المقالات التأريخية

التّأريخ بوصفه قوة دافعة للأمام

نشر في الموقف الثّقافيّ، مركز الخليج للأبحاث، السّعوديّة، العدد السّادس، ص: 4 – 6.

التّأريخ بحسناته وسلبياته، وبتقدّمه وتأخره، جزء من التّراث الإنسانيّ الكبير، كما أنّه يحمل ذاكرة الأمم والأعراق والأقطار، ولقد قلت في أكثر من مناسبة أنّ تأريخ أيّ أمّة كانت، في قراءته لا يخرج عن العناصر الثّلاثة: الماضويّة البشريّة المطلقة، والظّرفيّة التّأريخيّة، والسّننيّة الكونيّة المجتمعيّة، فهو ماض من حيث الأصالة، قد تستمر بعض آثاره إن كانت قريب الذّاكرة، إلّا أنّه يقرأ في تلك الظّرفيّة التّأريخيّة، وبملابسات ذلك الحدث، فالحدث لا يخرج عن اقتضاءات أدّت إليه، وفضاءات سمحت بحدوثه، قد لا يتناسب مع اقتضاءات أخرى، ولو كان المحدث للأول والثّاني يحملان ذات الرّغبة في حدوث الحدث ذاته.

وعليه هناك سننيّة كونيّة مجتمعيّة قائمة بين جوهر الحدث، ومصاديق الحدث ذاته، فالجوهر المرتبط بفكر الحدث أقرب إلى الإطلاق؛ لأنّ الفكرة عابرة للزّمكانيّة، وأمّا مصداق الفكرة لأيّ حدث داخل في محدوديّة الزّمكانيّة، فنحن بحاجة إلى دراسة وتفكيك جوهر الحدث؛ لأنّ لها تأثيرا في الواقع، كان التّأثير إيجابا أم سلبا، فما تقوم به مثلا بعض الجماعات المتطرفة هو محاولة لاستنساخ تجارب سابقة بظرفيّتها الّتي لا تتناسب مع ظرفيّة الواقع، وذلك لأنّ جوهر الفكرة لم يحدث تفكيكا ونقدا لها، فكانت حاضرة في الأدبيات، ممّا أدّى إلى محاولة استنساخها، وهذا ممّا يجعل التّأريخ إذا أخذنا بحرفيّته المطلقة، دون قراءته قراءة ظرفيّة سننيّة؛ يؤثر سلبا في الواقع، بينما إذا تعاملنا مع جوهره تعاملا سننيّا؛ بلا شك سيكون أداة نافعة للواقع، ومصدرا مهمّا في تطوّر المجتمعات الإنسانيّة.

ثمّ لا يمكن تقديس التّأريخ أي بوضعه في الخانة اللّاهوتيّة المغلقة، فجميع أحداث التّأريخ هي أحداث بشريّة، وطبيعة البشر الخطأ والصّواب، نعم قد ينطلقون في تبرير أحداث واقعهم من منطلقات دينيّة، إلّا أنّ مصداق الحدث الواقع منهم لا يخرج عن خطّه الإنسانيّ والبشريّ، وإذا حدث تقديس للتّأريخ، وجعله في خانة الأديان مساويا للنّصّ المقدّس؛ فنحن هنا أمام استنساخ أحداث ظرفيّة ماضويّة لا من حيث جوهر الحدث المتناسق مع واقع اليوم وسننيّة الاجتماع البشريّ، بل مع الحدث ذاته في صورته الماضويّة، فيولد عن ذلك حالة من الانغلاق الثّقافيّ والحضاريّ، كما سيؤدي إلى الصّراع المجتمعيّ، وخلق ثنائيات تؤدّي إلى تكفير الآخر، وإعاقة تطوّر المجتمعات المعاصرة وفق ظرفيّتها الرّاهنة.

أيضا لا يمكن بحال القطيعة مع التّأريخ، بوصفة حالة ماضويّة انتهت بانتهاء الماضي ذاته، والتّأريخ كما أسلفت إمّا أن يكون ماضيّا انتهى بالكليّة من حيث الحدث؛ لكنّه من حيث القيم المطلقة الكامنة فيه، أو من حيث الفكرة المتبلور عنها؛ لا زال باقيا وإن ذهبت صورة الحدث، فمحاكمته من حيث القيم المطلقة، وقراءته وفق ظرفيّته لا ظرفيّة واقعنا، ومحاولة إعادة قراءة أفكاره المتبلور عنها بما يتناسب مع واقعنا، وهذا يجعلنا أن نمايز بين الحدث والشّخوص، فنحن نهتم بالحدث ذاته، لا أن نتصارع وفق شخوص ذهبت إلى باريها، فلسنا مسؤولين عنهم، وإنّما نقرأ الحدث بما وصلنا في صورته الظّرفيّة البشريّة، على أنّ هذا الحدث ذاته نسبيّ من حيث النّسبة والحدوث؛ لأنّه عادة قل ما يكتبه – سلفا – أصحاب الحدث ذاته، وإنّما يكتبه إمّا محبّ مغال، أو كاره له، فيدور بذاته في دائرة النّسبيّة الظّنيّة.

وإمّا أن يكون التّأريخ ماضيّا بسيطا، بمعنى أنّه أقرب إلى الذّاكرة، فهو وإن انتهى من حيث الماضي كحدث، إلّا أنّ تأثيره لا يزال باقيا، وهذا لا يختلف عن ذاك، في قراءته وفق الواقع المعاش، حتّى لا نقع في دائرة القداسة المطلقة للذّات، وبالتّالي نعيش في حالة الجمود السّلبيّ الّذي يعوق تطوّر الإنسان والبلدان والعمران، فقراءة التّأريخ قراءة بشريّة إيجابية، ومحاكمته وفق قيم التّقدّم، وفي الوقت ذاته مراجعة أفكاره وقراءتها وفق الواقع، يقودنا هذا – في نظري – إلى جعل التّأريخ حالة إيجابيّة لتقدّم الأمم لا تأخرها وانغلاقها في ماضيها.

السابق
الحركات اليساريّة العمانيّة وظرفيّة حراكها
التالي
الأديان والمذاهب بين وحدة المواطنة وخصوصيّة المعتقد والطّقوس
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً