الرحلات

شناص عُمان وشناص جنوب إيران

الهجرات السّكانيّة والثّقافيّة بين شمال عُمان، ويدخل فيها الآن شمال الإمارات العربيّة المتحدة، وبين أجزاء جنوب إيران، من بندر عبّاس وحتّى بوشهر في محافظة هرمزكان، هجرات موغلة في القدم، وتحتاج إلى اهتمام أكبر من الدّراسات والتّوثيق، خصوصا توثيق ما تبقى من الذّاكرة والرّواية الشّفهيّة من الجانبين، فهناك ضعف اهتمام خصوصا في توثيق الرّواية الشّفهيّة في جنوب إيران، ولقد قامت هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنيّة العمانيّة بعمل كبير في توثيق الذّاكرة العمانيّة بشكل عام، فجميل أن تلتفت إلى هذه الذّاكرة والّذي له علاقة بعُمان، كما أنّ بعض البحوث، ومنها ما يتعلّق بالدّراسات العليا تقتصر عند الوثائق المكتوبة، وما كتبه خصوصا الغربيين فيما يتعلّق بالثّقافة والإنسان، وما يسمّى بعلم الأنثروبولوجيا، ولا يكلّف الباحث نفسه لكشف الذّاكرة عن قرب، ويكتفي بالنّقولات السّابقة، وفي نظري في الكتب المحكمة ليست العبرة فيها بكثرة المصادر أو النّقولات، وإنّما العبرة بتنوع المصادر وإحكامها، خصوصا ما يتعلّق بالذّاكرة والثّقافة والإنسان، فهذه لا يمكن أن تقتصر عند المصادر والبحوث المكتوبة، بل لابدّ من الاقتراب من نبع الثّقافة وما يتعلّق بالإنسان ذاته.

في نهاية الأسبوع الماضي عملت لأربعة أيام جولة استكشافيّة سريعة – حسب القدرة الوقتيّة والماديّة – إلى مناطق عرب جنوب إيران، زرت فيها بشكل أكبر ثلاث مناطق، جزيرة قشم، أو الجزيرة الطّويلة لطولها البالغ ما يقارب مائة وعشرين كيلو، وعرضها حوالي أربعين كيلو، ويسميها العمانيّون جسم، وأخبرني مؤرخ الجزيرة الشّيخ صالح عبد الله رضوانيّ أنّ الأصح جسم لطولها، وهو المشهور سلفا، والفرس سموها قشم، كما يسميها بعض جشم، في هذه الجزيرة تعرّفت إلى عائلة الخوريّ، وهي عائلة كبيرة ومؤثرة اجتماعيّا وتجاريّا فيها، ويقطنون قرية (سلخ) فيها، ويقولون إنّ جدّهم الرّابع يعود إلى (المصنعة) في عُمان، وجدّتهم الكبرى أصلها من (بركاء) من عُمان أيضا، بيد أنّي وجدت غالبهم لا يتكلّمون العربيّة، ولهجتهم ليست على نغمة الفارسيّة كما تعودت سماعها من مناطق إيران، فحروفهم عربيّة فصيحة، فالعين ينطقونها عينا وليس همزة، والحاء حاء وليس هاء، والصّاد صادا وليس سينا، كما ينطقون الظّاء أيضا، ويتكلّمون بمفردات عربيّة بصورة أكبر، لكنّي لا أفهم لغتهم لكونهم يستخدمون ذات القواعد الفارسيّة، وفيها مفردات فارسيّة أيضا، وقالوا لي: الفرس في الجملة أيضا لا يفهمونا، لهذا نتحدّث معهم بالفارسيّة الفصيحة، بدأت هنا أبحث متى تركوا لغتهم الأم أي العربيّة، فسألت أحد كبار السّنّ أي عبد الرّحيم بن أحمد الخوريّ وعمره يقترب من الثّمانين عاما، فقال لمّا كنت في العشرين من عمري كان أكثر كبار السّنّ يتكلّمون العربيّة والفارسيّة؛ لأنّ غالب من في البحر يتكلّمون اللّغتين، يتكلّمون الفارسيّة مع من يشاركهم من الفرس، وأخبرني أنّه أدرك جدّته لا تعرف غير العربيّة، وأخبرني مؤرخهم رضواني بدأ التّأثر بالفارسيّة مبكرا في أواخر القاجار، عندما أصبح الحكم السّياسيّ لديهم، وأخبرني فقيههم الشّيخ عبد الرّؤوف الكماليّ أنّ التّأثر الأكبر كان في عهد رضا بهلوي (ت: 1944م) لربط التّفريس بالسّياسة والتّعليم.

ومع هذا لا زال في الجزيرة من يتكلّم العربيّة ويعتزّ بها، وفي جزيرة لارك التّابعة لقشم يتكلّمون الكمزاريّة كبعض أهل مسندم في عُمان، ووجدت بيئتهم وبيوتهم وعاداتهم ولباسهم لا زال عربيّا، فلا زالت العديد من نسائهم يلبسن البرقع، وذات لباس العمانيّات في شمال عُمان، ويلبس رجالهم الثّوب وغطاء الرّأس (الطّاجيّة البيضاء)، وبعضهم المصرّ الملون يشدّونه كعادة أهل شمال عُمان، وتسمع في الصّباح رائحة وضربات خبز (الرّخال)، ويقرّبون الحلوى وهي تشبه الحلوى العمانيّة تماما، سألتهم: هل هذه عادة جديدة عندكم: قالوا: لا، عادة قديمة، يقرّبونها مع القهوة وهي سوداء خفيفة كالعمانيّة تماما، وعندهم من أنواع التّمر الخنيزي والخلاص، ويقدّمون السّمك المجفف (القاشع)، شعرت أنني في عُمان تماما، ولست في إيران.

وفي سلخ حملني الأستاذ عليّ الخوريّ إلى منطقة متهدّمة لها آثار من الجصّ والطّين، ومقبرة قريبة منها، فقال: هذه تسمّى قرية العمانيين، وهذه مقبرتهم، وكان هنا آثار مسجد لهم، وأخبرني الوالد عبد الرّحيم الخوريّ أنّه قبل فترة ليست بالطّويلة ممّن أدركوهم، كانوا يلبسون الخنجر العمانيّ، لهذا لا زال بعض أهل الجزيرة إلى اليوم في الأفراح يلبسون الخنجر، ويحملون العصى أيضا، وإن قلّت بشكل كبير اليوم، وقصّة دخولهم في الإسلام تشابه قصّة دخول الإسلام في عُمان، فيروون أنّهم كانوا تحت ملك عبد وجيفر ابني الجلندى من الأزد، ودخلوا الإسلام على يد عمرو العاص (ت: 43هـ)، ولديهم مسجد قديم يسمى مسجد الشّيخ برخ، يقولون بني في التّاسعة للهجرة، ويذكر آخرون أنّهم دخلوا الإسلام ضمن فتوحات عمر بن الخطّاب (ت 23هـ) لفارس والرّيّ، بيد أنّ المؤرخ رضواني يثبت الرّواية الأولى، خصوصا الجزيرة، لكونها كانت امتدادا لحكم الأزد في عُمان.

كذلك ذهبت إلى بندر لنجة، وفيها قرية شناص، وفي بعض قرى لنجّة إلى بداية بوشهر يتكلّمون العربيّة، وأهل شناص يتحدّثونها بطلاقة، لمّا دخلت القرية وجدتها تماما تشبه قرى الباطنة في عمان، في بيوتها وطرقها ونخيلها ومساجدها، ولمّا صليت معهم المغرب وجدتُ أغلبهم يلبس الثّوب الأبيض والطّاقيّة البيضاء، ولمّا شاهدوني بلبسي العمانيّ تهافتوا للسّلام يسألون عن عُمان، وهنا ذاكرتهم مليئة بالقصص عن علاقات شناص إيران بعمان، وعمّا يحفظونه من روايات أجدادهم، وقالوا الفرس ينطقون الصّاد سينا، فيقولون شناس، وإلّا فهي شناص، وهنا يتوقفون في الجزم من أخذ الاسم من الثّاني، بيد أنّهم لا يفصلون أنفسهم في الجملة عن مناطق شمال عُمان والإمارات حاليا، ومنهم من نزح من مناطق عربيّة أخرى كالبحرين واليمن والعراق.

وشناص في اللّغة تأتي بمعنى المتعلّق الشّديد، والطّويل النّشط، وذكر ابن منظور (ت: 711هـ) شاهدا لمكانها في البيت:

دفعناهن بالحكمات حتّى     دفعن إلى علا وإلى شُناص

وعلا وشناص أسماء مكان، ومنه قوله “وشناصيّ إذا هيّج طمر”، ولعلّ ورود اسم شناص كاسم مكان في أكثر من بيئة جغرافيّة، إلّا أنّ شناص عُمان وشناص جنوب إيران تتشابهان في الجغرافيا فكلاهما على البحر، والمذهب، فكلاهما في الجملة شوافع فقها، أشاعرة معتقدا، وفي حضور النّزعة الصّوفيّة، وفي العادات والتّقاليد، ففي ضيافة الأستاذ السّيّد أحمد الغريبيّ بحضور والده السّيّد إبراهيم كانت ضيافة عربيّة، تشابه الضّيافة في شناص وعُمان جميعا، فمثلا في فطور رمضان أخبروني يقدّمون الثّريد، وهذا وجدته في شمال عُمان إلى اليوم، وفي الجملة الإنسان لا يهاجر كمادّة جامدة، بل تهاجر معه ثقافاته وانتماءاته أيضا، ووجود هذه المصاديق الثّقافيّة بين شمال عمان وجنوب إيران يدلّ على العلاقة الحيّة بينهما لفترة طويلة من الزّمن، ممّا تحتاج إلى بحث وتقصي أكبر من الباحثين والمراكز البحثيّة، فهناك نماذج أكثر لا تتسع لها مقالة قصيرة كهذه، وما أشرت إليه لعلّه فاتحة تبعث الرّجاء للاهتمام المعرفيّ بهذه المناطق بشكل أعمق وأكبر، ولا يقتصر عند التّأريخ والصّراعات السّياسيّة، أو عند الوثائق الشّرقيّة والغربيّة، فلابدّ من الغور في بيئات الإنسان، وقراءتها عن قرب  وعمق معا، مع الانفتاح المطلق على جميع الثّقافات المتباينة.

السابق
باكستان والصّورة الأخرى
التالي
زيارة مدرسة سلطان العلماء ببندر لنجة بجنوب إيران
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً