البحوث

قراءة وصفيّة في فكر صادق جواد سليمان “قراءة من الدّاخل”

ورقة مقدّمة للمشاركة في ملتقى بيت الزّبير الفلسفيّ الأول، سلطنة عُمان، 18 مايو 2022م.

افتتاحيّة

بداية أشكر بيت الزّبير على التفاتتهم للمرحوم صادق جواد سليمان، وتخصيص جائزة له، وهذا دليل كبير على عظمة هذه المؤسّسة العريقة في مجتمعنا العمانّي، وسعيها الحثيث في الرّقيّ بالعقل والفكر والمنطق والفلسفة، وسائر المعارف الإنسانيّة، وهو ليس بغريب عنها من مناشط متجدّدة ومتنوعة.

وقد طُلب مني الكتابة حول الرّاحل صادق جواد، ولكوني عايشته في الفترة الأخيرة من حياته، وكانت معه حوارات خلصت بكتاب “الإنسان والماهية: محاورات في الدّين والفلسفة والشّأن الإنسانيّ“، لهذا ارتأيتُ أن تكون الورقة قراءة وصفيّة لمدار فكره، وهي قراءة تلخيصيّة وانطباعيّة وليست نقديّة، تعطيى خطوطا عامّة لما فهمته من فكر صادق جواد.

واعتمدت في قراءتها على أربعة مراجع:

الأول: جلوسي الشّخصيّ معه لساعات طويلة في العام الأخيرة قبل رحيله.

الثّاني: الحوارات المسجلة الّتي كانت معه في قناة أنس اليوتيوبيّة والّتي خلصت بكتاب “الإنسان والماهية”.

الثّالث: المقالات الّتي جمّعها سعيد بن سلطان الهاشميّ بعنوان: سلامة الفكر بسلامة منهج التّفكير: المقالات والقراءات والحوارات.

الرّابع: مقالة في مجلّة الفلق حول قراءة وصفيّة لفكر صادق جواد، واطّلع عليها المرحوم، وأثنى عليها، واعتبرها سليمة جدّا.

بدر بن سالم بن حمدان العبريّ

مساء الاثنين/ الموالح الجنوبيّة بولاية السّيب

23 رمضان 1443هـ/ 25 أبريل 2022م

أولا: قراءة تعريفيّة لصادق جواد ومسار فكره (من الخارج)

حياته وهوّيّته[1]:

ولد صادق جواد سليمان عام 1933م في سور اللّواتية بولاية مطرح، ثمّ سافر في الأربعينيّات بعد الحر العالميّة الثّانية وهو في بداية العقد الثّاني من عمره إلى الشّارقة ودبي، ثمّ البحرين، واستقر به المقام في الكويت ليعمل في صحيفة الرّأي لعقدين، وعند حكم السّلطان قابوس [ت 2020م] رجع إلى عمان ليعمل في وزارة الخارجيّة 1972م سكرتيرا ثمّ مستشارا في السّفارة العمانيّة بواشنطن، ثمّ يلتحق في السّلك الدّبلوماسيّ عام 1976م، ليكون سفيرا لعمان في إيران أيام الشّاه محمّد رضا [ت 1980م]، ثمّ تركيا، ثمّ الولايات المتحدة الأمريكيّة وعدد من دول أمريكا اللّاتينيّة، وغير مقيم لدى كندا عام 1979م،، كما تولى منصب رئيس الدّائرة السّياسيّة في وزارة الخارجية (1977-1979م)، ليتقاعد في عام 1983م.

ثمّ يتفرغ بعدها للتّأمل والبحث عن الله والإنسان والوجود، متنقلا بين العديد من الدّول، جامعا بين الأديان الشّرقيّة خصوصا الهند، والحضارة الغربيّة، ليساهم في تأسيس مركز الحوار العربيّ في واشنطن عام 1994م، مشاركا في الصّحيفة الّتي يصدرها المركز بتوقيع أدبي، وقد جمّع هذه المقالات صبحي غندور [معاصر]، والأصل تصدر في فترة مبكرة، ولكن المرحوم كان رافضا نشرها.

ليعود إلى عمان في الألفية الجديدة، ويكتب في بعض الصّحف ويقدّم بعض المشاركات، وجمّعها الأستاذ سعيد بن سلطان الهاشميّ [معاصر] بعنوان سلامة الفكر بسلامة التّفكير، وهي عنوان مقالة له، وأيضا ألقاها في الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء في لجنة الفكر 2017م، والأصل يصدر الكتاب قبل سنوات، ولكن كما أخبرني الأستاذ سعيد أنّه رفض نشرها، فقلت له أحدّثه بنفسي، وفعلا حدّثته بالأمر وكان منشرحا في أيامه الأخيرة، خاصّة كان العديد من الطّلاب والشّباب أكثروا من زيارته، وقال لي: “لم أجد هذا الانشراح سابقا في عُمان”.

ومن الجوانب المهمّة كان من المساهمين في تأسيس الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء، وانتخب رئيسا لها 2010 – 2012م، ومساهما في خدمات الاستشارة العلميّة لمجلس البحث في عام 2008 وحتّى عام 2010م، كما أنّه يعتبر من الخبراء في السّلك الدّبلوماسيّ عموما، وفي الجانب الدّستوري خصوصا، لهذا كانت له مشورته في الدّستور الإيرانيّ بعد الثّورة، كما كان له لقاء مع السّيد السّستاني 2004م مشاورا له في بعض جوانب الدّستور العراقيّ بعد التّحرر، ويعتبر أيضا من خبراء الدّستور الأمريكيّ والفلسفة السّياسيّة الأمريكيّة، ورسالته في الماجستير في السّياسة الدّوليّة العامّة من معهد الدّراسات الدّوليّة العليا، بجامعة جونز هوبكنز الأمريكيّة.

وفي أيامه الأخيرة كان مترددا بين السّفر إلى أمريكا أم إلى الهند، والأصل يسافر إلى أمريكا، ولكن غيّر وجهته، وحاول العديد من الأخوة ثنيه عن السّفر، بسبب كورونا، ولانتشار الفطر الأسود حينها، وأذكر أننا ذهبنا إليه مرتين للأمر، ولكن لم يتراجع عن رأيه، وقال سأرجع في نوفمبر المقبل أي 2021م، لكنّ الأجل سبق ليفارقنا في 27 يوليو 2021م، ومن حسن الصّدف أن تصل كتبه من بيروت بعد تأخير وعرقلة بسبب كورونا في وقت رجوعه.

مراحل تطوّر المعرفة لدى صادق جواد (من الهوّيّة إلى الماهيّة والأنسنة)

أول تساؤل لصادق جواد كان متعلّقا بجدليّة العلم والدّين، وكان في بداية العقد الثّاني من عمره، حيث يقول: “وبالنّسبة لي كان أبي على قدر من المعرفة، بيد أنّ كثرة الشّغل اليومي جعلهم قليلي الفراغ، ومع هذا كانوا يقرأون في الكتب، وكانت كتبا دينيّة، وأدبيّة على مستوى أقل، فعندنا في البيت نحن الشّيعة الكتب الأربعة كما عند السّنة الصّحاح السّت، والكتب الأربعة هي الكافي في الأصول والفروع للكلينيّ [ت 329هـ]، وتهذيب الأحكام للطّوسيّ [ت 460هـ]، والاستبصار للطّوسيّ أيضا، ومن لا يحضره الفقيه للشّيخ الصّدوق [ت 329هـ]، فكنت أنظر في هذه الكتب وأتأمل فيها، فأجد عالما آخر من الكرامات والمعاجز غير عن عالمنا، وكنت أتسائل عن صحة ما يقال فيها؟!!

ومن جانب آخر أرى نموذجا مختلفا من المعرفة، وهو نموذج الطّبيب توماس والّذي أتى إلى مطرح وأنشأ مستشفى الرّحمة، فهو شخص بسيط جدّا، إلا أنّه يقوم بعمل عظيم جدّا، بيد أنّ منهجه يختلف عن المنهج الّذي نشأنا عليه، حيث نشأت في وسط عالم محتشم يتصوّر أنّه يملك مقاليد الحكمة والمعرفة، وفي الوقت نفسه أرى هذا الشّخص البسيط من عالم آخر غير عالمنا، فحدث لدي تساؤل في نفسي وأنا صغير في السّن لا يتجاوز الثّانية عشرة من عمري: أين توجد المعرفة الحقيقيّة؟ ظلّ هذا التّساؤل يصاحبني حتى حُسِم، ولمّا حُسِمَ كان لصالح العلم، وليس لصالح العقائد أو الفقه، أي لا يتخذ من البيئة الدّينيّة مرجعيّة للنّظر والتّغير، فأنا لم أنبذ المعرفة الدّينيّة، ولكنّها لم تكن تملك كامل أو شموليّة الصّحة لما تطرحه في الخارج”[2].

وأخبرني مشافهة في نهاية السّبعينات وبداية الثّمانينيات كانت جدليّة الإله والإنسان، أو اللّاهوت والأنسنة تصاحبه، فظلّ معتكفا لليالي بين الحطيم والكعبة، وفي الهند، إلا أنّه استقر على مرجعيّة الإنسان منذ فترة مبكرة، فيقول: “من أوجه الأنسنة وجه يحاول فيه الفلاسفة المسلمون أن يقتربوا من الأنسنة عن طريق التّأويل، فتبقي النّص كما هو، وإنّما تجنّحه لصالح الأنسنة، وهذه في الحقيقة محاولة الاقتراب من الأنسنة، وليست هي الأنسنة، حيث أنّ معنى الأنسنة أنّه ليس فوق الإنسان شيء، فالاجتهاد الإنساني حتّى ولو كان قاصرا، فهو الّذي ينبغي أن يكون في فهم الطّبيعة وفهم أنفسنا ومسالك الحياة، فهي تفك الارتباط عن أيّ شيء فوق الإنسان، فالإنسان يهتدي بنفسه”[3]، فهو يمثّل مدرسة الأنسنة من حيث المرجعيّة والظّرفيّة التّأريخيّة لا من حيث التّأويل.

إلا أنّه من جهة أخرى يرى أنّ الأديان تبقى كما هي، أمّا في الشّأن الإنسانيّ فالمرجعية للأنسنة، لهذا أسهب صادق جواد في بيان فلسفته حول الماهيّة والهوّيّة، وحول المبادئ والقيم، ومع أنّه اشترك مع طه جابر العلواني [ت 2016م]، وكان صديقا له، وعملا معا في مركز الحوار العربي في واشنطن، إلا أنّ العلوانيّ كان منتصرا للأسلمة عكس صادق جواد كان منتصرا للأنسنة، ثمّ العلوني تراجع في آخر عمره عن الأسلمة بمفهومها الشّمولي كما أخبرني تلميذه المقرب منه أحمد حمدين من مصر [معاصر]، ودخل في المرجعيّة القرآنيّة، أي خرج من الخطّ اللّاهوتي الضّيق، ولكن من خلال التّأويل القرآنيّ المصاحب للنّزعة الإنسانيّة.

بيد أنّ صادق جواد لم ينفك عن التّأمل والبحث، وفي رسالته قبل الأخيرة لي من الهند قال: “معظم الوقت أقضيه في خلوة مع النفس، بين تأمل وقراءة وكتابة ومتابعة للأحداث، أحيانا يخطر أنني قد حظيت بعناية كونيّة تتيح لي التّمهل في وتيرة الحياة، وتفسح لي فرصة تعريض النّظر ما أمكن في طبيعة هذا الوجود، عبر هذه المرحلة الأخيرة قبل الوفاة”[4].

مصادر صادق جواد المعرفيّة [من التّجربة إلى العرفان]

صادق جواد منفتح على المعرفة عموما بمصادرها العلمويّة التّجريبيّة والعلمويّة الشّموليّة، إلا أنّه أميل إلى الجانب الغنوصيّ والعرفانيّ في شقّه الفلسفيّ، فهو كثير التّأمل، وهذا يذكرني بعبارة لكمال الحيدريّ [معاصر] أنّ الشّهيد محمّد باقر الصّدر [ت 1980م] سؤل عن مصادر المعرفة عنده فقال: “تسعون بالمائة من التّفكر، وعشرة بالمائة من القراءة”.

وأمّا عن الفلسفة والدّين فيرى الموروث الدّينيّ هو المصدر الّذي كان وعاء للفلسفة والحكمة القديمة، ثمّ انفصلت الفلسفة عن الدّين، فصارت الفلسفة فكرا حرّا، والدّين فكر لاهوتيّ مقيّد، ثم ظهرت العلمويّة التّجريبيّة في الفلسفة، والعلمويّة التّجريبيّة قطعيّة، والعلمويّة الشّموليّة ظنيّة، يجمعهما الاجتهاد الإنسانيّ، فهو المدار لإدارة الشّأن الإنسانيّ، فيمكن أن نجمع مصادره في أربعة معارف رئيسة: التّأمل، والعقلنة، والأنسنة، والتّجربة.

مدار فكر صادق جواد (تجربة حياة)[5]:

تأملت في فكر صادق جواد المعرفي فرأيته يدور حول:

أولا: أن تنظر إلى العالم من الخارج، وأن تنطلق من الماهيّة فالهوّيّة، وأن نحاول الرّقي من البشريّة إلى الإنسانيّة كلّما اقتربنا من الماهيّة.

ثانيا: لا تخاصم الماضي وتراثه، ولا الأديان وطقوسها، ولكن عليك أن تعيش مع الاجتهاد الإنساني في عصرك، وأن تساهم في تطويره ورقيه، لا أن تكون نسخة من الماضي.

ثالثا: أن تتعامل مع العالم من خلال المبادئ الأربعة: العدل والكرامة الإنسانيّة والمساواة والشّورى، فهي مرتبطة بالماهيّة، وليست مضافة من الخارج كالقيم، ولا متعلّقة بالوجدان كالأخلاق، وهي الأساس لبناء الدّول، وتنمية الثّقافات، ورقي الحضارات.

رابعا: الاعتناء بثلاثة أمور أساسيّة قبل الاعتناء بالأمور الكليّة والسّياسيّة، ابتداء أن يصون نفسه أي صحة بدنه، ثمّ أن يوسّع من معارفه، بالاستعانة من أفكار الآخرين وبحوثهم، والثّالث الاستقامة.

ولخّص صادق جواد رسالته في الحياة بقوله: “أرجو أيضا أن يكون لكلّ منّا دور في تفعيل هذا التّوجه القائم على تأصيل ثابت إنسانيّا، وتفرّع متسام ثقافيّا، لأجل تحقق حداثيّ حضاريّ، قوميّ إنسانيّ، وطنيّ عالميّ، في ترادف واتّساق… هكذا إلى أن تحين الآجال، فيرتحل كلّ منّا برضا واطمئنان، مغتبطا أنّه ساهم، ولو بأقل القليل، في جعل تجربة العيش على هذا الكوكب، مع تعقيداتها، أيسر وأطيب وأثرى للآتية من الأجيال”[6].

رؤية صادق جواد للحياة

ممكن نجمل رؤيته للحياة من حيث:

أولا: الإيمان، فهو لا ينفصل عن هذا الكون، والمرتبط بالعلم أولا، ثمّ الخلق، فهو حالة منسجمة مع الذّات من جهة ومتصالحة معها، ومسالمة للآخر، ومنسجمة مع الكون[7].

ثانيا:  الاقتضاء، “بمعنى ما يحدث يحدثُ بمقدّمات توصله إلى الحدث أو الفعل، هذا الاقتضاء له طريقه ومساره، والإنسان نفسه عامل في هذا الاقتضاء، فالمريض مثلا يؤخذ إلى الطّبيب ثمّ يشفى، فالمرض نتيجة اقتضاء وكذا الشّفاء، وأمّا مشيئة الله فهي مودعة في السّنن الكونيّة، وليست منفصلة عنها، حيث يحدث في حينه بمسبباته عكس القضاء الّذي يفيد أنّه مقضي من سابق”[8].

ثالثا: الانسجام مع الكون، فيرى أنّ الإنسان لا يفنى؛ لأنّ “التّشكل الإنسانيّ تشكّل زائل، وذرات من الأرض تجمّع بها هذا الجسد، ثمّ عندما يهترئ الجسد، وتعود الذّرات، وتتوزع وتعود إلى مكان آخر، في شجرة أو حيوان أو أيّ شيء، فالذّرات لا تفنى ولا تزيد في الكون”[9]، ويرى أيضا أنّ “الكلّ – أي في الكون – من طلعة واحدة، فنحن فينا ما في النّجوم والبحر والحيوان، فهي ذرات تتجمّع وتتفكك وتعمّ العالم، فهو وجود واحد، كلّ يخضع لنفس السّنن والقوانين، فتكوننا جميعا واحد؛ وإنّما تختلف الأشكال والأحجام، ولمّا تموت هذه الذّرات تنتثر، لكنّها لا تفنى في الكون، وإنّما تتشكل في مخلوقات أخرى كقطة أو كلب أو بقرة أو إنسان آخر وهكذا، ونحن أيضا من غبار النّجوم وفضاءات أخرى”[10].

رابعا: الإنسان الكامل[11]، أي أنّ “الإنسانيّة ليست موقعا أو مرحلة أو حالا جامدا، الإنسانيّة في ارتقاء أو في انحدار، فإذا انحدرت تلامس البشريّة الحيوانيّة، وإذا ارتقت تلامس ممّا لا سقف للارتقاء، ولمّا تقول إنّ للإنسان نزعات سلبيّة فنعم، فملكة التّفكير ممكن أن تنحرف بالإنسان إلى إنتاج شيء سلبي، كما نجد في الأسلحة وغيرها، ولكن إذا كان ارتقاء الإنسانيّة إلى الأعلى فتجد أنّها تتوجه إلى توائم أكثر وأكبر وأعرض بالرّوح، والرّوح صفاء كامل، لا تشوبها أيّ شائبة، فالإنسان نعم ممكن أن ينحدر وممكن أن يرتفع”[12].

ثانيا: قراءة وصفيّة في فكر صادق جواد (من الدّاخل)[13]

حسم صادق جواد من الابتداء سؤاله الوجوديّ: “أين توجد المعرفة الحقيقيّة؟ ظلّ هذا التّساؤل يصاحبني حتى حُسِم، ولمّا حُسِمَ كان لصالح العلم، وليس لصالح العقائد أو الفقه”[14]، ليبحث بعدها عن الإله، ويتأمل هذا الكون وعلاقته بهذا الإله من مطرح فالكويت والعراق فمكّة فالهند إلى أمريكا وإيران والعديد من دول العالم، مختلطا بالأديان والفلاسفة، مطلّعا على الحكمة والاجتهاد الإنسانيّ، ليستقر به المقام على وجود ذات غير مشخّصة موحدة، ويرى جميع الأديان بما فيها الإسلام شخّصت هذه الذّات في إسماء وصفات بشريّة.

فهناك قوّة فاعلة في هذا الكون، إلا أنّه في تفسيره يقترب من وحدة الوجود، أو الطّبيعة، أو الكون، كما يرى أنّ الإنسان لا يفنى؛ لأنّ “التّشكل الإنساني تشكّل زائل، وذرات من الأرض تجمّع بها هذا الجسد، ثمّ عندما يهترئ الجسد، وتعود الذّرات، وتتوزع وتعود إلى مكان آخر، في شجرة أو حيوان أو أيّ شيء، فالذّرات لا تفنى ولا تزيد في الكون”[15]، ويرى أيضا أنّ “الكلّ – أي في الكون – من طلعة واحدة، فنحن فينا ما في النّجوم والبحر والحيوان، فهي ذرات تتجمّع وتتفكك وتعمّ العالم، فهو وجود واحد، كلّ يخضع لنفس السّنن والقوانين، فتكوننا جميعا واحد؛ وإنّما تختلف الأشكال والأحجام، ولمّا تموت هذه الذّرات تنتثر، لكنّها لا تفنى في الكون، وإنّما تتشكل في مخلوقات أخرى كقطة أو كلب أو بقرة أو إنسان آخر وهكذا، ونحن أيضا من غبار النّجوم وفضاءات أخرى”[16].

ويعبّر عن الجسد بالنّفس، بينما الرّوح “شيء أزلي أبدي، ليس لها شكلا لتزول فتنمو في مكان آخر ليقال إنّها زالت، ولأنّها هي من روح الله فهي كالخالق تبقى ولا تزول”[17]، فهو يرى أزليّة الرّوح، إلا أنّ الجسد يتشكل بعد الموت في مخلوقات أخرى وفق سنّة طبيعيّة واحدة غير متناهية.

لينطلق بعدها إلى أدبيات الحكمة القديمة المودعة في الصّحف الأولى عند الأنبياء، فهل هي وحي أم إلهام، هذا السّؤال لم أجد صادق جواد يصرّح الجواب عنه، وإن كان مساق فكره يقود إلى الثّاني، فيرى أنّ “الفرق بين الحكيم العادي وبين النّبيّ أنّ الفكرة الّتي تستقر عند النّبيّ تبلغ رسوخا لا تبلغه عند غير النّبيّ، فيصبح النّبيّ والرّسالة الّتي يأتي بها شيئا واحدا”[18]، فيرى الأنبياء كالفلاسفة يجتمعون في الإصلاح، لكنّه يرفض فكرة الخلاص، “ولمّا نظروا إلى حراك الإنسان وجدوا أنّ هذا الحراك فيه تخبّط وشطط كبير،  وهذا لن ينتهي إلا أن يأتي شيء حاسم ينهيه وينقلنا إلى شيء آخر، فتصوّروا أنّ للكون نهاية، ونهايته تكون عندما يأتي مخلص كمسيح أو مهدي أو نحوه، وهذا كلّه من قبيل كما يقول الطّغرائي [ت 513هـ]:

أعلل النّفس بالآمال أرقبها   ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل”[19].

ويعلّل فكرة الخاتميّة في الأديان والإسلام خصوصا لأنّ “النّاس ظلّوا في الأرض يحتاجون إلى من يوجد لهم الطّريق الصّحيح للاهتداء به، فكان الأنبياء عندما يشطّ النّاس عن الطّريق يأتي نبي ليرجعهم إلى الطّريق الصّحيح، إلى أن جاء خاتم الأنبياء، ونقل ما عنده من رسالة، وعليه لم تعد الإنسانيّة في حاجة إلى نبي، فما احتواه من خبرة ومن رشد فلم يعد في حاجة إلى من يهديه”[20].

لهذا يجد صادق جواد أنّ “رسالات الأنبياء بمضي الوقت انطوت على نفسها، وبذا ابتعدت عن رافد المعرفة العلميّة، فركدت، وأمّا أفكار الفلاسفة انطلقت مفتوحة على المعرفة العلميّة، فتطوّرت، وفي القرون الأخيرة صيغ بها العالم المعاصر ولا يزال يصاغ”[21].

ومع هذا يرى أنّ “بين الدّين والفلسفة تصاحب عبر التّأريخ، ولمّا تأخذ الدّين من جانب الطّقوس والممارسات فهذا شيء، لكن لمّا تأخذه من خلال جوهره تجد أنّه لا يبتعد إطلاقا عن الفلسفة”[22]، إلا أنّه حين التّعارض يكون الحكم للعلم أو الاجتهاد الإنساني، “فالعلم هو ما يستقر في الذّهن ممّا يطابق الواقع في الطّبيعة، والّذي يستقر في الذّهن ولا يطابق ما في الطّبيعة فليس علما”[23]، حتى ولو ورد في صحف الأديان وأدبياتها.

لينزل فكره إلى الدّين الإسلامي الّذي ينتسب إليه ولادة، فيخلص أنّ “محوريّة القرآن تبقى كما هي، والأحاديث نتخلى عنها قليلا، فكما قال كمال الحيدريّ [معاصر] إنّ خمسة بالمائة يصح من صحاح الشّيعة، وقرأت من سنوات بعيدة لمحمّد جواد مغنية [ت 1979م] أنّ سبع عشر بالمائة جاء صحيحا فقط في أصل الكافي، وأصبحت مدركا ما أودع في هذه المجلّدات الضّخمة هي كتلمود اليهود، فأودعت فيها أمور كثيرة نخرج عنها، فبقي محوريّة القرآن، وهنا تعترضك مسألة مهمّة جدّا، وهي أنّ القرآن الكريم فيه عقائد غيبيّة، وهذه لا شأن لنا فيها، فكما تريد أن تعتقد فاعتقد، وكم من أناس يظهرون شيئا ويستبطنون شيئا آخر، فالتّوحيد والنّبوّة وصلتها بالسّماء والملائكة مثلا فلا يمكن التّغيير فيها، والنّاس أحرار كيفما يتعاملون معها، وأمّا الشّيء الثّاني في القرآن الكريم الأحكام أي الشّريعة، وهناك مبادئ عامّة، فيبقى شغلنا في المبادئ والأحكام، فالمبادئ أيضا تبقى كما هي؛ لأنّه لا ينظر إليها أنّها أتت من السّماء، وإنّما ينظر إليها لأنّه بها تكون صيانة الإنسان، فهي إنسانيّة عامّة، ولها صحة وثبات مستدام، وأمّا الأحكام فهي معلولة بعللها، أي أصبحت ظرفيّة، وهي موصولة بالمبادئ، ففي الإسلام في الميراث للّذكر مثل حظ الأنثيين، حيث كان هذا أمثل صورة للعدالة، لما كلّف به الرّجل من نفقة وغيره، فهذه صورة مثلى أن يجعل النّصيب الأكبر لمن كلّف بالنّفقة وتولي المسؤوليّة، فلمّا اختلف الزّمان والظّرف، وصارت المساواة بينهما، فإذا دخلت المرأة الجامعة لا يُقال لها ادّفعي نصف أجر الرّجل، وكذا إذا اشترت سيارة، فإذا لا توجد مراعاة في هذا فلماذا يكون لها نصيب نصف الرّجل في الميراث؟ فهنا تنظر إلى المسألة من جانب الكلّ لا الأجزاء”[24].

فهو في الجملة “ضدّ فكرة إصلاح الأديان، لتبقى كما هي، فهي أرث إنساني مهما كانت، عاشت بها شعوب كثيرة، ولكن لمّا تقول كيف أنظّم مجتمعي اليوم؟ هذا شيء آخر، ولكن لا تنال من القديم؛ لأنّه دخل في تهذيب الإنسان بشكل أو بآخر”[25].

وعليه في الاجتهاد الإنساني حسب رؤية صادق جواد، من حق الشّعوب أن تعتقد وتمارس ما تشاء، ولكن في التّعامل وإدارة الشّأن العام تكون هذه الأحكام خاضعة للأنسنة من جهة، والظّرفيّة من جهة ثانية.

أمّا الأنسنة الّتي يراها صادق جواد ليس بمعنى أنسنة النّص أو أنسنة التّأويل، وإنّما الأنسنة من حيث المرجعيّة، “من أوجه الأنسنة وجه يحاول فيه الفلاسفة المسلمون أن يقتربوا من الأنسنة عن طريق التّأويل، فتبقي النّص كما هو، وإنّما تجنّحه لصالح الأنسنة، وهذه في الحقيقة محاولة الاقتراب من الأنسنة، وليست هي الأنسنة، حيث أنّ معنى الأنسنة أنّه ليس فوق الإنسان شيء، فالاجتهاد الإنسانيّ حتى ولو كان قاصرا، فهو الّذي ينبغي أن يكون في فهم الطّبيعة وفهم أنفسنا ومسالك الحياة، فهي تفك الارتباط عن أي شيء فوق الإنسان، فالإنسان يهتدي بنفسه”[26]، “والأنسنة لا ترفض الأديان، فليست أفيون الشّعوب كما عند ماركس [ت 1883م]، فهي فهم للعالم من خلال أنسنة الإنسان، وبهذا تشمل الأديان في مراحلها التّأريخيّة”[27].

وأمّا الظّرفيّة فيرى عللها مرتبطة بالمبادئ، و”المبادئ لها صحة وثبات مستدام فهل نقول إنّ للأحكام كذلك؟ فالأحكام لمّا كانت متسقة مع المبادئ في حينها لم تعد متسقة في حين آخر، فإذا كان لابدّ من تغيير أو تطوير فيكون في الأدنى أي الحكم وليس المبدأ، فالأحكام جوانب إجرائيّة تتحرك بما تفيء بمتطلبات المبدأ”[28].

والمبدأ عند صادق جواد ينطلق من ارتباطه بالماهيّة، أي أن تكون الفكرة إنسانيّة وأصيلة، تسري على جميع البشر، وأن يكون مطلق النّفع، أي “مطلق النّفع ليس له حدّ من مردوده، وأن يكون مستدام الأثر في كلّ زمان ومكان، فهو لا يتغير لأنّه يصون الإنسان”، وأن يكون مدركا في وعي النّاس كافّة، بحيث لا يكون محلّ جدل، وأن يكون قابلا للتّطبيق في الخبرة البشريّة، ويتمثل في أربعة مبادئ: العدل، والكرامة الإنسانيّة، والمساواة، والشّورى، واعتبر المبادئ تتمحور في هذه الأربعة لأنّها “أساسيّة جامعة، وذات قابلية الانطباق على عموم المجتمع البشري، فليس هناك فرق في المبادئ بين النّاس، ومدركة عند عموم النّاس عقلا أنّها ضروريّة للمجتمعات الإنسانيّة، وغير محدّدة المردود؛ لأنّ بعض الأفكار  محدّدة المردود إذا تجاوز فيها حدّ أنقلب ضدّه”[29].

وتحت المبادئ تأتي القيم، “وهي تضفي شيئا على الإنسان باكتسابه، كالعلم مثلا لمن يطلبه، والتّعاون مع النّاس لمن يروّض نفسه بذلك، والصّدق من أعالي القيم، فالقيم تتفاوت بين النّاس نسبيّا، ولكنّها تسمّى قيمة لأنّها تضيف شيئا في الإنسان”[30].

ثمّ تأتي الأخلاق، والخلق عنده “حالة داخليّة ذاتيّة لا علاقة لها بالمعشر الخارجي، فقد تجد إنسانا حادّا لكن قلبه نظيفا، فبنيته الدّاخليّة نظيفة، ولمّا نقرأ في القرآن: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم/ 4] ليس بمعنى المعشر، وإنما الذّات في الدّاخل طاهرة نظيفة”[31]، فالأخلاق هي “المسلك الدّاخلي الّذي ينضح بإنسانيّة الإنسان في كلّ مناهجه”[32].

ويحبّذ صادق جواد في التّعامل الإنساني التّعبير بالاستقامة بدل الخلق، لسبب سوء استخدام هذا المصطلح ومطاطيته، ولكنّه يرى الاستقامة “لا تعني البحث عن فلان وعلان ماذا فعلوا وقالوا، وإنّما أوجد في ذاتك إلزاما لنفسك بعد صيانة البدن، وتوسيع المعرفة وفهم الوجود، على أن تكون ملتزما بها”[33].

ومن خلال هذه التّراتبيّة يرى أنّ “العادات والتّقاليد لم ترد في الأثر الإسلامي بذكر حميد، ونجد هذا في القرآن الكريم: {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزّخرف/ 23]، والّذي جاء في أدبياتنا الإسلاميّة العرف، والعرف ما تعارف النّاس على صلاحه، فبعض ما نسميه عادات وتقاليد يلامس هذا العرف، وفي القرآن للعرف مكانة في تنظيم المجتمعات، وفي الحفاظ على وئامها واستقرارها في الدّاخل، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف/ 199]، وهذا للنّدب”[34]، ويرى الحاكميّة في ذلك للمبادى.

ومن جهة ثانية يرى المبدأ مرتبطا بالماهيّة لا بالهوّيّة، فالماهيّة “تُعرّف الإنسان من حيث كينونته الوجوديّة، أي تلك الّتي نشأ من رحمها أصلا، وبقي عليها فطرة، مدى ما عاش، أيّا كانت معرفات هوّيته”[35]، والهوّيّة “تُعرّف المرء من حيث انتماءاته الخارجيّة، أي تلك الّتي بعضها ألحقت به من مجتمعه، والبعض الآخر اتخذها هو لنفسه”[36]، وعليه “الإنسان بماهيّته الوجوديّة أولا، ثمّ بهوّيّاته الانتمائيّة، بمعنى بقدر ما يرّشد الإنسان هوّيّاته الانتمائيّة بوعي من ماهيّته الوجوديّة بقدر ذلك يصلح ويترشّد وينمو في إنسانيّته”[37].

لهذا يربط صادق جواد بين الماهيّة والإنسانيّة من جهة، وبين الماهيّة والمبادئ من جهة ثانية، وبذلك “ينتظم بها شأن المجتمع الإنساني جميعا في دائرة الصّلاح والنّماء والتّطور نحو الأحسن، بغض النّظر عن الفوارق التّعدديّة بين الشّعوب من تنوع ثقافيّ ودينيّ ومذهبيّ وعرقيّ”[38]، “فالمبدأ مساحته غير محدودة، فالمبادئ يصلح بها حال أيّما مجتمع، وفي غيابها يتدنى ويفسد، وهذه المبادئ لا تلزم أحدا بأيّ عقائد غيبيّة، ولا شعائر وطقوس عمليّة، فهي مبادئ يحتكم إليها في تنظيم المجتمع”[39].

وعليه يخلص أنّ “الإنسانيّة ليست موقعا أو مرحلة أو حالا جامدا، الإنسانيّة في ارتقاء أو في انحدار، فإذا انحدرت تلامس البشريّة الحيوانيّة، وإذا ارتقت تلامس ممّا لا سقف للارتقاء، ولمّا تقول إنّ للإنسان نزعات سلبيّة فنعم، فملكة التّفكير ممكن أن تنحرف بالإنسان إلى إنتاج شيء سلبي، كما نجد في الأسلحة وغيرها، ولكن إذا كان ارتقاء الإنسانيّة إلى الأعلى فتجد أنّها تتوجه إلى توائم أكثر وأكبر وأعرض بالرّوح، والرّوح صفاء كامل، لا تشوبها أيّ شائبة، فالإنسان نعم ممكن أن ينحدر وممكن أن يرتفع”[40].

ثالثا: المجتمع والدّولة من الهوّيّة إلى الأنسنة [نماذج عمليّة]

كما اشتغل صادق جواد على الفرد اشتغل على المجتمع والدّولة، بحكم عمله أولا، وبحكم تأمّله وسفره ثانيا، ليخلص إلى نماذج عمليّة تدور حول الفردانيّة من جهة، والأنسنة من حيث المبادئ الأربعة الكبرى من جهة ثانيّة، مع مراعاة الهوّيّة والخصوصيّات من جهة فردانيّة أو فئويّة خصوصية، إلى الأنسنة من حيث الشّأن العام، أي تكون للاجتهاد الإنسانيّ، ونضرب هنا بعض النّماذج.

علاقة الحقوق بالمواطنة من جهة والحريّة من جهة أخرى:

يرى صادق جواد أنّ “للحقوق منظومتان: منظومة حقوق الإنسان، ومنظومة حقوق المواطنة، وبالنّسبة للأولى ليست لأيّ دولة معينة، فهي عالميّة لها مواثيقها وأدبياتها، ولا يصح لأيّ دولة التّدخل فيها، وإنّما عليها الموائمة من خلال المرجعيّة العالميّة، وأمّا حقوق المواطنة فيدخل في هذه الدّولة، ولهذا نجد حقوق المواطنة تختلف من دولة إلى دولة، عكس حقوق الإنسان، والمعادلة كلّما كانت حقوق المواطنة وافية من حيث تلائمها مع حقوق الإنسان كلّما كانت أقرب إلى الإنسان وحقوقه وكرامته، فعلى الدّول أن تنظّم حقوق المواطنة في تلائم مع حقوق الإنسان؛ لأنّ حقوق الإنسان أكثر سعة”[41].

وعلاقة الحقوق بالحريّة حيث “يتصوّر العديد أنّ الحريّة هي مبدأ، والصّحيح هي قيمة ضروريّة بقدر ما تمكّن الإنسان من الإبداع والإنتاج؛ لأنّها ليست مطلقة النّفع، فالحريّة بدون مسائلة تخرج عن حدودها، وشرط المبدأ – كما أسلفنا – أنّه مطلق، فالحريّة يقابلها المسائلة، فلا يمكن أن تولّي شخصا مسؤولية بدون مسائلة، وإلا حدث انفلات”[42]، “والحريّة الّتي تبحث عنها هي ليست في المسلك؛ وإنّما هي في الفكر، ولا يوجد قيد على مستوى الفكر، ولا على مستوى العقائد، هذه الحريّة مطلقة، لكن أن تتصرّف كأن تقول أنا هكذا أرى لذلك أنا أتصرف هكذا؛ هذا شيء آخر يختلف، والقرآن لم يستخدّم كلمة الحريّة، إنّما استخدم كلمة الحرّ، ورسم العرب لكلمة الحر بمعنى النّبيل الكريم الشّهم، فليس من باب أنّه طليق، فرب طليق ليس حرّا، وربّ حرّ هو ليس طليقا، وتستشهد من هذا أنّ الرّسول الأعظم لمّا دخل مكة، وأحاط به الجماعة الّذين عادوه، وهم خائفون لما سيعمل فيهم، وجاء أبو سفيان [ت 31هـ] وقال: ما أنتَ صانع بنا؟ فقال له: اذهبوا فأنتم الطّلقاء، ولم يقل أحرارا”[43].

الدّولة بين التّحديث والحداثة والحضارة:

هناك من يمايز بين التّحديث والحداثة، حيث يذهب “العديد من الباحثين في الدّراسات الحداثويّة النّقديّة إلى التّفريق بين الحداثة والتّحديث، فيرون هناك فارق بينهما؛ لأنّ الحداثة في جوهرها تحديث للوعي والقيم الكبرى للإنسان، بمعنى إحيائه بماهيّته وكرامته الإنسانيّة، وبين التّحديث الّذي هو أقرب إلى العمران والبناء المادي”[44]، بينما أجد صادق جواد يميل إلى ربط الحداثة بالتّحديث وممايزها عن الحضارة، وهذا ما وجدته مع الفيلسوف المصري مراد وهبة [معاصر].

لهذا يرى صادق جواد “أنّ الحضارة غير الحداثة، الحداثة تعني جملة المنتجات والمهارات والأنظمة المستحدثة في كلّ عصر، يمتلكها ويستعملها الجيل المعاصر عبر العالم بنسب متفاوتة بين الدّول.

معطيات الحداثة تبتكرها الدّول المتقدّمة، وتستوردها الدّول النّامية، كلّ حسب استطاعتها الاقتصاديّة، ومجرد امتلاك معطيات الحداثة واستعمالها لا يترجم بالضّرورة إلى حال حضاري، ذلك أنّ معيار  الحال الحضاري يختلف: هو كأمر أساس يمت إلى استقرار المبادئ والقيم الصّائنة حقوق الإنسان، والميسرة لمعاشه، والمنمية لقدراته، والمسعدة لحاله، بهذا المعنى تحضّر المجتمعات يكون بمقدار ما هي تفي بالمعيار الإنساني، بصرف النّظر عن مقدار امتلاكها واستعمالها معطيات الحداثة، في الخلاصة، الحداثة قد تهيئ للارتقاء الحضاري، لكنّها لا تصنعه”[45].

هيئات المجتمع المدني والسّلطة:

ينطلق صادق جواد في العلاقة بين هيئات المجتمع المدني والسّلطة من خلال المثقف ذاته، حيث يرى أنّ العلاقة بين المثقف والسّلطة علاقة رصد لا علاقة تضادّ وتنافر من جهة، ولا علاقة تبرير من جهة ثانية، “فيبقى راصدا لما يصدر من اجتهاد الحكومة، فهو معنيّ بما يحصل في مجتمعه، فيمايَز عن الشّخص الّذي يهتم فقط بما يتعلّق به كالتّاجر المهتم فقط بالتّجارة، فهو كما أنّه يرصد أيضا بالوسائل المتاحة لديه يبدي رأيه، فهو لا يحتكر الحكمة، وهو ليس عدوّا للسّلطة، وإنّما هو راصد، وعليه واجب التّبيين”[46].

وهذا ينطبق على هيئات المجتمع المدنيّ ذاتها، “لا تنصب نفسها خصما للحكومات، ولا تتصرّف كمنافس لها، وهي بالتّأكيد لا تعرض  نفسها كبديل عن الحكومات في تقرير الشّأن الوطني وإدارته، ذلك أنّها لا تمتلك شرعيّة التّمثيل، ولا أهليّة التّصرّف مستلقة في أداء أي عمل وطنيّ، دور هيئات المجتمع المدنيّ يتأطر في المشاركة في العمل الوطنيّ بوسائل البحث والتّثقيف، وتبيان الخيارات، وتقديم المشورة، أمّا حيث يأخذ دورها موقف النّقد أو الاعتراض على سياسة رسميّة معينة فمبعثه رؤية موضوعيّة لا ترى في تلك السّياسة المتبعة، أو المزمع اتباعها، خيارا صائبا في خدمة الصّالح الوطنيّ،  من خلال ذلك تسهم هيئات المجتمع المدنيّ في إثراء وتصويب الاجتهاد الوطنيّ، فتمكّن من بلورة سياسات أرجح، وحلول أوفق للقضايا الوطنيّة والإنسانيّة، كلّ هيئة مركزةً جهدها واجتهادها فيما تُعنى به من أمر، ما يشفع لنشاطاتها ويوّلد قبولا شعبيّا لها في أداء هذا الدّور الحيويّ كونُها مؤسّسات غير ربحيّة، تعمل بمعزل عن دوافع مصلحيّة شخصيّة، أو نفوذ رسمي، وكونُها تعمل بشفافيّة تجعل جميع معاملاتها مكشوفة للتّمحيص، وعرضة للمساءلة في أيّ وقت من قبل المواطنين عامّة، ومن قبل المنظمات والحكومات”[47].

لا دولة بلا دستور، ولا دستور بلا فصل للسّلطات:

لعلّ مسألة الدّولة ودساتيرها من أهم القضايا الّتي شغلت صادق جواد بعد الأنسنة، وهذا ذاته يحتاج إلى كتابات مستقلة في تفكيك رؤية صادق جواد، فهو يرى “عندما ينظَم الشّأن الوطنيّ في إطار دولة، يُنظَم وفق دستور يولى الدّولة كامل السّلطة لإدارته،  تباعا، تفرّع الدّولة وفق دستورها السّلطة العامّة في ثلاث: سلطة تشريعيّة، سلطة تنفيذيّة، سلطة قضائيّة، وفق دستورها أيضا، تنظّم الدّولة العلاقة بين السّلطات الثّلاث على مبدأ الفصل ومبدأ التّعاون معا في ترادف،  مبدأ الفصل يحول دون تفرّد أيّة سلطة بصنع القرار الوطنيّ، مبدأ التّعاون يلزم السّلطات الثّلاث بصياغة القرار الوطنيّ بمنهجيّة الشّراكة المؤسّسيّة ما بينها وفق ما ينصّ عليه الدّستور، بالمبدأين معا يتحقّق مطلب ممارسة الاجتهاد المتكامل في الشّأن الوطنيّ، وأيضا يُتغلّب على أيّ تعمّد قد يلجأ له في الإعاقة والتّعطيل، من الدّساتير العالميّة ما يعلي نسبيّا مبدأ الفصل بين السّلطات على مبدأ التّعاون ما بينها، كما مثلا دستور الولايات المتحدة الأمريكيّة، ومنها ما يعلي نسبيّا مبدأ التّعاون على مبدأ الفصل، كما مثلا دستور جمهوريّة الهند،  لكن السّائد عالميّا هو تبني المبدأين معا في ترادف، لأجل إيجاد التّوازن، وتباعا لضمان سلامة سير الأمور”[48].

الدّولة العصريّة والدّولة المعاصرة:

يمايز صادق جواد بين الدّولة العصريّة والدّولة المعاصرة، “فالدّولة العصريّة هي تلك الّتي تتسم بنية ونظاما بسمات هذا العصر، بذلك هي تتمايز عن الدّولة المعاصرة الّتي تعيش في هذا العصر، وتستفيد من معطياته، لكنها لا تزال تركد في نمط بنيويّ ماضوي، وتعمل بنظام حكم غير ديمقراطيّ على الوجهين، الدّولة المعاصرة، خلاف الدّولة العصريّة، تقصر عن تحقيق طموحات شعوب هذا العصر”[49].

ويرى أنّ الدّولة العصريّة تتمايز عن الدّولة المعاصرة من خلال معايير ثمانية: النّظام الدّيمقراطيّ، والمواطنة المتساوية، وسيادة القانون، واقتصاد منتج منصف، ونماء معرفي مطرّد، واستقرار سياسيّ مع وئام اجتماعيّ، وردع الفساد، ومواكبة الحضارة[50].

الدّيمقراطيّة بين الدّين والعلمانيّة:

يرى صادق جواد أنّ “الدّيمقراطيّة مدنيّة علمانيّة، مع أنّ العلمانيّة لا تكون ديمقراطيّة في جميع الحالات، إذ قد ينشأ منها ما هو متناقض مع روح الدّيمقراطيّة الملتزمة بالمبادئ …. في المقابل، ليست الدّيمقراطيّة معادية للدّين، إنّما هي غير مستمدة منه، وغير مقيدّة به، وليست قائمة عليه، الدّيمقراطية بطابعها المدني تسع الدّين والعلمانيّة معا، تستوعب منظوريهما المتمايزين، ومن ثمّ تحملهما على التّعايش، بل وعلى التّثاقف والتّعاون فيما يثري المعرفة والفكر، ويعزّز مكارم الأخلاق في الخبرة الإنسانيّة، من وجه آخر، الدّيمقراطيّة ترعى الدّين، وتحمي حريّة المعتقد، وتصون حق المتدينين في ممارسة شعائر ما لهم من دين،  بمثل ذلك هي تحمي وتصون مختلف المذاهب في المعرفة والفكر الفلسفيّ”[51].


[1] تحدّث صادق جواد عن حياته في حوار له نشر في مجلّة نزوى عدد 1 أبريل 2006م، مع الكاتب ناصر صالح، ونشر في كتاب سلامة الفكر بسلامة منهج التّفكير: المقالات والقراءات والحوارات، ط روافد، لبنان/ بيروت، قراء المعرفة، عمان/ مسقط، الطّبعة الأولى، 1442هـ/ 1021م، ص: 286 – 287.

[2] الإنسان والماهية: محاورات في الدّين والفلسفة والشّأن الإنسانيّ مع المفكر صادق جواد سليمان،  إعداد: بدر العبريّ، ط روافد، لبنان/ بيروت، قراء المعرفة، عمان/ مسقط، الطّبعة الأولى، 1442هـ/ 1021م، ص: 45 – 47.

[3] الإنسان والماهية، ص: 126 – 127.

[4] رسالة عن طريق الإميل الاكترونيّ بتأريخ 8 يونيو 2021م.

[5] ألقيتها ضمن شهادة ألقيتها في برنامج “كتاب مفتوح” مع الدّكتور الأديب عبد الرّزاق الرّبيعي والشّاعر وسام العاني، وكانت الحلقة افتراضيّة مع المفكر العمانيّ صادق جواد سليمان بحضوره، من تنظيم مركز حدائق الفكر، ولاية البريمي/ سلطنة عمان، الخميس 18 مارس 2021م، ونشرت في أحد الصّحف العراقيّة الالكترونيّة، وقد طلبت مني جريدة الرّؤية العمانيّة عن طريق الأستاذ محمّد رضا اللّواتي إعادة نشر الشّهادة له في الجريدة، فنشرت يوم الخميس 29 يوليو 2021م.

[6] الإنسان والماهية، ص: 80.

[7] لصادق جواد نظريّته حول الإيمان، ليس بالمعنى الكلاسيكيّ، وقبل ذهابه إلى الهند أخبرني برغبته في التّوسع في مقالة في هذا، وأرسل لي من الهند عن طريق الإميل الاكترونيّ بتأريخ 8 يونيو 2021م أنّه  بغرض الكتابة عن الإنسان المؤمن، وله ورقة ألقيت في مركز الحوار العربيّ بواشنطن 10 أبريل 2000م بعنوان: الإيمان: حال في الدّاخل، وأداء في الخارج، طبعت ضمن كتاب سلامة الفكر بسلامة منهج التّفكير، ص: 11 – 20.

[8] الإنسان والماهية، ص: 126.

[9] المرجع نفسه، ص: 92.

[10] المرجع نفسه، ص: 153 – 154.

[11] ناقش مرتضى مطهري فلسفة الإنسان الكامل في كتابه “أنسنة الحياة في الإسلام”، وفي نظره الإنسان الكامل عند الفلاسفة “هو الّذي وصل عقله حدّ الكمال، بمعنى أنّ في ذهنه صورة لهيكل الوجود مرتسمة عن طريق الاستدلال والمنطق والبرهان، وأنّه بلغ تلك المرحلة بالاستدلال والفكر والمنطق”، وعند مدرسة العرفان والتّصوّف الإنسان الكامل يتمثل في “العشق [أي الله]، وفيما يوصل العشق إلى الإنسان”، والإنسان “وهو في أول طريق البحث عن الكمال يجب أن تكون حركته صاعدة عموديّة، أي باتّجاه الله”، “وهنالك مدرسة أخرى بخصوص الإنسان الكامل وهي مدرسة لا تتكئ على العقل، ولا على العشق، بل هي تستند على القدرة، فالإنسان الكامل في هذه المدرسة هو الإنسان المقتدر، فالكمال هو الاقتدار، هو القوّة، مهما تكن مفاهيم القوّة متنوعة”.

ينظر: أنسنة الحياة في الإسلام، مرتضى مطهريّ، ط دار الإرشاد للطّباعة والنّشر والتّوزيع، لبنان – بيروت، الطّبعة الثّانية، 1441هـ/ 2020م، ص: 122 – 123.

[12] الإنسان والماهية، ص: 84.

[13] هذي القراءة التّمهيديّة كتبتها بعد تدوين عشر لقاءات مع صادق جواد، ومن خلال جلستي معه لساعات طويلة في أكثر من لقاء، وقد نشرتها في مجلّة الفلق الالكترونيّة العمانيّة بتأريخ 4 يوليو 2021م، فاطّلع المفكر صادق جواد على هذه المقالة وهو في رحلته العلاجيّة بالهند، فأرسل لي رسالة عن طريق البريد الالكتروني بتأريخ 7 يوليو 2021م نصّها: “العزيز الشّيخ بدر بن سالم العبري؛ السّلام عليك وعلى جميع أصدقائنا الأعزاء، اعتذر لانقطاعي في التّواصل معكم، وذلك لانصرافي إلى سلسلة المراجعات الطّبيّة انتهت اليوم، عبر فحص للعيون مقرر بعد أسبوعين، قرأت مقالك في الفلق فما رأيت غير نقل أمين، وشرح مختصر سليم، أبارك لك سعة صدرك، وعرض أفقك، وأنت بعدك في مطالع حراكك المعرفيّ، أتمنى باستطراده أن تبلغ شأوا مشهودا في الوطن العربيّ، وسائر العالم العربيّ والإسلاميّ، أخيرا شكرا على كلّ ما لقيت منكم دائما من محبّة ورعاية، مكررا سلامي للجميع” صادق جواد، وأعدتُ نشرها كما هي في مقدّمة كتاب الإنسان والماهية، وهنا أنشرها في هذا البند مع الاختصار وبعض التّصريف البسيط.

[14] الإنسان والماهية، ص: 46 – 47.

[15] المرجع نفسه، ص: 92.

[16] المرجع نفسه، ص: 153 – 154.

[17] المرجع نفسه، ص: 92.

[18] المرجع نفسه، ص: 113.

[19] المرجع نفسه، ص: 155.

[20] المرجع نفسه، ص: 155.

[21] سلامة الفكر، ص: 256.

[22] الإنسان والماهية، ص: 48.

[23] المرجع نفسه، ص: 48.

[24] المرجع نفسه، ص: 134.

[25] المرجع نفسه، ص: 133.

[26] المرجع نفسه، ص: 126 – 127.

[27] المرجع نفسه، ص: 130.

[28] المرجع نفسه، ص: 135.

[29] للمزيد ينظر: سلامة الفكر، ص: 116 – 117.

[30] الإنسان والماهية، ص: 68.

[31] المرجع نفسه، ص: 67 – 68.

[32] المرجع نفسه، ص: 81.

[33] المرجع نفسه، ص: 236.

[34] المرجع نفسه، ص: 69.

[35] سلامة الفكر، ص: 206.

[36] المرجع نفسه، ص: 206.

[37] الإنسان والماهية، ص: 59.

[38] المرجع نفسه، ص: 63.

[39] المرجع نفسه، ص: 63.

[40] المرجع نفسه، ص: 84.

[41] المرجع نفسه، ص: 94 – 95.

[42] المرجع نفسه، ص: 179.

[43] المرجع نفسه، ص: 180 – 181.

[44] مقالة الحداثة وإحياء الإنسان العربيّ لبدر العبريّ، نشر في جريدة عمان، 21 مارس 2022م.

[45] الإنسان والماهية، ص: 109 -110.

[46] المرجع نفسه، ص: 182.

[47] سلامة الفكر، ص: 78.

[48] المرجع نفسه، ص: 150.

[49] المرجع نفسه، ص: 155.

[50] فصّل صادق جواد هذه المعايير الثّمانية في مقاله: الدّولة المعاصرة والدّولة العصريّة، ص: 155 – 163.

[51] سلامة الفكر، ص: 194 – 195.

السابق
حوار حول صادق جواد سليمان مع بدر العبري
التالي
قراءة في كتاب “محمّد: قراءة حديثة في سيرة رسول النّور والسّلام” لحسين غباش ت 2020م
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً