جاءت الشّعائر بالعديد من الأدبيات والّتي تدور وفق قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة/ 6]، وهي تدور وفق ثلاثة مقاصد: مقصد التّوحيد وتعظيم شعائر الله تعالى، ومقصد علّة الاستجابة ولو مع عدم ظهور العلّة المطردة كما عند الأصوليين، ومقصد الحِكم الظّاهرة كالطّهارة والنّظافة والنّظام والتّعاون والوحدة والرّياضة، ونحو ذلك ممّا يُدرك بالتّأمل والتّدبر.
ونحن في هذا المقال نركز على المقصد الأخير، ونركز خصوصا على الصّحة البدنيّة والنّفسيّة من خلال العبادات والشّعائر الدّينيّة، ونأخذ بعض النّماذج للتّدليل لا للحصر.
ولنلتفت بداية إلى الطّهارة، والمراد من الطّهارة قسمان: العامّة والخاصّة، أمّا العامّة فطهارة البدن والثّوب والمكان والآلة والوسيلة.
فأمّا طهارة البدن فهي طهارة معنويّة وظاهريّة، والمعنويّة طهارة القلب من الحقد والحسد والغلّ والكراهيّة، وطهارة اللّسان من الكذب والغيبة والنّميمة والبهتان، وطهارة اليد من إيذاء الآخر والسّرقة ونحوه، وطهارة سائر الجوارح من المعاصي والكبائر.
ولا شك هذه الطّهارة المعنويّة لها أثر كبير في الصّحة النّفسيّة والبدنيّة للإنسان، فتوّلد فيه استقرارا نفسيّا، وهذه يكون دافعا له نحو الإبداع والانتاج والعمل، كما تخلّصه من العديد من الأمراض البدنيّة النّاتجة عن السّلوكيات الخاطئة، وهذا بدوره يكون وقاية له من العديد من الأمراض البدنيّة الّتي يمكن الوقاية منها.
وأمّا طهارة البدن الظّاهريّة فكتقليم الأظافر، وإزالة الشّعر في بعض الأماكن كالعانة، وكالطّهارة بعد قضاء الحاجة، وحسن الاستبراء والاستنجاء، وغسل اليدين بعدها وبعد النّوم وقبل الأكل والنّوم، وكالسّواك بعد النّوم وقبل الوضوء، ونظافة البدن كاملا بعد العمل وقبله وعند ملاقاة النّاس والاختلاط بهم، والبعد بالبدن عن أماكن انتشار الأمراض المعديّة وتجنبها، وفي هذا أدبيات عديدة عن النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم -، كرواية: لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسّواك عند كلّ صلاة.
والطّهارة الظّاهريّة كذلك لها تأثير كبير على الصّحة البدنيّة والنّفسيّة للفرد، فإنّها طريق للاستقرار والهدوء النّفسيّ، كما أنّها طريقة وقائيّة من العديد من الأمراض ومسبباتها من الجراثيم والميكروبات.
وأمّا طهارة الثّوب فالمراد منه الطهارة المعنويّة والماديّة، فأمّا المعنويّة فكقوله تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف/ 26]، وريشا من التّجمل، وستر السّوأة، والتّزين به حسب العرف الزّمانيّ والمكانيّ، وهذا مقيّد بقوله سبحانه: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف/ 31]، ولا شك أنّ طهارة الثّوب والتّجمل به يعطي بُعدا نفسيّا، في استقرار النّفس داخليّا، وقبول النّاس له، فضلا عن الجانب الصّحيّ، وفي الوقت نفسه عدم الإسراف يعطي بعدا فرديّا ومجتمعيّا، إذ يخلّص الإنسان من كبرياء الذّات والتّعاليّ، والّذي يجعله رهين الدّيون والتّرف، ممّا يؤثر على صحته النّفسيّة مستقبلا، وهكذا في الطّهارة الماديّة للثّوب، إذ يخلّص الثّوب من الأوساخ والجراثيم والميكروبات، وتتحقق به الزّينة والجذب النّفسيّ للّذات والآخر.
وأمّا طهارة المكان فليس بالشّريطة مكان صلاته: بل أي مكان يعيش فيه، ويظهر هذا مثلا من رواية: الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الطّريق عن الأذى، والحياء شعبة من الإيمان، فلا معنى لطهارة البيت والمسجد، بينما الطّريق والسّوق والخدمات لا يُلقي لنظافتها بالا، فيبصق في طريقه، ويلقي الأذى في سوقه ومن نافذة سيارته، فطهارة المجتمع من طهارة البدن، وطهارة البدن من الإيمان بالله وتعظيم ما خلق، وهذا يتحقق من داخل الذّات قبل أن يكون قوانين تسن، وأنظمة تشرّع، فالحفاظ على نظافة المكان والسّبق فيه تعظيم لله سبحانه وتعالى وتقديس له.
وكذا الحال في طهارة المركوب والآلة والوسيلة، ونحو هذا رواية طهارة الدّابة قديما: نظّفوا مرابضها، وامسحوا رغامها، ويدخل في عموم قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النّحل/ 8]، فنظافة السّيارات ومكان ركوب الحافلات والقطار وأي وسيلة أو منفعة تستخدم كدورات المياه والمنتزهات ونحوها فهذا نابع من الإيمان بالله وتعظيم خلقه، ويسقط أثره الصّحيّ نفسيّا وماديّا على الفرد والمجتمع والإنسان ككل.
وأمّا الطّهارة الخاصّة فهي المرادة من قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة/ 6].
فغسل الوجه وما يدخل فيه من مضمضة واستنشاق يتبعه أثر صحيّ في حفظ هذه الجوارح من الميكروبات والرّوائح الكريهة، وتحفظ اللّثة من التّقيح، والمضمضة تخلّص بقايا الفم من الفضلات والّتي تؤثر على الأسنان، ويساعد في نظافة العينين وخلايا الجلد، وكذا الحال في غسل اليدين والأرجل ومسح الرّأس والأذنين، وطلب غسل ظواهر هذه الأشياء؛ لأنّ المرء بها يواجه ويلامس ما عداه من المادّة حديثا ومصافحة ولمسا ومشيا، فتكون عرضة للجراثيم والأوبئة، لهذا كان تكرارها أكثر من مرة من الحكمة في النّظافة والطّهارة بمكان.
ومع الأثر الصّحيّ الماديّ إلا أنّ للوضوء أثر نفسيّ أيضا، لهذا يتوضأ المرء قبل النّوم لينام مرتاح البال فيقيه شرّ الكوابيس وسوء الأحلام، وإذا استيقظ توضأ ليبدأ حياته بنشاط وهمّة واجتهاد، وإذا غضب أو صابه همّ فرغ إلى الوضوء لما له من تأثير نفسيّ، كذلك إذا قابل ضيفا أو خرج لمقابلة صديق أو جماعة، فيضفي في نفسه السّرور فيسقط أثره في قبول الآخرين له.
والحديث حول آثار الوضوء الصّحيّة والنّفسّية يطول، وما ذكرناه إشارة كافية في المقام، ولهذا أبحاث استقرائيّة وعلميّة، وهكذا الحال في الغسل من الجنابة، لما يحدث من انكسار طبيعيّ في الإنسان، فهنا هذه الطّهارة تجدد في النّفس النّشاط، فتتفتح مسامات الجلد، ويتخلص من الجراثيم، وتنشط الدّورة الدّموية في الشّرايين والأوعية.
وأمّا قضيّة التّيمم فاشترطها القرآن الكريم بالطّهور، والقدرة على الحصول عليه، وبمقدار ضرب الظّاهر فقط، وليس المراد منه المبالغة والتّمرغ، فيكون هذا حال عدم القدرة في الحصول على الماء، فيتحقق به المقصد التّوحيديّ والشّرائعيّ التّعظيميّ والامتثاليّ، على أنّ للتّراب أيضا فوائد وقائيّة من بعض الجراثيم شريطة أن يكون طاهرا، وصعيدا طيّبا، والمسألة بحثيّة قابلة للنّظر والتّدبر والتّفكر.
وكذا الحال إذا أتينا إلى الصّلاة، ويظهر هذا من قوله سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التّوبة/ 103].
فالصّلاة بداية لها جانب روحيّ عظيم وكبير، ممّا يحدث استقرارا كبيرا في النّفس، فتقوده إلى الطّمأنينة، ممّا يؤثر على الجانب العقليّ، فيكون نشيطا مقيّدا لشهواته ونزواته، ولهذا يقول سبحانه: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت/ 45].
وأمّا الأثر الماديّ فهو واضح جليّ، فحركات الجسم في الرّكوع والسّجود والقيام والجلوس للتّشهد لها آثار بدنيّة واضحة على المفاصل وأجزاء الجسم وتحرّك الفقرات، وفي السّجود يساعد على امتلاء الشّرايين بالدّم ممّا يؤثر على الجهاز العصبيّ، فهي رياضة بدنيّة تحرّك جميع أعضاء الجسد بكل هدوء وسكينة، وهذا لا شك في فوائده وآثاره.
وهكذا لو نزلنا إلى جميع أحكام الشّريعة، وأمّا ما طلب من سنيّة شرب الماء على ثلاث جرعات كما في الرّواية عن النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – فليس المراد منه حصر الشّربات، ولكن المراد عدم شرب الماء دفعة واحدة، وهذا حدث عندهم ضرره بالاستقراء، خاصة عند تجمع الماء والأكل ممّا يحدث بعض الانسداد، فيكون التّأني وتوزيع الجرعات منبها للكبد، ومتلائما مع الأكل، وهذا أثره الصّحي واضح بلا شك.
هذه بعض جوانب الحديث في هذا، وإن كان التّأمل فيه بحر يصعب حصر بيانه، وللعقل والعلم والبحث مساحة واسعة من التّدبر والتّأمل والتّفكر والنّظر، ولله في شرائعه وخلقه مقاصد وشؤون!!
مجلّة الصّحة والسّلامة 1439هـ/ 2018م