جريدة عمان 1444هـ/ 2023م
احتفاء بمناسبة الذّكرى الثّالثة لتولّي السّلطان هيثم بن طارق آل سعيد – يحفظه الله – مقاليد الحكم في عُمان، والّتي تصادف الحادي عشر من يناير، كان البيان الصّادر عن ديوان البلاط السُّلطانيّ، وفي مفتتحه “احتفاءً بمناسبة يوم الحادي عشر من يناير، يوم تولّي حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظّم – حفظه الله ورعاه – مقاليد الحكم في البلاد؛ تفضّل جلالته – أبقاه الله – وأسدى أوامره السّامية بتقديم دعم مالي للفرق الخيريّة التّابعة للجان التّنميّة الاجتماعيّة بجميع الولايات، وتكريم المتطوعين العاملين فيها، وكذلك تقديم دعم مالي للجمعيّات الخيريّة الدّاعمة لجهود وزارة التّنمية الاجتماعيّة؛ تقديرًا من لدن جلالته – أعزّه الله – للجهود والأدوار الّتي يقومون بها في خدمة المجتمع”.
ولا شك أنّ هذه التفاتة مهمّة وحكيمة في الوقت ذاته، ونحن في مرحلة عصيبة يمر بها العالم أجمع من النّاحية الاقتصاديّة، أشرت إليها بإسهاب في مقالي السّابق في جريدة عُمان حول “العام الجديد واستشراف المستقبل” وممّا قلتُ فيه: “علينا أن ندرك أنّ الإنسان قبل البنيان، فالمجتمع بحاجة إلى طرق وجسور وناطحات سحاب وغيرها، ولكن هذا لا يعني إهمال الإنسان كفرد، فالعدالة الاجتماعيّة تؤدّي إلى تدوير المال، وأن لا يكنز سلبيّا أي يدور بين فئة معينة، ممّا تتولد طبقيّة لا يهمّها مستقبلا الوطن بقدر ما يهمّها ذواتها ومصالحها الشّخصيّة، لهذا لابدّ ابتداء من تحقّق الأمن الشّهوانيّ [الماديّ] للإنسان بشكل إيجابيّ، بمعنى أن يكون هناك مستوى يحصل عليه كلّ فرد يحقّق كرامته الإنسانيّة، وهذا بدوره يحرّك المال العام، وينشّط اقتصاد السّوق، ويضعف من معدّلات الجرائم كالقتل والانتحار، والأمراض النّفسيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة”، والفرق والجمعيّات الخيريّة تساهم في هذا بشكل كبير جدّا، إذا ما أحسن التّوظيف.
كما لي مقالة قريبة في جريدة عمان ذاتها بعنوان “كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم” أشرت فيها إلى أهميّة تنظيم العمليّة في هذا الأمر، وذلك أنّ من “أكبر أشكاليتنا في العمل التّطوّعيّ غياب المركزيّة، والرّقابة الصّارمة في ذلك، ممّا ولد في العمل التّطوعيّ عشوائيّة التّوزيع، والفساد الماليّ ذاته، وعدم وجود رؤية واضحة في ذلك”.
ولكي أبتعد عن تكرار ما ذكرت بصورة حرفيّة، إلّا أنني مدرك تماما كما يدرك الجميع لأهميّة الفرق والجمعيّات الخيريّة، وما تكريم جلالته إلّا توكيد واضح لهذا الدّور الاجتماعيّ والإنسانيّ، بيد أنّني أيضا أؤكد في الوقت ذاته على أهميّة المركزيّة من خلال تجاوز كثرة تشعب الوزارات إلى نظام الهيئات، فقلّة الوزارات حالة صحيّة، وكثرة الهيئات قليلة العدد – أي العاملين فيها -، مع وضوح أهداف عملها ورؤيتها في ذلك حالة صحيّة أيضا، وهنا أضرب بمثالين: الأول لأسرة كبيرة تسكن في قصر واحد، تضمّ أسرا متفرعة، ومتداخلة في الوقت ذاته، فهذه أيّ فساد يحدث فيها يصعب كشفه والتّعامل معه، كما يسهل حدوث فيها ذلك، ويقل فيها الإنتاج، كما يكثر فيها الوظائف المقنغة، وتهمل فيها العديد من الطّاقات، ويعمّ فيها المحسوبيّات.
والمثال الثّاني لأسرة صغيرة العدد، فهذه يسهل كشف الفساد فيها، وحسن التّعامل معه، كما تتضح فيها الرّؤية عن التّشعب والضّبابيّة، وتستغل فيها العديد من الطّاقات، فمثال الوزارات عندنا كمثال الأسرة الكبيرة، يغلب فيها إهمال الطّاقات، وكثرة المحسوبيّات، وتشعب الرّؤية، ممّا يؤثر على الإنتاج بشكل كبير.
لهذا في نظري علينا أن نفكر بنظام الهيئات أكثر من تفكيرنا بنظام الوزارات، شريطة أن لا تكون الهيئات نسخة أخرى من الوزارات حسب الصّورة الّتي أشرت إليها آنفا، وهذا ما تعانيه الفرق والجمعيّات الخيريّة، من تداخل اختصاصاتها في وزارات وفق مكاتب ودوائر فيها الكثير من التّرهل، ولولا الشّراك الشّعبيّ والمجتمعيّ لفقدت الكثير من مصداقيّتها، ولعمّها الفساد الماليّ كما عمّ غيرها، ومع هذا حتّى وهي على هذه الصّورة التّشاركيّة بين المجتمع وجهات الاختصاص؛ إلا أنّها أيضا تعاني من سوء تصريف واضح، مع دورها الاجتماعيّ الّذي لا ينكر.
ولكوننا نمر بحالة اقتصاديّة عصيبة، الالتفاتة إليها حاجة ملحة، لتساهم في تدوير المال بشكل إيجابيّ، بيد أنّ المشكلة اليوم لا تتوقف عند الحالات السّابقة، لتدني الرّواتب، أو وقوع الإنسان في دين يجعله عاجزا عن السّداد، أو بحاجة إلى مساعدة لعلاج أو دراسة أو زواج، فالوضع اليوم تأزم بشكل كبير جدّا، فعندنا اليوم كثرة الباحثين عن عمل، بجانب كثرة المسرحين بسبب الوضع الاقتصاديّ العام من جهة، ولما أصاب العالم من جائحة كورونا من جهة ثانية، والبطالة لكثرة المخرجات من جانب، وضعف توفر فرص العمل من جانب آخر؛ تزداد وتتضخم عاما بعد عام.
لهذا لابدّ من الجمع بين الجانب الحقوقيّ وبين الجانب التّعاونيّ، ولأنّ الفرق والجمعيّات الخيريّة تساهم في تحقّق الجانب التّعاونيّ، إلّا أنّ هذا أيضا يسهم في تحقّق الجانب الحقوقيّ، حتّى لا تكون هذه الفرق والجمعيّات أداة أخرى للتّسول المقنع، أو توظيف المال بشكل سلبيّ، بينما يمكن عن طريقها توظيفه في خلق عشرات الوظائف للباحثين عن عمل، كما يمكن تأسيس بها عشرات الأسواق والمجمعات والمحلّات والمصانع الّتي تخلق وظائف بشكل طبيعيّ، ويمكن بها أيضا تحقّق الأمن المعيشيّ، بمعنى أنّه قد يخلق وظيفة للباحث، أو يطلب منه خلق وظيفة قد تجرّ له ربحا ليس مجزيا في الابتداء، فتقوم هذه الجمعيّات وغيرها على خلق تأمين له شهريّ يحقّق له العدالة الاجتماعيّة حتّى يعتمد على نفسه، فتكون الفرق والجمعيّات الخيريّة أدوات إيجابيّة في المجتمع في الدّفع بعجلة السّوق، وتحريك الاستثمار والتّنميّة، وتحقّق الأمان المعيشيّ، المؤدّي إلى العدالة الاجتماعيّة.
كما تسهم أيضا بشكل كبير في الدّفع بالسّياحة، وتشجيع المهرجانات السّنويّة، أو المرتبطة بالمناسبات الدّينيّة والوطنيّة، من خلال تشجيع المواهب والإبداعات الفرديّة، والّتي بحاجة إلى المال لإخراج مواهبها، واستثماره إيجابيّا في السّياحة، وبالتّالي أيضا يحقّق هذا استثمارا لأموال الفرق والجمعيّات الخيريّة، وتصريفه بشكل استثماري عن طريق خلق الوظائف المرتبطة بالمواهب والإبداعات الفرديّة، ومشكلة السّياحة عندنا تلك الحساسيّة المفرطة من الشّراك مع المواهب والإبداعات الفرديّة، وميلها بشكل كبير إلى التّراتبيّة الرّسميّة، بينما الزّائر للدّول المتقدّمة سياحيّا يجد حضور المشاركات الفرديّة بشكل كبير ومتنوع جدّا، ويسهم بشكل كبير في نجاح المواسم السّياحيّة، بل وتنمية الأماكن السّياحيّة بشكل مستمر.
وهناك بلا شك جوانب عديدة مرتبطة بالفرق والجمعيّات الخيريّة، لا يمكن التّطرق إليها في مقال قصير كهذا، ولكن ما ذكرته من باب الأوليات، للواقع الافتصاديّ الّذي نعيشه حاليا، وحتّى لا نخلق فجوات اجتماعيّة، يكون تأثيرها سلبيّا على الأمن الوطنيّ في المستقبل، فالاقتراب من العدالة الاجتماعيّة، والسّعي في تحقّقها أكبر حافظ للأمن الوطنيّ، وبما أنّ الفرق والجمعيّات تسهم في ذلك بشكل كبير؛ لهذا هي بحاجة إلى هيئة أو مؤسّسة حاضنة، تعالج قضاياها فكريّا واقتصاديّا واجتماعيّا واستثماريّا، وحتّى لا تتجه سلبا يهدّد الأمن الوطنيّ ذاته كما حدث في دول عربيّة وغيرها، وحتّى أيضا لا تسهم في التّسول المقنع عن طريق عشوائيّة التّوزيع، وحتّى لا تكون مسكّنا عن الجوانب الحقوقيّة للفرد في المجتمع، هذه الهيئة تستطيع من توظيفها إيجابيّا عن طريق مركزيّة الدّولة أولا، ثمّ عن طريق المحافظات فالولايات والقرى، وهذا لا يعني عدم وجود تعدديّة في ذلك، وتشجيع الشّراك المجتمعي في خلق فرق وجمعيّات في صور مختلفة ومتعدّدة، فيما يتعلّق مثلا بالطّفل والمرأة والإعاقة وكبار السّنّ والفنّ والبحث والابتكار وغيرها، فهذا بلا شك يخلق تعدديّة في المجتمع يسهم في رقيّة وتطوّره وتقدّمه، وما ذلك عن عُمان ببعيد، إذا ما أحسن التّدبير.