يعتبر الشّيخ إبراهيم بن سعيد العبريّ [ت 1975م] – رحمه الله ورضي عنه – مدرسة إنسانيّة منفتحة على الآخر، وقد قال عنه سماحة الشّيخ حسن بن موسى الصّفار [معاصر] من علماء الشّيعة الإماميّة في القطيف بالمملكة العربيّة السّعوديّة: “وأتذكر – أي في بداية السّبعينات من القرن العشرين – زيارتي للمفتي السّابق للسّلطنة الشّيخ إبراهيم بن سعيد العبريّ – رحمة الله عليه – وفوجئت بتواضعه مع أنّي كنتُ صغيرا بالسّن، وكان كبيرا [في السّن] وفي مقام المفتي، وله شخصيّته العلميّة، واستقبلني بحفاوة وبتشجيع، وأعجبت بأخلاقه الطّيبة وتواضعه، كما رأيت إحاطته بالمجال العلمي والفقهي بآراء المذاهب المختلفة”.
ومن كلامه في رسالته إلى العلّامة عبد العزيز بن باز – رحمه الله – [ت 1999م] المفتي السّابق للملكة العربيّة السَعوديّة بتأريخ 18 شعبان 1392هـ: ” فقد وافانا كتابكم الكريم، وفهمنا ما تضمّنه من نصائح وإرشادات كما هي شِنْشِنَتِكُم المعروفة، وسَجِيَّتِكُمُ الموصوفة، وإننا لنشكركم على ذلك، كما نشكركم على تزويدنا بالأسفار النّفيسة، وهي هذه العقيدة الطّحاوية، الصّواعق المرسلة، نونية ابن القيّم، مختصر السّيرة النّبويّة، فتح المجيد شرح العقيدة الطّحاويّة، التّوحيد، مجموعة الحديث، النّفائس، وقد أخبرت بذلك جلالة الّسلطان، وأبلغته سلامكم، وقد أثنى عليكم، وشكر سعيكم، وهو يسلّم عليكم، وكلّنا نشكركم، ونعدّ هذا منكم مساعدة لإحياء العلم ونشره، ونخبركم أنّ إخوانكم أهل عمان يقبلون على كتبكم كلّ الإقبال، ويقرؤونها ويراجعونها في مهمّات المسائل، وهكذا ينبغي لكلّ من معشر المسلمين، ونسكت عمّا بيننا من خلاف في المسائل البسيطة، وإنّ الإسلام يجمعنا، والحقّ هدفنا، وجميع أعداء هذا الدين القويم أعداؤنا”.
والّذي يهمنا في هذا المقال ما طرحه الشّيخ العبريّ من عبارة مهمّة ممكن أن تتحوّل إلى محور منهجي ومعرفي يخلّص هذه الأمّة من صراعاتها، ومن قصّاصات الكتب الصّفراء، والرّوايات والأخبار المفرقة للآخر، وهي عبارة “عدم الخلطة”، إمّا بالحديث عن الذّات والتّعصب لها، أو بالحديث عن الآخر ومحاولة تقزيمه والإساءة إليه، وهذا حدث كثيرا، وقد قلتُ في كتابي فقه التّطرف ص: 168: “فالّذي عاش في جبال عمان لا يرى غالب عمره إلا إباضيّة كالّذي عاش في صحراء نجد مع حنابلة يراهم أقرب النّاس إلى الدّين، وهكذا الّذي عاش في أدغال إيران، أو غابات باكستان والسّودان وغيرها، فشيء طبيعي أن يسقط ذلك في تراثه؛ لأنّ الّذي يراه غيره مستهجنا لا يراه هو مستهجنا، بل يراه هو الدين!! أمّا اليوم فقد دار الزّمان ليتقارب النّاس، ويختلطون في أسفارهم، ويتجانسون في مكان عملهم، ويتقاربون في مصلاهم وسكناهم، وهذا بلا شك سيصبح المخفي ظاهرا، والبعيد قريبا!!”.
وقلتُ فيه أيضا ص: 169: ” نعم من أراد قصّاصات [الكتب] سيجد من الإباضيّة من تبرأ من عثمان وعليّ، ومنهم من كفّر الكفر المعنوي، وسيجد عند الأشاعرة ممن أباح دم الشّيعة والإباضيّة، ومنع أكل لحوم المعتزلة والزّواج منهم، وسيجد عند الشّيعة دعوى تحريف القرآن الكريم، وسبّ أمهات المؤمنين كعائشة وحفصة، ونسبة الزّنا إلى عائشة، وسيجد في كتب الحنابلة تكفير أبي حنيفة، واستباحة دم من أتى بالنّية عند الوضوء!! بل سيجد الكثير الكثير، ولكن هل القصاصات هي الحلّ، إننا أمام أزمة عقلين: عقل يتعصب لكتب تراثه ويدافع عنه، ويبرر أخطاءه، ولا ينقد ذاته!! وعقل آخر يرى بعدستين، عدسة دقيقة في تراث غيره، فينبش أيّ خطأ، ويضّخمه، بينما ينظر في تراثه بعدسة ملوّنة!!! إنّ الترّاث واحد، فيه من جماليات المعرفة، وفيه أيضا من القنابل الّتي لو خرجت لأكلت الأخضر واليابس!!”.
لهذا يقرر الشّيخ إبراهيم بن سعيد العبريّ أنّ هذا طبيعيّ، ومنشأه عدم الخلطة، لذا بين أنّه “كثرت اليوم الخلطة، وخفّت النّفرة، واجتمع بعضنا ببعض، فلا يناسب ذلك الا اتباع ما عليه السّلف ممّا ذكرناه أيّ من الألفة والصّلاة خلف بعض، وجواز الصّلاة معهم، والاقتداء بأئمتهم فيها جمعة وجماعة، حيث أقاموها في أماكنهم وجوامعهم، ولا نرى الامتناع والتّخلف عنهم؛ لأنّ الصّلاة عبادة لله، والدّعاء إليها دعاء إلى الله، فيا قومنا أجيبوا داعي الله، ولا تتخلفوا فتتخالف قلوبكم”.
إنّ نظريّة عدم الخلطة تكمن في التّأريخ، وفي التّراث، وفي الواقع المعاصر، أمّا التّأريخ فانقضى، ويسعنا فيه قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة/ 134]، وأمّا التّراث فهو ظرفيّ يقرأ في ظرفيّه، ولا يحاكم المتأخر بخطأ المتقدّم، ولو انتسب إلى مدرسته، وهو تراث إنسانيّ مفتوح للجميع، ثمّ ولو كان المتأخر معتقدا لما يخالفه الآخر، فهذا لا يخرج عن دائرة الرّأي الّتي تسع الجميع، ولو سلّمنا في دائرة الدّين لكان الإيمان بالله والعمل الصّالح جامعا للجميع، فإذا الله تعالى أمرنا بالإحسان والتّعايش مع أصحاب الدّيانات الأخرى، فكيف بأصحاب الدّين الواحد!!، وأمّا الواقع المعاصر فكما بيّن رحمه الله أنّ كثرة الخلطة تؤدي إلى تخفيف النّفرة، فيصبح المستهجن مألوفا، ولهذا ينبغي التّشجيع على الخلطة والجلوس مع الآخر وسماعه ومحاورته بالحسنى.
وإذا كان كذلك بين المدارس الإسلاميّة؛ فنحن اليوم نتحدّث عن المجتمع الإنسانيّ بأديانه وطوائفه، وعن دولة المواطنة بتعدد توجهات أفرادها، فأصبحت الخلطة أمرا واقعا، فلزم بذلك تحقيق التّعايش في المجتمع الإنسانيّ، وبين أبناء الجنس البشريّ، مصداقا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات/ 13].
وعليه تشجيع الخلطة بين مجتمع الجنس البشريّ لا يقلّ ضرورة عمّا بين الدّين الواحد، والخلطة لا تقتصر عند السّياحة؛ بقدر ما تتجاوز معرفة الآخر والتّعرف عليه والسّماع منه والقراءة له؛ لأنّ عدم الخلطة بين المجتمع البشريّ يؤدي إلى الصّراع وعدم فهم الآخر، والحديث حول هذا يطول.
مراجع المقال حسب النّص:
- حوار مع سماحة الشّيخ حسن الصّفار حول تأملات في الخطاب الدّينيّ، برنامج حوارات الحلقة 11، نشر في 16 يناير 2018م، موجود في قناة أنس اليوتيوبيّة.
- الآثار العلميّة لسماحة الشّيخ العلاّمة إبراهيم بن سعيد العبريّ، المجلد الثّاني، جمع عليّ بن هلال العبريّ وجمعة بن ناصر الصارميّ وآخرون، ط جامعة السّلطان قابوس، الطّبعة الأولى 1436هـ/ 2015م.
- فقه التّطرف، بدر العبريّ، طبع الجمعيّة العمانيّة للكتاب والأدباء، ودار مسعى/ كندا، 2018م.
- إضاءة قلم [الحلقة الأولى]، بدر العربيّ، طبع الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء، ودار مسعى/ كندا 2019م.
صحيفة شؤون عمانيّة 1442هـ/ 2020م