جريدة عُمان 1443هـ/ 2022م
يتكرر الخوف من الآخر المختلف اليوم بشكل طبيعيّ أكثر من السّابق؛ لأنّ الهويّة اليوم تعيش في عالم مفتوح جغرافيّا وإعلاميّا، وأصبح تداخل الهويّات مع بعضها تجاوز الحدود الجغرافيّة والمكانيّة، ولم يعد ذلك الإعلام الّذي يوجه وفق ما يوافق هويّة معينة، دينيّة، أم اجتماعيّة، أم سياسيّة.
واليوم نعيش عصر الكلمة الحرّة المتجاوزة للحدود الجغرافيّة والهويّاتيّة، فاليوتيوب مثلا، ذات المساحة الحرّة، يقدّم هذه الكلمة الحرّة بلا قيد ولا حدود، وبكافة لغات العالم، وبشكل مجانيّ ومتاح، مع شيوع الفردانيّة في الطرح المتجاوز للعديد من الهويّات، وكذا الحال في جميع أشكال المدوّنات الفرديّة والمؤسّسيّة في وسائل التّواصل الاجتماعيّ وغيرها.
وقديما قيل “كلّ ممنوع مرغوب”، وقديما قال أبو تمام [ت 231هــ/ 845م] أيضا:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويتْ أتاح لها لسانَ حسود
وذكر “فضيلة” من باب التّمثيل لا أكثر، وإلا كلّ كلمة حسنة أم سيئة، إذا صاحبها ضجيج انتشرت وعمّت، وإذا لم يلتفت لها، فهي كالكلمة في الهواء، لا تتجاوز حدودها الضّيقة، وفي زمن محدد، إلا إذا كانت ذات جدوى فتمكث في الأرض، أو تتدافع مع غيرها لتتهذّب، وتولّد أفكارا أخرى، لهذا كانت الأفكار تدفع بالأفكار، والمنع والمصادرة يزيد الفكرة ثباتا لا تهذيبا، كما يزيدها انتشارا بصورة كبرى.
لا أريد الدّخول في جدليّة زيارة الحكيم الهنديّ سادغورو إلى عُمان، والضّجيج حوله، فليس بذاك الأهميّة لأن يُشغل الشّارع به، ويلهى به عن قضاياه الكبرى، ولست سياسيّا أو مسؤولا من أصحاب القرار ممّن يدرك تبعات زيارته إيجابا أم سلبا، حيث يقرأون القضيّة من الخارج، فهم أوسع أفقا، وأبعد نظرا، على أنّ من حقّ الجميع إبداء رأيه وعدم تخوينه، كان موافقا أم معترضا، وكلّ ذلك في حدود التّدافع الطّبيعيّ المعبر للفكرة، لا السّلبيّ المصاحب للاستهزاء والسّب والشّتم والتّنقيص من الآخر، وتحويل القضيّة إلى انتصار أو هزيمة وهميّة، وكأننا في معركة، لا في مساحة إبداء رأي.
الّذي يهمني هنا هو “عُمان”، والّتي صاحبها دائما الهدوء واستيعاب المختلف، وتجاوزت مثيلاتها من دول الجوار، وعرفت شرقا وغربا بالتّعايش والتّسامح والحكمة، إلا أنّ ظاهرة المنع بدأ صوتها يظهر بقوّة اليوم، كما رأينا سابقا مع الباحث والمفكر السّوري فراس السّواح، وكان من المقرر أن يلقي محاضرته في شبكة المصنعة الثّقافيّة، فألغيت بسبب الضّجة الّتي حدثت بسبب رؤيته حول الحجاب، وكذا الحال مع الباحث الكويتيّ ناصر الدّشتيّ، حيث ألغيت محاضرته في النّادي الثّقافيّ بسبب بعض رؤاه في نقد الخطاب الدّينيّ، مع أنّ الأخير الأصل أن تكون محاضرته عن بعد عن طريق (zoom) وليس حضورا، وأخيرا مع الباحث البحرينيّ عليّ الدّيريّ، والمقرر أن يلقي محاضرته في الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء عن طريق (zoom) أيضا.
الّذي أريد أن أقوله هنا، هذه الحالة من المنع والإلغاء تسيء إلى عُمان بشكل كبير جدّا، وتصبح النّظرة إليها من الخارج سلبيّة جدّا أيضا، خصوصا عندما يكون الإلغاء لشخصيّات لها اعتبارها عالميّا ودوليّا لمكانته العلميّة والمعرفيّة، كما حدث لفراس السّواح مثلا، كما أنّه يسيء إلى تأريخ عمان، فكلّ ذلك يسجل في تأريخها، فضلا عن وضع عمان في مصاف الدّول ذات الحدّ من الحريّات الطّبيعيّة، وسوء مراعاة التّعدديّة الفكريّة في هذا البلد العريق.
لهذا كما هو معلوم هناك خطّان معمول بهما في قانون البلد من قبل الجهات المختصة في نظري، خطّ منفتح على الجميع بلا قيد من حيث الابتداء، على أن يكون ذلك وفق مؤسّسة مرخصة، أو من قبل جهة متاح لها ذلك، وخطّ يأتي بعد ذلك وهو الموافقة أو المنع قبل الإعلان، فلا يعلن عن فعاليّة عامّة إلا بتصريح، ولا تصريح إلا لجهة رسميّة أو أهليّة منضوية تحت مؤسّسة رسميّة، فإذا كان كذلك فلا داعي لهذه الضّجة؛ لأنّ أصحاب القرار – كما أسلفت – يقرأون الوضع من خارجه، ويدركون ذلك جيّدا، ويُخبِرون حال الضّيف سياسيّا واجتماعيّا وفكريّا، وأنّه لا يسبب لهم حرجا سياسيّا وأمنيّا في العلاقات الدّوليّة، لهذا ليس من الجيّد على عُمان ذاتها ما نراه اليوم من موافقات يعلن عنها، ثمّ لضجيج يتّم توقيف الفعاليّة وإلغاؤها، فهذا يسيء إلى البلد حاضرا وتأريخا.
على أنّ هذه الحالة إذا استمرت على هذه الصّورة ستوقع البلد في حرج مستقبلا، حيث تتضخم يوما بعد يوم، فلا يوجد في العالم من يوافق هوّيتنا مطلقا، فالعالم متنوع ومتداخل، فهناك من له رؤية دينيّة أو مذهبيّة أو سياسيّة أو هويّاتيّة هو يراها إمّا لرؤية خاصّة به، أو نتيجة انتساب إلى هويّة معينة ولد فيها، أو انتسب إليها لاحقا، أو اقتنع بها، فإذا فتح الباب هكذا بدون تنظيم، فغدا كلّ شخص سيعترض ضدّ من لا يوافقه، ومن يراه مخالفا له، ويقابله من يدافع عنه، ويتعصّب له، لهذا إبداء الرّأي سلبا أم إيجابا – كما أسلفت – شيئ طبيعيّ، ومن حقّ الجميع، لا أن يجعل من نفسه وصيّا يجب طاعة أمره، فالمجتمع متعدد بطبيعته، لهذا وجب على أصحاب القرار تقديم مصلحة عُمان، والآراء يستأنس بها، على أن يكون القانون المنظم حاكما، حفاظا على الجميع.
ثمّ إنّ الّذي يأتي لفعاليّة دينيّة أو ثقافيّة أو فكريّة أو حتّى سياسيّة، على شكل محاضرة أو ندوة أو مؤتمر أو زيارات معرفيّة؛ فطبيعيّ ليس كالسّائح أو من سكن بيننا لعمل أو دراسة، فهو لن يكون نسخة منا، ولا يدرك هويّتنا، بل سيتحدث عن قناعاته وفكره، فقد جاء وفي ذهنه مجتمع وبيئة وهويّة أخرى، قد تكون منفتحة بشكل كبير، فيسقط ذلك على محاضرته معنا، وقد يكون دون ذلك، لهذا بتدافعه مع أهل البلد، من كتّابه ومثقفيه يكون التّدافع الطّبيعيّ، وليس عن طريق الضّجيج الّذي لا يشبع ولا يغني من جوع.
فكما أسلفت “كلّ ممنوع مرغوب”، أي مرغوب في معرفة سبب الضّجيج حوله، فما حدث في قضيّة سادغورو مثلا، فلم يكن في خلده أبدا لو أدرك هذه الضّجّة عندنا في عمان؛ لأدرك أنّ رحلته أثمرت في الحراك الّذي يقوم به قبل قدومه، وحقّق أضعاف ما لو أتى ولم يصاحبه ضجيج، فأغلب مجتمعنا العمانيّ لا يعرفه، وهؤلاء قدّموا له دعاية مجانيّة جعلت مقاطعه في اليوتيوب ترتفع مشاهداتها من عُمان، كما أنّ العديد استيقظ على معرفة رجل اسمه سادغورو، ليبحث عنه، ويكشف سبب الضّجة حوله، وأن تظاهر بعضهم بمسايرة التّيار.
وهذا ذكرني بما حدث أيضا مع “فراس السّواح”، فمع مكانته العلميّة والمعرفيّة، إلا أنّه ليس بذاك الشّهرة عندنا في عمان، فلمّا كثر الضّجيج حوله حينها؛ زاد عدد قرائه ومتابعيه من عُمان، وكثر الطّلب على كتبه وأبحاثه، وهذا طبيعيّ جدّا.
وهنا كما أسلفت لست ضدّ التّعبير عن الرّفض، فهذا حقّ مكفول للجميع، ومن حقّ النّاس أن يظهروا رأيهم في صورة حضاريّة ومعرفيّة تليق بحضارة البلد وهويّته، على أنّ ذلك لا يتجاوز التّعبير عن الرّأي، واحترام الرّأي المخالف أيضا، دون تخوين لأحد، أو إساءة إلى أمّة أو بلد أو جنس آخر، فلا يسخر قوم من قوم، ولا جنس من جنس، ولا دين من دين آخر.
وكنت أرجو لو صاحب هذا الضّجيج مقالات معرفيّة وعلميّة ونقديّة، مبنيّة على كلمة سواء، ومنهج علميّ قائم على العدل في الكلمة، والقسط في الشّهادة، بدل الأحكام المسبقة، والمقاطع المجزئة، مع إطلاق أحكام ونتائج بعيدة عن دراسة فلسفة الرّجل ومنهجه، ولست كما ابتدأت أريد الدّخول في هذا؛ لأنّ الحديث حوله يطول، ويدخلنا في جوهر مدار الأديان في جوّها العرفانيّ والغنوصيّ كما هو مدار فكر سادغورو.