المقالات النقدية

أحداث سوريا وحقّ تقرير المصير

مجلّة الفلق الالكترونيّة، 17 ديسمبر 2024م

الحديث عن سورية اليوم ليس حديثا سهلا، والّذي يتحدّث من الخارج ليس كالّذي يعايش الوضع، ولا شكّ أنّ وجود فراغ في السّلطة ليس هينا، ويجعل أوضاع البلد ليست مستقرّة، كما أنّ آثار التّغيير لا تستقرّ في يوم وليلة، وقد قلت في مقالة لي في جريدة عمان الأسبوع الماضي، والّذي بعنوان “أبو محمّد الجولانيّ وتطوّر مفهوم الدّولة في الحركات الجهاديّة”: “الّذي أرجو أن يبقى هذا النّظام عند مبادئه، وأن يحقّق دولة مدنية تستوعب الجميع، وأنّ لا تكون مجرد شعارات للوصول إلى الحكم، ثمّ تتحوّل إلى دولة لاهوتيّة ماضويّة مغلقة ترفض التّعدّديّة، وتمارس الاستبداد الفكريّ والدّينيّ، فهذا يؤدّي – لا قدّر الله – إلى صراعات أهليّة، كما أرجو وجود دستور يحمي الحريّات، ويعنى بالإنسان السّوريّ، ويكون هو مدار التّنميّة، وأن يكون مداره الولاء للوطن وليس لاتّجاهات خارجيّة، فآن لهذا الشّعب أن تحقّق كرامته وحقوقه في بلده، فسورية لها فضل كبير على العالم الإنسانيّ والعربيّ قديما وحديثا، فهي بلد السّريان، لغة العلم والمعرفة قبل العربيّة، كما أرجو لها أن تتخلّص من الأفكار المتطرّفة، وأن تعنى بالإنتاج والعلم والإبداع والفنّ كما كانت وستكون بعونه تعالى”.

ثمّ لا نريد أن نكون أوصياء على المجتمع السّوريّ، فمن حقّ هذا الشّعب أن يهنأ ببلد يحتويه، ومن حقّه أن يعالج ذاته بذاته، فلسنا بأعلم منه بحاله، والّذي نريده لا أكثر أن نحترم قراره، وأن نسعد بأيّ إحياء واستقرار فيه، فمن أبجديّات قوانين قيام الدّول الوطنيّة واستقرارها هو حقّها في تقرير مصيرها، وهذا ما نصّ عليه ميثاق الأمم المتحدة، كما ينصّ على حريّة الشّعوب في “تقرير مركزها السّياسيّ، وحريّته في السّعيّ لتحقيق نمائها الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثّقافيّ”، وهذا يتناسق كليّا مع أحقيّة الشّعب السّوريّ في حقّه في تقرير مصيره، واختيار النّظام الّذي يريده.

لهذا في نظري، علينا أن نترك المرحلة للشّعب السّوريّ أن يقرّر كلمته، وأن نحترم قراره، كأيّ شعب آخر في العالم، وهو يعاني اليوم الأمرين، خلاصه من وضع استبداديّ عانى منه لأكثر من نصف قرن، حيث كان مستبدّا شموليا، وكما قيل بمقدار تمدّد  وقوّة الاستبداد تكون الآثار المترتبة للخلاص منه أشدّ أثرا سلبيّا، من دماء وتهجير وسجن ونفي، وهذا ما حدث في سوريا، فمنذ أحداث 2011م وحتّى اليوم، لم يكن هناك احتواء حقيقي للمطالبات الإصلاحيّة، والّتي لم يستوعبها المستبدّ، فتطوّرت إلى الجيش الحرّ، لكنّها ما لبثت أن انحرفت، فركبت موجتها مخابرات ودول خارجيّة، وفي الوقت نفسه تمكنت داعش وبعض الجماعات المتطرّفة أن تركب موجتها، فلم تكن هناك رؤية إصلاحيّة واضحة، بقدر ما كان هناك غرس لتوجهات يمينيّة متطرّفة، ممّا أدّى أن يتحالف مع النّظام المستبدّ ذاته مخابرات ودولة خارجيّة، فأصبحت سوريا ليست دولة وطنيّة خالصة، بل أصبحت ميدانا لصراعات خارجيّة وطائفيّة معا، فالمعارضة محسوبة على السّنّة، والنّظام محسوب على العلويين (النّصيريين) الشّيعة، كما أنّ المعارضة محسوبة على التّحالف الغربيّ والتّركيّ وبعض الدّول العربيّة والخليجيّة، والنّظام محسوب على التّحالف الشّرقيّ المتمثل في روسيا وإيران، فليس هناك أيّ ضوء لوطنيّة سوريا ولو من بعيد يمكن التّمسّك بخيطه، لعلّ التّغيير والإصلاح يكون بأقلّ التّكاليف، ولكن كما أسلفتُ يصعب تحقّق ذلك إذا تمدّد الاستبداد واستحكم جميع مفاصل الدّولة.

والأمر الثّاني مستقبله المجهول أمام واقع ثوريّ وتغييري أعطاه شيئا من الأمل واقعا، لكنّه أيضا يحمل شيئا من التّوجس والخوف مستقبلا، فسوريّة كدولة وطنيّة هي واحدة كذات أيّ دولة أخرى في العالم، لكنّها تحمل أيضا تعدّديّة وانتماءات مختلفة، ففيها أعراق مختلفة من العرب والسّريان والآراميين والكرد والأرمن والشّركس والتّركمان والشّيشان والرّوم وغيرهم، وهؤلاء يحملون لغات عرقيّة مختلفة، وعادات وتقاليد وفنون متباينة، فضلا عن الأديان والمذاهب، فإذا كان الغالب هو الإسلام فإنّ المسلمين ليسوا على صورة واحدة، فغالب أهل سورية من السّنّة الأشاعرة، وفيهم سلفيون صفاتيون، وفقها فيهم الأحناف والشّوافع والحنابلة، وفيهم العديد من الطّرق الصّوفيّة، وفي مقابل السّنّة هناك الشّيعة الإسماعيليون السّبعيون، والشّيعة الدّروز الموحدون، وهؤلاء انبثقوا من الإسماعيليّة، وهناك الإماميّة الاثنيّ عشريّة، كما تعتبر مركزا للشّيعة النّصيريّة، وهم اثني عشريّة أيضا، يتباينون في محمّد بن نصير العبديّ فيراه النّصيريون بابا للمهديّ في الغيبة الصّغرى، ولا يرى ذلك الإماميّة، حيث يعتقدون أنّه كان ينوب عن الإمام المهدي سفراء أربعة ليس من بينهم العبديّ.

وأمّا عن الأديان فهي وإن غلب عليها الإسلام كما أسلفت، بيد فيها أيضا اليهود والكنيسة الآشوريّة أو الكلدانيّة المعروفة قديما بالنّساطرة، وفيهم الأرثذوكس السّريان والرّوم والموارنة، وفيهم الكاثوليك السّريان والرّوم والأرمن، وفيهم البروتستانت والإيزديون والبهائيّة وغيرهم، وإذا جئنا إلى الاتّجاهات المعاصرة فيهم أيضا العلمانيون والإنسانويون واللّبراليون وغيرهم من الاتّجاهات الفكريّة والسّياسيّة.

لهذا طبيعيّ أن يشعر اليوم أصحاب هذه الأقليات والتّوجهات الأخرى بحالة من التّوجس والخوف، فسوريّة لم تتكوّن قبل خمسين عاما وقت حكم الأسد، بل هي موغلة في القدم، وكانت مركز المعرفة خصوصا وقت نبوغ السّريان، فصعود طائفة تتبنى الفكر السّلفيّ المتشدّد ستعتبر – إن لم يكن هناك مراجعات – هذه الأقليّات إمّا مشركة ليس لها خيار إمّا الإسلام أو السّيف، أو يعتبرونهم أهل كتاب ذمّيين يوجبون عليهم الجزيّة، فداعش العراق اعتبرت الإيزديين مشركين، مارست فيهم القتل والسّبيّ، كما أنّ التّيارات المتشدّدة ترى المتوسلين بالقبور السّنّة المتصوّفة، أو الشّيعة عموما؛ تعتبرهم مشركين قبوريين، وهذا ما نراه – إن صح ما ينشر – من هدم الأضرحة والمزارات، وهذا قد يؤدّي إلى صراعات أهليّة طائفيّة، كما أنّ التّيارات المتشدّدة لا تقبل بالتّعدّديّة الفكريّة، والقراءات الدّينيّة الجديدة، وتنظر إلى المرأة إلى إنّها في منزلة أقل، وقد تفرض عليها لباسا معينا، وهذا سيؤدّي إلى تراجع الحريّات، ويؤثر هذا في الاستقرار الاجتماعيّ، والتّقدّم العلميّ والمعرفيّ، لضيق دائرة الإبداع والحرّيّات.

ما أسلفت ذكره يجعل الوضع الحالي في سوريّة، وقد قرّرت تقرير مصيرها؛ أن تؤسّس دولة وطنيّة تسع الجميع، تتجاوز الماضي إلى الحاضر، وتتجاوز الأيدولوجيّات الضّيقة إلى سعة المواطنة، وأن يكون الدّستور حافظا للتّعدّديّة، حتّى لا تخرج من استبداد وتدخل في استبداد آخر، فإن كان الأول باسم البعث أو القوميّة، فلا يكون الثّاني باسم الدّين أو المذهب أو الإسلام، فالقوميّة قامت لبعث كرامة الإنسان وحقوقه وحرّيّاته في دولة المواطنة، وكذلك الأديان جاءت لتقرير ذلك، فلا ينبغي جعلهما لباسا للوصول إلى السّلطة، فلا استقرار في العالم اليوم إلّا بدولة وطنيّة ولاؤها للوطن لا للخارج، والنّاس فيها سواء، عقولها تفكّر لإحياء واقعها، وعمارة حاضرها، والرّقيّ لأجل مستقبلها، وهذا ما نرجوها لها وللمجتمع الإنسانيّ.

السابق
عام ميلاديّ جديد وواقع عربيّ مضطرب
التالي
الحدّاديّة بين الجاميّة والحركات الجهاديّة المتطرّفة
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً