بداية قد تكون هذه القراءة متأخرة نوعا ما لسبب ارتباطي بسفر جعلني بعيدا عن جهاز الكتابة، ولهدف آخر محاولة ترتيب الأوراق للمرحلة الزمنية القادمة ابتعدت قليلا عن القلم لأنشغل بالتأمل والعمل الذهني، وفي كل خير بإذن الله تعالى، ونأمل أن يكون القادم أكبر عمقا في سبيل التنوير بإذن الله سبحانه.
أما بالنسبة لموضوع الخطبة فجيد أن تخرج من عباءة جئت مغربا وجاء مشرقا إلى مناقشة قضايا الواقع، وحاجات الناس، خاصة وأنها في الفترة الأخيرة تخلصت من الإسهاب الممل إلى الإيجاز والتعدد في الأساليب وهذا شيء يحمدون عليه.
والخطبة ركزت في الجملة على قضايا جيدة ومهمة كقضية أمانة الكلمة وخطر ترويج الشائعات وضرورة العدل في القضاء.
وبطبيعة الحال لست هنا في محاسبة النيات، والأصل أننا نحمل لمن خالفنا فضلا عن إخواننا في الوطن أقل درجات حسن الظن ومحاول التقريب والتأليف، والإصلاح والعلاج، إلا أننا هنا في الحقيقة نعيش في قضية معرفية مهمة جدا، وهي بالدرجة الأولى قضية وطنية بحتة.
فلابد في البداية أن نفرق بين شيئين مهمين: بين القضايا الشخصية، والقضايا المدنية أو الوطنية أو المجتمعية.
ولنضرب لهذا مثلا بالوزير نفسه، له جانبان شخصي ومنصبي، أما الجانب الشخصي فهذه حريته، وهو حر فيها ويتحمل ثقلها بنفسه، وفي هذا الجانب لا يصح الحديث عن الأشخاص كأشخاص وحرمتهم ذاتية، وهنا يدخل القذف والغيبة والنميمة والبهتان، وأكل لحوم الناس بالباطل ولو كان حقا.
وأما الجانب المنصبي فلا يملكه الوزير أصلا؛ بل هو ملك للأمة بمجموعها، أو قل ملك للوطن الواحد، والحديث عن الفساد في الجانب المنصبي حالة صحية في الحقيقة، والمجتمع المدني هو الذي يتحدث عن هذا في مجالسه وكتاباته، لا أن ينشغل بالناس ولحومهم.
ولننزل الآن إلى الواقع، فالمجتمع وقت الخطبة معلق بقضيتين: قضية جريدة الزمن وما نشرته عن فساد بعض القضاة، ونتيجة ذلك من اعتقال، والقضية الثانية قضية مظاهر التاجر، وعودته من جديد في كشف بعض الأوراق، وتحديه لبعض المسؤولين.
في الحقيقة الآن لست بصدد تحليل القضيتين، وقدرتي في ذلك قاصرة، وهل هو نتيجة صراع في الأعلى أم مجرد نتيجة تحقيق صحفي، فالتأريخ كفيل بكشف الأوراق.
على العموم المجتمع بطبعه يتابع ما يحدث، ونحن اليوم لسنا في زمن السبعينات أو الثمانينات، أو حتى التسعينات الخبر لا ينشر إلا بعد المراجعة له، وكم من الأخبار ضمت وسترت، أو نشرت بطريقة يراه من يسوس هي الطريقة الأمثل لنشرها تحويرا أو بترا أو غير ذلك.
بل حتى نحن اليوم لسنا في زمن المواقع الإلكترونية التي تتحكم بها إدارة لها رؤاها المعينة، ومصالحها الذاتية…
نحن اليوم في عصر وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعه المتعددة، والذي تخلص بها الكاتب أو المواطن من متابعة وقيود غيره، إلى حريته في الكتابة وفق تعامله مع القانون، حتى أصبحت وسائل التواصل في نظري هي السلطة الرابعة وليست الصحافة، بل عشرات الصحف في العالم أصبحت تغلق اليوم بسبب الكساد المالي، وبعد الناس عن شرائها، واتجاههم إلى وسائل التواصل والقراءة الالكترونية!!!
فخبر القضاء، أو أي فساد إداري أو حكومي ليست قضية شخصية ملك لفلان أو علان؛ بل أن تتحول إلى قضية مجتمعية ووطنية أو ما يسمى بقضة رأي شيء طبيعي سيتحدث الناس حولها…
ومن السذاجة في نظري مع احترامي للآخر ورأيه أن يكون الخطاب مسطحا ليدخل في قضية الشائعات بمفهومها العام والتأكد من الخبر بصورته البسيطة، وكأن الناس في مجلس قبل خمسين سنة، وصلهم خبر عن طريق فلان أنه كذا وكذا!!!
الناس لا ينتظرون نقل فلان فالخبر بنفسه ينتقل وينتشر، ولذا يجب الانتقال إلى الجانب العملي في توكيد الخبر ونقاشه، وهذا يقوم به الصحافة نفسها إذا أعطيت الحرية، وكذا الصوالين الفكرية والثقافية، والأبحاث العلمية والميدانية، والعالم المدني انتقل إلى مؤسسات ووكالات مهنتها فرز الخبر بمصداقية وأحادية وفق الأمن القومي لكل بلد، وليس مجرد خطبة تحوي التحذير من نقل فلان وعلان، وكأننا نعيش في الماضي لا الحاضر بتقنياته ومؤسساته المدنية والمعرفية.
جاء كاتب إلى الرئيس الأمريكي كنيدي معترضا أن رئيس التحرير في صحيفة ما رفض نشر مقاله لأنّ الكاتب انتقد بعض سياسات الرئيس الأمريكي نفسه، فاستدعى كنيدي رئيس التحرير مستفهما ومعاتبا، ثم قال له: انظر إلى مصلحة أمريكا وليس الرئيس، فإن كان المقال في مصلحة أمريكا فانشره!!!
هذا في عصر الصحافة، عندما كانت الصحافة مستقلة كسلطة رابعة هدفها الوطن بدرجة أولى، وليست مسيسة ذات اليمين وذات اليسار، واليوم ينبغي أن يكون لها ذلك لانفتاح الناس إلى الإعلام الحر دون قيود من رئيس تحرير أو إدارة أو غيرها!!!
وعليه الأصل في نظري أن تشجع الخطبة الناس في تحليلهم للواقع، وانشغالهم بقضايا الوطن ومصالحه العليا وفق القوانين العامة والمرضية من الجميع.
ثم أنها تقدم حلولا عملية بتوجيه المجتمع المدني في إقامة مؤسسات مدنية حرة تتابع الأخبار وما ينتشر في المجتمع من أخبار وأحداث، على أن يكون هدفها الوطن ذاته، وليس التقرب إلى السلطة أو الشعوب، وإنما الانطلاقة من الوطن وإليه فقط.
مع علمي أن المجتمع اليوم لا يعط اهتماما كبيرا للخطبة إلا طقسا أسبوعيا يتكرر، حيث أصبح الفضاء الاجتماعي والإعلامي متاحا للجميع في أي وقت وثانية، والمهم اليوم من الخطبة والإعلام والمجتمع كيف يستطيع توجيه هذا الفضاء في خدمة المجتمع والوطن، واستغلال هذه الحرية في رفع مستوى المجتمع المدني القائم على المؤسسات المدنية ذات القانون الحامي لحريات الناس في الشراك في المجتمع تحت دائرة العدالة والمساواة المرتبطة بذات المواطن، بعيدا عن التخوين وسلسة التحذير والتهديد، وما ذلك ببعيد!!!
فيسبوك 1439هـ/ 2017م