جريدة عمان، 1445هـ/ 2023م
لمّا نتحدّث عن العدل كقيمة مطلقة فنحن في الحقيقة نتحدّث عن العدالة كجانبٍ إجرائيّ، والحديث عن العدالة حديث عن ثلاثة عناصر رئيسة: النّسبيّة والفرديّة والظّرفيّة، فالعدالة غاية لتحقّق العدل، والعدل مطلق، ولا يمكن تحقّق المطلق بمعناه الكلّيّ، ولكن يبقى غاية للاقتراب منه من خلال الإجراء – أي العدالة -، فكلّما اقتربنا من العدل اقتربنا من المطلق، لهذا نتمثل العدل إجرائيّا من خلال العدالة في صورتها النّسبيّة.
هذا التّمثل في تحقيق العدل لا يمكن تحقّقه إلا بعد تمكين المساواة، والمساواة أيضا مطلقة كالعدل، بمعنى في الدّولة القُطريّة أو الوطنيّة أنّ المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات، وفلسفيّا الجنس البشريّ متساوون باعتبار ماهيّتهم الواحدة، فلا يفرق الذّكر عن الأنثى، ولا الأبيض عن الأسود، ولا الكبير عن الصّغير، وأيّ انتماءات كسبيّة بسبب دين أو مذهب أو عرق أو انتساب مناطقيّ يبقى مرهونا بالماهيّة الواحدة، لا حاكما عليها، ومتميّزا بانتماءاته، فهذا لا قيمة له من حيث المواطنة، ولهذا لا يمكن فصل العدل عن المساواة، ولا تتحقّق العدالة إجرائيّا بعيدا عنهما، ثمّ لا يمكن تحقّق المساواة والعدل إلا في البُعد الفرديّ؛ لأنّ الماهيّة – كما أسلفنا – واحدة، وحتّى لا تطغى الاعتبارات الجمعيّة الانتمائيّة على العدالة الفرديّة.
لهذا كانت الظّرفيّة متمثلة في إنزالات العدالة، لا من حيث التّحايل على الاقتراب من العدل المطلق؛ ولكن لأجل تحقيق العدالة من خلال منطق الواقع، فتأمين الحياة لذوي الاحتياجات الخاصّة لا يعني حرمان غيرهم، ولكن ظرف الواقع يترتب أن تكون العدالة متمثلة في هذه الصّورة، وهذا يحقّق المساواة، فغير ذوي الاحتياجات الخاصّة قادر على الكسب، لكن – مثلا – أن يعطى شخص ما أرضا لاعتبارات قبليّة، أو يقرّب شخص على وظيفة ما لاعتبارات شخصيّة؛ فهذا انحراف عن العدالة، وهيمنة الانتماء على المساواة بين المواطنين من حيث ماهيّتهم الواحدة.
وافتتحت عُمان عامها الهجريّ الجديد 1445هـ بالمرسوم السّلطانيّ المتمثل في قانون الحماية الاجتماعيّة، وغايته كما جاء في وكالة الأنباء العمانيّة “ارتقاء بجودة الحياة، وتعزيز الاستثمار في المجتمع، وحفاظا على حقوق الأجيال المستقبليّة”، والّذي يهمني هنا منافع الحماية الاجتماعيّة النّقديّة، والّتي تتمثل في: منفعة كبار السّن، ومنفعة الطّفولة، ومنفعة الأشخاص ذوي الإعاقة، ومنفعة الأيتام والأرامل، ومنفعة دعم دخل الأسر، بجانب فروع التّأمين الاجتماعيّ.
ولست هنا بصدد تفصيل هذا القانون، فممكن الرّجوع إليه، ولكن الّذي يهمني هنا أنّ صدور هذا القانون في هذه الصّورة يعتبر خطوة متقدّمة في تحقيق العدالة الاجتماعيّة، بدل العشوائيّة السّابقة الّتي صاحبها شيء من المحسوبيّات، ممّا أوجد شيئا من التّفاوت الاجتماعيّ، وعدم الرّضا في المجتمع.
وفي الذّكرى الثّالثة لتولّي السّلطان هيثم بن طارق آل سعيد – يحفظه الله – مقاليد الحكم في عُمان “أسدى أوامره السّامية بتقديم دعم مالي للفرق الخيريّة التّابعة للجان التّنميّة الاجتماعيّة بجميع الولايات، وتكريم المتطوّعين العاملين فيها، وكذلك تقديم دعم مالي للجمعيّات الخيريّة الدّاعمة لجهود وزارة التّنمية الاجتماعيّة؛ تقديرًا من لدن جلالته – أعزّه الله – للجهود والأدوار الّتي يقومون بها في خدمة المجتمع”، حينها كتبتُ مقالة لجريدة عُمان بعنوان “الفرق والجمعيّات الخيريّة وتكريم جلالته” أشرتُ فيها إلى أهميّة الانتقال إلى الجانب المركزيّ والتّقنينيّ لهذا الأمر، مع توسعة المساحة الاجتماعيّة في التّعاون المدنيّ والأهليّ، لهذا سعدت بقانون الحماية الاجتماعيّة فيما يتعلّق بالمنافع وتدويرها ومركزيتها والعدل فيها، وهو تحقيق لآمال شعب يستحق الكثير.
كما أنّ الالتفاتة إلى هذا الجانب من قبل جلالته، وهو في سنته الثّالثة من توليه الحكم في عُمان، دليل واضح على اعتباره المواطن كإنسان قبل أيّ اعتبار ماديّ، وهذا يجعلني أيضا أكرّر ما قلته في مقالة لي بعنوان: “العام الجديد واستشراف المستقبل” ونحن نفتتح العام الشّمسيّ الجديد، وممّا قلتُ فيها: “علينا أن ندرك أنّ الإنسان قبل البنيان، فالمجتمع بحاجة إلى طرق وجسور وناطحات سحاب وغيرها، ولكن هذا لا يعني إهمال الإنسان كفرد، فالعدالة الاجتماعيّة تؤدّي إلى تدوير المال، وأن لا يكنز سلبيّا أي يدور بين فئة معينة، ممّا تتولد طبقيّة لا يهمّها مستقبلا الوطن بقدر ما يهمّها ذواتها ومصالحها الشّخصيّة، لهذا لابدّ ابتداء من تحقّق الأمن الشّهوانيّ [الماديّ] للإنسان بشكل إيجابيّ، بمعنى أن يكون هناك مستوى يحصل عليه كلّ فرد يحقّق كرامته الإنسانيّة، وهذا بدوره يحرّك المال العام، وينشّط اقتصاد السّوق، ويضعف من معدّلات الجرائم والأمراض النّفسيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة”.
وفي نظري – من حيث استشراف المستقبل وفق المعطيات الحالية – أنّ قانون الحماية الاجتماعيّة فيما يتعلّق بالمنفعة، إذا ما أحسن توظيفه وإنزاله، وكان الجميع ساعيا في تحقيق غاياته، محفوفا بالنّظر إلى عُمان أولا قبل أيّ اعتبارات ذاتيّة، متبوعا بالرّقابة والمسائلة، هذا الجانب سيكون له تأثير إيجابيّ استقرارا وتنمية واستثمارا واقتصادا، مع دوران للمال، وتحقيق للعدل الاجتماعيّ، وهذا ما نرجوه، بحيث يخرج العقل الجمعيّ من الأنا السّلبيّ إلى العدل الكليّ، بمعنى أنّ المصالح المشتركة فوق المصالح الفئويّة والذّاتيّة، وأنّ أحبّ للآخر المشترك معي مواطنة ما أحبّه لنفسي وعائلتي وعشيرتي ومن أنتمي إليهم ولاية أو قبيلة.
إذا تحرّر العقل الجمعيّ من الاعتبارات الشّخصيّة، والانتماءات الفئويّة، إلى مواطنة الماهيّة الواحدة، المتساوية بين الكل، مدركا أنّ إنزالات العدالة لا تنفصل عن هذا، وفق قانون واحد يجعلهم سواء، فوقه سلطة مدارها حماية هذا القانون، وتحقّق إنزاله وفق العدالة؛ بلا شك سيكون هذا من أكبر ثمرات قانون الحماية الاجتماعيّة، فتحقيق هذا القانون إجرائيّا أسهل من صياغة عقليّة جمعيّة تكون هي الحامية مستقبلا للعدالة الاجتماعيّة من داخل ذاتها، ولا يتوقف عند قانون يفرض عليها فقط، وهذا لا يتحقّق بمناهج التّعليم، ولا بمواعظ المنابر، ولا بندوات المراكز الثّقافيّة، فهذه وإن كانت تساهم بلا شك من حيث الوعي الأفقيّ؛ إلّا أنّ معايشة ذلك واقعا، وتمثله كشيء طبيعيّ في الحياة، يجعل العقل الجمعيّ قابلا بشكل طبيعيّ لهذه الطّبيعة الاجتماعيّة، محافظا عليها، منافحا عنها.
هناك مناطق في العالم، فيها خيرات تعمّ أفراد مناطقهم جميعا، لو أحسنوا تحقيق العدالة الاجتماعيّة بينهم، لاستقروا جميعهم، وكان التّفاوت يسيرا بينهم، ولكن أصبح يأكل بعضهم خيرات جميعهم، ففئة تتنعم بلا رحمة، وفئات تعيش حالات غير إنسانيّة من الفقر والتّشريد والتّفاوت الاجتماعيّ.
ثمّ لمّا نأتي إلى قانون الحماية الاجتماعيّة وفق ما أشرتُ إليه ابتداء من عناصر النّسبيّة والفرديّة والظّرفيّة؛ أجده يتماثل مع هذا كليّا، فهو يقترب إجرائيّا من العدل، كما أنّه يجعل المواطنين سواء وفق قانون واضح تحميه سلطات المجتمع، وتنزله مؤسّسات الدّولة، فليس بحاجة أن ينتظر دوره وفق رسالة يكتبها، أو تزكية من شيخ أو مسؤول، فقد يعطى، وقد ينتظر دوره سنين، وكم رأينا سابقا من يأتي دوره وصاحب الطّلب في عداد الأموات، ثمّ المبلغ المقدّر واضح وعلى مساواة بين الجميع، بقدر شهريّ يساهم في تدوير المال، فلا يعطى أحد أكثر من الآخر، ولا يحرم ممّن ليس له واسطة، أو ممّن يتكئ عليهم، أو يتعالى عليه فلان، أو يمنّ عليه آخر بين حين وآخر.
وأمّا الظّرفيّة بمعنى ليس جامدا، فقد يتناسب مع المبلغ المقدّر، وحالات صرف المنفعة اليوم، إلّا أنّه بلا شك سيتطوّر بما يناسب كلّ مرحلة، وقد تستجد حالات جديدة، كما قد يحتاج إلى مراجعات تظهر أثناء التّطبيق، وهذا شيء طبيعيّ، إلّا أنّه مرحلة متقدّمة في العدل الاجتماعيّ، وفق قانون يجعل الجميع سواء، إذا ما أحسن التّطبيق والإنزال.