مقدّم لدائرة البحوث الشّرعيّة بوزارة الأوقاف العمانيّة 1444هـ/ 2022م
العمل هو الجزء المقابل للقول، كان بنيّة قصديّة أو بنيّة تعبديّة، ويأتي في القرآن التّعبير إمّا صراحة في العمل، حيث وردت لفظة العمل في القرآن الكريم في ثلاثمائة وستين موضعا، أي كأنّه بعدد أيام العام أو قريب منه، وفي هذا إشارة لطيفة إلى أنّ حياة الإنسان قائمة على العمل والسّير والبناء، وقد يرد العمل بألفاظ أخرى أشهرها الفعل، وهذا ورد في تسعين موضعا في القرآن الكريم، والفعل يكون لمرة واحدة عكس العمل المفيد للاستمراريّة، إلا إذا ورد قيد ما يجعل الفعل مستمرا، كوروده بلفظ الفعل المضارع، كتفعلون ويفعلون.
وقد يأتي بمعنى الانتشار في الأرض كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]، فجمع القرآن بين العمل التّعبديّ المحض [الصّلاة = النّيّة التّعبديّة] وبين العمل في عمارة الأرض وإصلاحها وكسب الرّزق [النّيّة القصديّة]، فحثّ على الانتشار بعد الصّلاة في الأرض بفعل الأمر [فَانْتَشِرُوا] الدّال على النّدبيّة كما عند الجمهور، وهنا النّدبيّة لها درجاتها، وقد تصل إلى الأمر أو قريب منه حال تعلّق ذلك بمصلحة الغير، كطبيب يتوقف عليه حياة إنسان، أو تاجر يتوقف عليه قضاء حاجة مضطر، أو معلّم يتوقف عليه تعليم وإرشاد جاهل، فهذا أوجب وأعظم من المكوث في المساجد ولو لبعض الوقت.
والعمل في القرآن كثيرا ما يرد مقرونا بالصّلاح، وإن كان العمل في ذاته صالحا، إلا أنّه بالنّيّة السّيئة يكون العمل سيئا في ذات الفعل كالقتل والظّلم والبغي والبطش مثلا، ولهذا نجد القرآن كثيرا ما يقرن العمل بالصّلاح، كمثل قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النّحل: 97]، وقوله: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا} [طه: 75].
وقد يأتي مقرونا بغير الصّلاح إمّا مطلقا كقوله تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46]، وقد يأتي مقيّدا بالشّيطان كقوله: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص: 15]، أو بالفساد كقوله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81]، أو بالسّيئة كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40].
وقد يأتي مطلقا كما في قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [النّساء: 195]، وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61].
خلاصة ما سبق أنّ العمل في ذاته أصل في التّأصيل الإسلاميّ، والأصل أن يكون صالحا بذاته، وما جاء مقيّدا زيادة توكيد، وإذا قيّد بالسّلب فلأجل التّخصيص لعدم جعله سيئا أو من عمل الشّيطان، أو يكون فسادا في الأرض، كقوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]، أي كأنّ الفساد لاحق بعد إصلاح الأرض، أو لكونها صالحة بذاتها تكوينا.
لهذا سنجد التّصوّر الإسلاميّ كما أنّه يحذّر من الإفساد في العمل؛ إلا أنّه أيضا لا يجعل العمل الصّالح رهين الشّعائر التّعبديّة المحضة، ذات النّيّة التّعبديّة، فمن الخطأ أن ينحصر العمل في منظور بعض النّاس في القربات التّعبديّة المحضة كالصّلاة والصّيام والمكوث في المسجد، فإذا ما سمعوا كلمة عمل صالح في آيات الكتاب العزيز ذهبت أذهانهم إلى الشّعائر التّعبديّة المحضة، فالعمل هو حياة الإنسان نفسه من خلال علاقته بالآخر، وعلاقته بالأرض الّتي يعيش فوقها، والوجود الّذي يتعامل مع سنننه الطّبيعيّة، فالّذي يمارسه في المسجد يعدّ عملا؛ كذلك الذي يمارسه في البيت والسّوق ومكان الدراسة والعمل يعتبر من جنس العمل أيضا، وكلاهما يدخلان في العبادة؛ لأنّ مفهومها أشمل أيضا، فقط تختلف في أنّ الأول من جنس الطّقوس أو القربات ذات التّعبد والإلزام المحض، بينما الثّانية أشمل وأوسع.
وكما نجد سعة العمل في القرآن؛ نجدها كذلك في التّطبيق العمليّ الوارد عن النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – كرواية: “تبسّمك في وجه أخيك صدقة”، ورواية: “لأن يأخذ أحدكم أحبله ثمّ ياتي الجبل، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها، فيكفّ الله بها وجهه؛ خير له من أن يسأل النّاس أعطوه أو منعوه”، ورواية: “إن قامت السّاعة و في يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتّى يغرسها فليغرسها”.
هذه السّعة في مفهوم العمل في الإسلام، والّتي يختصرها عليّ بن أبي طالب [ت 40هـ] بقوله: “اعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا، واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا”، إلا أنّ لذلك درجات، وأعلا درجاته إتقان العمل، وكما قيل ليست العبرة بالكم، وإنّما العبرة بالكيف، وفي الرّواية: “إنّ الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”، والإتقان له ركنان: الإكمال من جهة، والتّميز المبنيّ على الدّقة والإخلاص من جهة ثانية، فقد يكمل الإنسان عمله في الوقت المحدّد ولكنّه ليس متقنا، وإنّما كما يقال “تمشية حال وتحليل واجب”، ولهذا يتجه العالم اليوم إلى آلية الاتقان وليس مقدار الكم، وهو الّذي تبنى عليه المؤسّسات المعرفيّة والعمليّة والإنتاجيّة اليوم، ولا يقتصر فقط عند مقدار ما يطلب إنتاجه من وقت زمنيّ، وإنّما ما يصاحبه من إتقان وإبداع وإخلاص.
وكما أنّ الإحسان أعلا درجة في العمل التّعبديّ المحض، فهو أعلا درجة أيضا في حياة الإنسان بشكل عام، ولهذا في الرّواية: “إنّ الله عزّ وجل كتب الإحسان على كلّ شيء”، وهذا بطبيعة الحال لا ينطبق فقط على الأفراد، بل يعمّ المؤسّسات بما فيها مؤسّسة الدّولة ذاتها، فإتقان الدّولة لوظيفتها المؤسّساتيّة، كانت تشريعيّة أم رقابيّة أم تنفيذيّة، ومن خلال الدّستور الواضح من جهة، والعدل في إنزاله من جهة ثانية، ومن خلال حسن استثمار موارد الدّولة، والعدل فيها، ما يقود إلى تحقّق الإتقان في أعلا صوره، ويحقّق الأمن في الأوطان، وبتمثل ذلك في الأفراد واقعا يؤدّي إلى تقدّم البلدان، والرّقيّ بها، فلا عمل صالح بلا إتقان، ولا تطوّر واستقرار إذا ارتفع ذلك عن الأفراد ومؤسّسات المجتمع ككل.