جريدة عُمان 1444هـ/ 2022م
مفهوم الدّولة القطريّة تزامن مع الدّولة الحديثة، وتشكل في أروبا تشكلا معرفيّا ودستوريّا في عصر الأنوار، إلا أنّه اليوم أصبح واقعا في العالم أجمع تحت مظلّة حقوقيّة واحدة، ولست هنا في صدد الحديث حول تطوّر مفهوم الدّولة القطريّة، ومدى تشابه بعض سياقاتها مع دولة القبيلة قديما، وإنّما يهمني هنا الواقع العربيّ والإسلاميّ عموما ورؤيته حول الدّولة القطريّة، ومحاولة بعضهم لاستنساخ تجارب سابقة مع واقع مختلف تماما.
بعد حادثة السّقيفة [11هـ] في الخطّ الإسلاميّ والعربيّ تجمعت القبائل المختلفة في زاوية واسعة جغرافيّا، وتمدّدت بتمدّد انتشار الإسلام، من الأمّة والإمارة، إلى الإمامة والخلافة، ابتدأت من الشّورى إلا أنّها رجعت إلى الوراثة في القبيلة أو الأسرة أو الشّخص الأقرب نسبا، وتباينت الشّورى بين الشّورى المطلقة في الأمّة كما عند الإباضيّة والعديد من المعتزلة، أو الشّورى وفق القرشيّة كما عند غالب السّنة وأهل الحديث، أو الشّورى في البطن الهاشميّ نصّا جليّا في عليّ بن أبي طالب [ت 40هـ] وذرّيته من بعده كما عند الإماميّة والنّصيريّة والإسماعيليّة والجاروديّة، أو نصّا خفيّا في البطنين من بني هاشم كما عند الزّيديّة، وجميعهم يقولون بالشّورى إلا أنّ أغلبهم قيّدها بالقرشيّة أو النّصيّة، كما اختلفوا في إطلاقيّة القيد من ظرفيّته خصوصا في القرشيّة كما يرى ابن خلدون [ت 808هـ] حيث “اشتراط الشّرع للقرشيّة في الخلافة …… لأنّ القوّة العصبيّة الّتي بها قوام الدّولة كانت زمن الخلفاء الرّاشدين في قريش، فهي وحدها الّتي كانت تستطيع حكم العرب، ولكن عندما ذهبت هذه القوّة العصبيّة من قريش زالت الحكمة من اشتراط القرشيّة، وبذلك لم يعد لها اعتبار”، وهو رأي الجوينيّ [ت 478هـ] قديما، ورأي أغلب المعاصرين حديثا، كما نرى ذلك عند محمّد عبد الرّحيم الزّينيّ إذ يقول: “إنّ أغلبيّة المعتزلة لا يشترطون شرط القرشيّة، وهذا يساير نزعتهم العقليّة في قولهم بأنّ الإمامة بالاختيار والاتّفاق بين المسلمين، وينسجم مع أدلّة العقل الّتي تقرر أننا جميعا متساوون في الإنسانيّة، وفي التّكريم والتّشريف والتّكليف، أمّا مسألة عنصريّة قوم على قوم، وأمّة على أمّة؛ فهو يناقض المنطق وصريح العقل، ويجافي مبادئ الدّين، وحقيقة الفطرة الإنسانيّة”.
الخلافة الأولى بعد السّقيفة قامت على الشّورى في قريش، حيث استطاعوا توظيف رواية “قدّموا قريشا ولا تَقَدّموها” لحل أكبر مشكلة بين المهاجرين والأنصار بعد وفاة النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم -، لتصبح رواية “الأئمة من قريش” قاعدة قيديّة لها ظرفيّتها حينها كقول عبد الله بن أبي السّرح [ت 36هـ]: “أيّها الملأ إن أردتم أن لا تختلف قريش فيما بينها فبايعوا عثمان” أي بعد وفاة عمر [ت 23هـ]، هذه الرّؤية ستضيق في الدّولة الأمويّة، فهي قائمة على القرشيّة كقيد ظرفيّ، إلا أنّها خصّت ذلك وراثيّا في البطن السّفيانيّ ثمّ المروانيّ من قريش، ثمّ تضيق الرّؤية أكثر في الدّولة العباسيّة لتحمل قيد القرشيّة، وطبيعة الوراثة، وتضيف إليها النّصيّة في البطن الهاشميّ، ولتطوّر الاختلاف الكلاميّ تحوّلت القرشيّة من قيد ظرفيّ إلى مطلق، كما ضاقت الشّورى من الإطلاق إلى القرشيّة إلى النّصّ في البيت الهاشميّ.
بيد أنّه بقيام الممالك في النّصف الثّاني من العهد العباسيّ، نجد بعض هذه الممالك، ثمّ قيام الخلافة العثمانيّة، ولغلبة الخطّ السّنيّ الكلاميّ الذّي كان مسايرا في الجملة للأمويّة والعباسيّة وما بعدها، إلا أنّه هنا لا يوجد مشترك القرشيّة ولا النّصيّة عدا خيط الوراثة؛ هنا ستتبلور بشكل كبير نظريّة التّغلب كبديل عن القرشيّة والنّصيّة، ويصبح المتغلّب تجب طاعته ولو لم يكن من قريش أو بني هاشم، وحاول عبد الرّحمن الكواكبيّ [ت 1903م] أن يقدّم رؤية جديدة في إحياء الخلافة القرشيّة جامعا بينها وبين التّغلّب تحت مفهوم الأمّة لا السّلطة الشّموليّة في مؤتمر أم القرى، والّذي عقد بداية من يوم الاثنين 15 من ذي القعدة 1316هـ، يوافقه: 27 مارس 1899م، فاقترح إقامة خليفة عربيّ قرشيّ مستجمع للشّرائط في مكة، على أن يكون هذا الخليفة سياسته مقصورة على الخطة والشّورى الحجازيّة، فينوب عنه من يترأس هيئة شورى عامّة إسلاميّة، ويكون الخليفة مشروطا بشرائط مخصوصة ملائمة للشّرع، إذا تعداها يُعزل، وتجدد بيعته كلّ ثلاث سنوات، وينتخب من قبل هيئة الشّورى العامّة، وهو يتابع قرارات الهيئة، ويراقب تنفيذها، ولا يتدخل في شيء من الشؤون السّياسيّة والإداريّة في السّلطنات والإمارات، وإنّما يصدّق على توليات السّلاطين والأمراء حسب أصولهم القديمة في وراثتهم للولايات، ولا يكون تحت أمرة قوّة عسكريّة مطلقا، ويذكر اسمه في الخطبة من قبل أسماء السّلاطين، وعلّل الكواكبيّ رؤيته هذه لكيّ “يحلّوا مشكلة الخلافة، ويسهل عقد اتّحاد إسلاميّ تضامنيّ تعاونيّ يقتبس ترتيبه من قواعد اتّحاد الألمانيين والأمريكيين” ولمّا اعترض عليه أنّ هذا الكلام يظهر منه أنّه “لا يجوز الاتّكال على الملوك العثمانيين العظام في أمر الخلافة، علاوة على السّلطنة”، فأجاب: “إنّي أحبّ العثمانيين للطف شمائلهم، وتعظيمهم الشّعائر الدّينيّة، ولكن النّصيحة تلزم قول الحق، وعندي أنّ حضرات آل عثمان العظام أنفسهم، إذا تدبّروا؛ لا يجدون وسيلة لتجديد حياتهم السّياسيّة أفضل من اجتماعهم مع غيرهم على خليفة قرشيّ”.
والكواكبيّ توفي قبل سقوط الدّولة العثمانيّة بعقدين، وبسقوط الأخيرة يذهب معها مفهوم دولة الخلافة، ويبدأ مع الاستعمار مفهوم الدّولة القطريّة أو الدّولة الحديثة، إلا أنّ مفهوم الخلافة كأمل عودة ظلّ موجودا إلى اليوم، وكان قائما ابتداء مع المدرسة الإصلاحيّة كما عند الإمام محمّد عبده [ت 1905م]، إلا أنّه تراجع الرّأي في هذه المدرسة مع تقادم العهد، وتبلور الدّولة القطريّة كواقع، وظلّ مفهوم الخلافة حاضرا مع حركات الإسلام السّياسيّ خصوصا عند الإخوان المسلمين ابتداء من حسن البنا [ت 1949م]، ومع حضور مفهوم الخلافة لديها، ومدى الرّغبة في عودتها؛ إلا أنّها تجاوزت قيد القرشيّة إطلاقا أو ظرفيّا، واقتربت من الشّورى المطلقة كما عند الإباضيّة والعديد من المعتزلة، وتقرّر ذلك عند الإسلاميين عموما في المدرسة الإصلاحيّة وفي جماعات الإسلام السّياسيّ عموما والسّنيّ خصوصا، كما عند محمّد أبو زهرة [ت 1974م]: “وأول هذه الآراء، وهو من بين آرائهم السّديدة المحكمة – أي الخوارج – أنّ الخليفة لا يكون إلا بانتخاب حرّ صحيح يقوم به عامّة المسلمين لا فريق منهم”، “فليست الخلافة في قريش كما يقول غيرهم، وليست لعربيّ دون أعجميّ، والجميع فيها سواء”، كما انفتحت هذه الحركات على النّظريات الغربيّة للدّولة كالانتخاب والبرلمان والدّساتير وفصل السّلطات، ولم تتوقف عند المفاهيم التّقليديّة، مع محاولة أسلمة الدّولة لا علمنتها بالمعنى الشّموليّ، مع تقاطع الأسلمة مع العلمنة في جوانب عديدة ليس محلّ ذكره هنا لضيق المقام، وبذلك تباينت مع الاتّجاهات التّقليديّة السّنيّة القائلة بالقرشيّة أو التّغلّب، وحساسيّتها من النّظريّات الغربيّة للدّولة.
هذا الاتّجاه الحركيّ السّنيّ الإخوانيّ أثر في الجانب الشّيعيّ الإماميّ القائلين بالنّصّ الجليّ أيضا، ومع تأثر بعض الشّيعة الإماميّة بالإخوان المسلمين مبكرا؛ لهذا ولد حزب الدّعوة الشّيعيّ في العراق عام 1957م، والّذي كان محل جدل في حوزة النّجف حينها، لطبيعة الاتّجاه الشّيعيّ الإماميّ السّلبيّ من السّياسة بعد الغيبة الكبرى، وانقطاع السّفارة، إلا أنّها تظهر وتخفت بين فترة وأخرى بنسب متفاوتة، بيد أنّ التّشكل الأكبر كان مع الإمام الخمينيّ [ت 1989م]، والّذي طوّر نظريّة ولاية الفقية من النّيابة عن الإمام الغائب في بعض الجوانب، إلى النّيابة عنه في الإمامة الكبرى، كما استطاع أيضا تطبيق ذلك عمليّا بعد الثّورة الإيرانيّة 1979م، إلا أنّ هذه التّجربة الوليدة للشّيعة في التّأريخ من حيث الولاية العامّة للفقيه؛ إلا أنّها أمام نظريّات متقدّمة للدّولة اليوم من حيث الانتخابات، وطريقة الاختيار، والدّساتير المرتبطة بالمواثيق الدّوليّة وغيرها، لهذا حاولت هذه الرّؤية المزاوجة بين التّراث وعلمنة الدّولة من خلال التّوسّع في الأسلمة من خلال المقاصد والمصالح، دون الوقوف عند حرفيّة النّصوص، مع ظهور نظريّات شيعيّة أخرى تزامنت مع ولاية الفقية كدولة الإنسان عند محمّد باقر الصّدر [ت 1980م] ومحمّد حسين فضل الله [ت 2010م]، وولاية الأمّة على نفسها كما عند محمّد مهدي شمس الدّين [ت 2001م]، بيد أنّ نظريّة ولاية الفقيه هي الغالبة في التّفكير الشّيعيّ الإماميّ اليوم.
هذه الرّؤية الإخوانيّة والشّيعيّة الإماميّة لها تأثيرها في المذاهب والخطابات الإسلاميّة الحركيّة الأخرى كالإباضيّة والزّيديّة، يجمعها خيط أسلمة الدّولة، والانفتاح بشكل أكبر على النّظريّات المعاصرة وفق الدّولة القطريّة أو دولة المواطنة، مع حضور فكر الخلافة والإمامة دراسيّا في الحوزات والمعاهد الدّينيّة، وخطابيّا حركيّا عند بعض الحركات والرّموز الإسلاميّة، لهذا ولدت نظريّات جديدة داخل القراءات الإسلاميّة مع فلسفات الدّولة والمواطنة، ومحاولة الانشراحة مع العلمانيّة ذاتها، كالعلمانيّة الجزئيّة كما عند عبد الوهاب المسيريّ [ت 2008م]، والعلمانيّة الثّالثة كما عند عصام القيسيّ، وسبق أن كتبنا مقالة في هذا في جريدة عُمان بعنوان: “الاتّجاهات الخمس في مفهوم الدّولة العلمانيّة في العالم الإسلاميّ” يمكن الاستزادة منه.
كما أنّها أيضا حاولت الانشراحة مع مفهوم أنسنة الدّولة بمعنى النّزعة الإنسانيّة، وتغليب القيم الإنسانيّة في بعض الجوانب كما في دولة الإنسان، والمواطنة المرتبطة بماهيّة الإنسان لا بالعرق والمذهب والقبيلة، وأنّ أسلمة الدّولة ليس بالمفهوم الحرفيّ؛ بقدر ما يكون بمفهوم التّغليب في المصطلح من جهة، والإقرار بالتّعدديّة من جهة ثانية، وحضور النّزعة الإنسانيّة وفق العدل والمساواة من جهة ثالثة.
إلا أنّ الدّولة القطريّة اليوم لا يمكن فصلها عن العلمنة بمفهومها التّوزاني والتّعدديّ، وليس بالمفهوم اللّائكيّ، أو الشّموليّ المستبد، كما أنّ المواطنة لا تنفصل عن العلمنة، والهويّة المتعلقة بالمواطنة لا يمكن قراءتها بعيدا عن الفردانيّة، ولهذا الدّولة القطريّة بنظريّاتها لها ثقلها مع النّصّ والتّأريخ والواقع أيضا، وجدلياتها لن تتوقف، وعسى أن يكون البقاء للأصلح لتتهذب، وليس الأقوى لتستبد.