى تأويل اليوم من المعنى الظّاهريّ القصير المحدد بفترة زمنيّة قصيرة، إلى الحقبة الزّمنيّة قصرت أم طالت، حتى لا يتعارض مع العلم.
وأحيانا يضطرون إلى التّغيير حال تغير النّظريّة العلميّة، كقوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف/ 4]، حيث لم يعتبر بلوتو كوكبا مستقلا، ولهذا فرّق البعض بين النّظريّة والحقيقة العلميّة، فشددوا في إسقاط النّظريّة على الكتاب المقدّس أيّا كان خلاف الحقيقة العلميّة إلا من باب الاستئناس.
وأمّا الفريق الثّاني فيرى لا علاقة بين الدّين بالمفهوم النّصيّ والعلم؛ لأنّ النّصوص الدّينيّة نزلت في حقبة تأريخيّة معينة، والعلوم التّجريبيّة جاءت في فترة لاحقة، خصوصا عند المسيحيين والمسلمين، وإن وجدت نصوصا مقدّسة قريبا كما عند الكتاب الأقدس للبهائيين أو كتاب مورمون عند المورمون المسيحيين، وكلاهما في القرن التّاسع عشر الميلاديّ، إلا أنّها ظرفيّة أيضا، فقد تطور العلم في القرن العشرين، فهؤلاء يفصلون هنا بين الدّين والعلم، بغض النّظر عن إيمانهم بفكرة الدّين، فهم يرون على الأقل أنّ النّص الدّينيّ حين حديثه عن بعض جوانب العلم خاطب عقليّة وبيئة لها أساطيرها ومعرفتها العلميّة كالبرق عبارة عن مطرقة تضرب بها بعض الملائكة، والشّهب عبارة عن رجم للشّياطين، فتطور العلم كان تطورا طبيعيّا، حيث لو نزل هذا النّص المقدّس حاليا لتحدّث عن العلم بظرفية نزوله، فيقرأ هذا النّص في خطّه الظّرفيّ لا الإطلاقيّ.
وهناك فريق ثالث يرى أنّ الكتب السّماويّة ليست كتبا جاءت تقرر جوانب علميّة تجريبيّة، ولكنّها جاءت لتحقيق الهداية بين البشر، إلا أنّ هذا الفريق لازم التّوسط، حيث رأى ليس من المصداقيّة البحث في الحقائق العلميّة وإنزالها على النّصوص المقدّسة باسم الإعجاز، فهذا ليس من غايات النّص المقدّس، إلا أنّه لا يمنع من الاستئناس في الجمع بين الآيات وما توصل إليه العلم، ليس من باب المعجزة أو الحقيقة، وإنّما من باب دفع الغاية من النّص وهو تحقيق الهداية الإلهيّة للبشر، وخلاصة هذا الفريق أنّ “القرآن غايته الهداية والإعجاز، وإعجازه لا يكون إلا من جنس ما عرف به زمن النّزول، ويكفي أنّه لا يعارض العلم”[9].
ومن المتقدّمين من عارض الإسقاط العلميّ كالشّاطبيّ [ت 790هـ] وذلك “لأنّ الشّريعة الإسلاميّة شريعة أميّة؛ لأنّ الله بعث بها رسولا أميّا إلى قوم أميين كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة/ 2] …. فيلزم أن تكون الشّريعة في معهودهم ومستواهم”[10]، ومن المتأخرين محمّد المراغيّ [ت 2945م] حيث أنّ “النّظريات الّتي لم تستقر لا يصح أن يردّ إليها كتاب الله”[11].
وبطبيعة الحال أنّ موقف الفريق الثّالث في ذاته ينقسم إلى رافض وبشدّة أي إدخال للعلم ونظرياته في القرآن مثلا كمحمود شلتوت [ت 1963م] ومنّاع القطان [ت 1999م]، وبين موافق بشروط كعبد العظيم الزّرقانيّ [ت 1948م]، ومحمّد أبو زهرة [ت 1974م].
وعلى كلّ حال نخلص أنّ الإسقاط من حيث المسمى لا يتوافق إذا حددنا العلم بالمفهوم اللّغويّ أو المنطقيّ أو التّقنيّ، إذا أنه أقرب إلى الجانب الفلسفيّ الواسع، أمّا إذا حددناه بالمفهوم التّجريبيّ؛ ففي نظري لا علاقة بين النّص الدّيني والعلم التّجريبيّ، لأنّ النّص الدّينيّ جاء لتحقيق الهداية، وبناء فلسفة مطلقة مع الخالق والمخلوق والكون، ولأنّها نصوص ظرفيّة، لهذا سنجد السّياق التّفسيريّ والإسقاطيّ ذاته لا يخرج عن هذه الظّرفيّة في تحقيق وإنزال فهومات النّص ومصاديقه، فيكون الإنزال التّجريبيّ ذاته أقرب إلى الاستئناس والإنزال الظّرفيّ، لا لإدخال النّص المقدّس أيّا كان ليكون حاكما على العلم.
نشر في مجلّة مواطن الالكترونيّة، عدد 43، ص: 8 – 11.
[1] محمّد: بدوي عبد الفتاح؛ فلسفة العلوم، ط دار قباء للطّباعة والنّشر والتّوزيع، مصر/ القاهرة، لا تأريخ، ص: 39.
[2] للمزيد يُنظر: مصطفى: إبراهيم، والزّيات: أحمد حسن، وآخرون؛ المعجم الوسيط، ط المكتبة الإسلاميّة للطّباعة والنّشر والتّوزيع، تركيا/ استانبول، لا تأريخ، ص: 624.
[3] الحسن: لبنى عبد العزيز محمّد؛ اتجاهات التّفسير العلمي للقرآن الكريم: دراسة تحليليّة نقديّة، ط اليقظة، السّودان/ الخرطوم، الطّبعة الأولى، 1433هـ/ 2012م، ص: 21.
[4] مصطفى: إبراهيم، والزّيات: أحمد حسن، وآخرون؛ المعجم الوسيط، مرجع سابق، ص: 624.
[5] المرجع نفسه، ص: 624.
[6] محمّد: بدوي عبد الفتاح؛ فلسفة العلوم، مرجع سابق، ص: 42.
[7] السّعديّ: داود سليمان؛ أسرار الكون في القرآن، ط دار الحرف العربيّ، لبنان بيروت، الطّبعة الثّانية، 1420هـ/ 1999م، ص: 14.
[8] ينظر مثلا: المشوخيّ: عبد الله؛ موقف الإسلام والكنيسة من العلم، ط مكتبة المنار، الأردن/ الزّرقاء، الطّبعة الأولى، 1403هـ/ 1982م، ص: 170 – 171.
[9] الحسن: لبنى عبد العزيز محمّد؛ اتجاهات التّفسير العلمي للقرآن الكريم: دراسة تحليليّة نقديّة، مرجع سابق، ص: 55.
[10] المرجع نفسه، ص: 46.
[11] المرجع نفسه، ص: 66.