في هذا المقال:
- لماذا لا نتقبل الرأي الآخر؟
- هل الغناء مجمع في تحريمه؟
- هل يوجد في القرآن دليل صريح؟
- ما المقصود بالغناء في اللغة؟
- هل المفسرون متفقون أن لهو الحديث هو الغناء؟
مقدمة:
قبل 13 سنة خلت حاولت تتبع ما قيل في الغناء والمعازف وجمعتها في بحث متواضع، وسبب ذلك أننا كنا في البداية نسمع الأناشيد مصحوبة بالدف، وأكثر الأناشيد التي كنت أسمعها وأحبها حتى الآن صوت الأذان، وهي أناشيد فلسطينية، وكنا نستخدمها في احتفالاتنا الخاصة في ولاية بهلا حينها.
ولما قبلتُ في معهد العلوم الشرعية في عام 1999م والتي تسمى بكلية الشريعة الآن كان التشديد والرقابة في قوته، واستخدام الولاء والبراء من أوسع أبوابه، ولهذا حديث كبير يحتاج نفسه إلى وقفة بل وقفات.
عموما كنت بحكم الفطرة أخذت هذا الشريط معي وكنت أذكر في الأسبوع الأول، حينها دخل علي أحد التلاميذ المقربين من أحد المشايخ حينها، وسمعني أسمع الشريط، فاستدعاني على جنب، وقال لي يجب أن تخفي الشريط فورا قبل أن ينتشر أمرك، قلت لماذا: قال فيه دف!!! ولا يجوز إلا للنساء في الأعراس فقط، فتعجبت حينها ….
ثم بدأت أبحث بصورة أكبر حتى تبين لي أن ما يقولونه في الدف وكأنه القول الوحيد ليس صحيحا، بل حتى المعازف نفسها، وتعجبت من آراء الصحابة والتابعين ومن بعدهم وانفتاحهم في القضية، في حين التشدد حينها في قضية الدف!!!
وعليه كتبت بحثا لم انشره مع طلب بعض الدكاترة بذلك، حتى الذين يلقوني إلى اليوم منهم يكون سؤالهم: هل نشرته ….
وبعد 13 سنة خلت أتصور حان الوقت لنشره ولكن بعد إعادة صياغته، وزيادة بحث وقراءة …
تقبل الرأي الآخر:
بداية من حق أي إنسان أن يدلي بدلوه في أي رأي كان، وهذا كفله الله تعالى في كتابه، كما كفله النظام الأساسي للدولة، والقوي هو الذي يقابل الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، لا بالاستهزاء ودعوى الضلال!
إنّ اعتقاد الحق المطلق، وأن اجتهادات العلماء المعاصرين هي الموافقة فقط للقرآن والسنة، وأي رأي آخر شذوذ ونشر للرخص الداعية إلى الفجور والفسوق، وأنها من لقطات الشوارع، ولو كانت من علماء معتبرين، هذا الاعتقاد لا يعطي قاعدة هادئة للحوار، بل يعطي الموضوع أكثر تشنجا وانفعالية.
ومسائل الغناء لم يقل أحد يوما أنها من مسائل الدين!!
الغناء والإجماع:
اشتدّ النزاع حول قضية الغناء والمعازف، وكأنهما من مسائل الدين الكبرى، وقضاياه العظمى، وفي جوهره مسائل رأي لا إنكار فيها لوجود الخلاف الكبير حولها.
ونسب أبو حامد الغزالي ت (505هـ) إلى مجموعة من الصحابة والتابعين ممن أجاز ذلك، وهذا يبطل نظرية الإجماع، فكيف يحدث بعدها التفسيق بل واللعن والسب لكل من خالف، وكأنهم خالفوا نصا منزلا قطعيا، ولعلنا لا نلومهم لأنهم تربوا على الرأي الواحد، ومؤسسة الرأي الواحدة، لذا تصوروا أي رأي آخر كأن مؤيديه خالفوا النص الإلهي، وعارضوا الوحي الرباني.
وللأسف عندما يغلف حوار الطرف الآخر بالاستهزاء، مما يجعل التربية الحوارية عندنا في وجوب المراجعة، خاصة عند المؤسسة الدينية المحضة.
لمحة تأريخية:
الغناء والمعازف قديمة قدم الإنسان نفسه، وموجودة عند جميع الثقافات، وفي الحجاز أبان البعثة وبعدها كان الغناء غالبا بالحداء وإنشاد الشعر، وأهم آلة بارزة هي المزمار، ولذا جاءت الروايات كثيرا مقرونة بالمزمار مدحا وذما، مع وجود الطبل والدف.
ثم لما انفتحت الأمة الإسلامية على غيرها من الأمم، تحول الغناء من تغني بالأشعار إلى علم له قواعده وأصوله، ولقد أثر هذا العلم على العلوم الأخرى كما عند الخليل بن أحمد الفراهيدي ت (173هـ) فكان لإيقاع النغم أثر في وضعه علم العروض على قواعد موسيقية رائعة، بل وألف كتابه كتاب الإيقاع.
وكذا في الفلسفة كما عند الفارابي ت (339هـ) فهو أبو الموسيقى العربية، والمنظر لها، وأوروبا عالة عليه، ولهذا وضع كتابه القانون.
وأثر أيضا علم الموسيقى في التطبيق التجويدي في قراءة القرآن من خلال علم المقامات، وهو علم موسيقي بحت، أصبح أشهر القراء يتدربون عليه، والعديد منهم يتدرب عليه مع الآلة الموسيقية كعبد الباسط عبد الصمد ت (1988م).
بل النظم القرآني ذاته يحمل جمالا موسيقيا، وأسهب في هذا سيد قطب ت (1966م) في كتابيه في ظلال القرآن، والتصوير الفني في القرآن.
فالموسيقى لا كما يتصورها البعض هي مجرد رقصات الجواري على كؤوس الخمر، كما كان في زقاق بعداد، بل هي علم فلسفي عميق، أصبحت متشعبة كليا في علوم أخرى، ومنها الآن الطب، والتي أصبحت تدخل فيه بقوة، بل يؤمل أن تكون علاجا جذريا للعديد من الأمراض النفسية والبدنية.
والصوت الجميل شيء فطري، كالمنظر الجميل، والشرائع جاءت للتهذيب، لا للقمع والإلغاء.
الموسيقى رؤية قرآنية:
القرآن الكريم لم يتحدث عن الموسيقى ولا الغناء بالمعنى الحرفي قطعا، بل كما أن القرآن يحمل النغم الموسيقي الموزون الذي عجز الشعراء أن يأتوا بمثله، فهو دعا إلى جمال الوجود، لذا فهم بعض العلماء من قوله تعالى: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء} أي الصوت الحسن والصورة الحسنة.
أما قوله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}، فمن منع أخذ بتفسير بعض الصحابة كابن مسعود ت (32هـ) بمعنى الغناء، وتركوا تفسير باقي الصحابة، بل تفسير الغناء يرد عليهم لأنه عام ويدخل فيه الأناشيد وهم يجيزونها.
والأولى تفسير القرآن بالقرآن، فاللهو أعم من الغناء، وكيف وقد قيّد الله تعالى ذلك بالإضلال، فكل لهو يضل عن سبيل الله حرام كان غناء أو سمرا أو لعبا ونحوه، وكل لهو لا يضل عن سبيل الله كان مباحا كان غناء أو سمرا أو لعبا ونحوه، فالحكم يدور مع العلة وجودا وعدما.
إذا في القرآن لا يوجد مستند يستدون عليه، والسؤال من أين كان الخلاف في النصوص؟
الجواب: كان الخلاف مع المرويات والآثار، وعليه وقع الخلاف قديما:
فمنهم من قال الغناء مطلقا لا يجوز بآلة أو بغير آلة، وعند هؤلاء الأناشيد المغناة ولو بغير آلة لا يجوز.
ومنهم من قال الغناء لا يجوز مع الآلة، ويجوز بدونها، واستثنى بعضهم أن لا يكون من صوت أمرد يفتن، أو امرأة، وكذا استثنى بعضهم الدف، والبعض قاس عليه الطبل.
ومنهم من ذهب إلى جواز الغناء مع الآلة عدا المزمار.
ومنهم من قال بجواز الغناء مع أي آلة شريطة عدم مصاحبتها بمحرم، ولذا قالوا: حلالها حلال، وحرامها حرام.
وهؤلاء من قال الحلّ لكونه لم يثبت في ذلك دليل مانع، ومنهم من قال الذي ثبت ليس محمولا لذاته بل لما يصاحبه.
والخلاف قديم منذ عهد الصحابة كما ذكر ذلك الغزالي ت (505م) في الإحياء، والأصفهاني ت (356هـ) في الأغاني، وابن عبد ربه ت (328هـ) في العقد الفريد، والشوكاني ت ( 1255 هـ) في كتاب السماع، وغيرهم من ذكر أو أشار.
بل بعضهم جزم بضعف ذلك قال القاضي أبو بكر بن العربي ت(534هـ) في كتاب “الأحكام”: لم يصح في التحريم شيء، وكذا قال الغزالي ت (505هـ) وابن النحوي ت (513هـ) في العمدة، وقال: ابن طاهر: لم يصح منها حرف واحد، وقال ابن حزم ت (456هـ): كل ما رُوي فيها باطل وموضوع.
ومن المعاصرين ممن قالوا بجوازه بإسهاب وإيجاز وإشارة الشيخ شلتوت ت (1963م) في الفتاوى، والغزالي ت (1996م) في السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث، والبكري ت (1986م) في الفتاوى، ومحمد حسن فضل الله ت (2010م) في الدين الحياة وفتاويه، والقرضاوي في الحلال والحرام في الإسلام، والفتاوى، وغيرهم كثير من كافة المذاهب الإسلامية.
وعليه نخلص من خلال هذه المقدمة عدم وجود الإجماع أصلا، بل هي محل خلاف من عهد الصحابة وإلى اليوم.
ما المقصود بمفردة الغناء؟
الأصل في ال التعريف للعموم، وتأتي للاستغراق، والاستغراق شرط للعموم عند جمهور الأصوليين عدا الحنفية، ويؤيد هذا ما قاله علماء العربية من المتقدمين والمتأخرين.
فقد جاء عند المتأخرين في المعجم الوسيط وهو خلاصة استقراء المعاجم اللغوية في تعريف الغناء التالي: [الغِنَاءُ: التطريبُ والترنُّمُ بالكلام الموزون وغيره، يكون مصحوبًا بالموسيقى وغير مصحوب].
والغناء هو السّماع، جاء في مختار الصحاح مادة غنى: و غَنَّى بمعنى و الغَناء بالفتح والمد النفع وبالكسر والمد السَّماع.
وعلى هذا يعتبر الإمام الغزالي ت (505هـ) أنّ السّماع هو مطلق الغناء، ويدخل فيها معاني منها الصوت الطّيب الموزون المحرك للقلب، ويقسّم هذا الصوت الموزون إلى قسمين: الأول الصّوت المفهوم كالأشعار، والثاني غير المفهوم كأصوات الجمادات أي الآلة والمعازف، وصوت الحيوانات. [ينظر إحياء علوم الدين، كتاب السّماع، م2 ص 234].
وعليه سنجد الفقهاء الأوائل يحملون الغناء على هذا سواء بآلة أو بغير آلة، بل أصبح الإطلاق على الثاني خصوصا، فإذا أطلق الغناء أريد به الثاني لا الأول، وهذا ملاحظ عند من يتأمل في الإطلاق الفقهي للغناء في جميع المدارس الإسلامية.
وكيف وقد صرّحت الروايات في بعضها بذلك كقرينة حمل بعض الآلات الموجودة في العهد الأول كالدّف أو المزمار، وما بعدها من تطور في الآلة، وقد تتبع ذلك غير واحد من المتقدمين.
وإن قلنا بإرادة الغناء الأصل المجرد لتعجبنا فيمن يحل الغناء بدون آلة كالحداء أو الأناشيد، في حين يفسرون لهو الحديث حسب تفسير ابن مسعود ت (32هـ) بلهو الحديث الغناء، وتراهم هنا يحملونه على الثاني لا الأول، وإذا ورد الغناء هكذا عند السلف أوردوه على المجرد لا الثاني وهذا تناقض.
نخلص ما حكاه البعض من تخصيص الغناء بدون آلة يخالف ذات اللفظة واستغراقها لأفرادها، وأنّ السماع يعم الغناء عموما بآلة أو بدون آلة.
الكلام في لهو الحديث:
وهنا ألخص ما ذكرته في بحثي قبل 13 سنة خلت:
يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}
اشتهرت روايتان في سبب نزول الآية:
الأولى مروية النضر بن الحارث وأنه كان يجلس بمكة فإذا قالت قريش: إن محمدا قال كذا وكذا، ضحك منه وحدثهم بأحاديث ملوك الفرس، ويقول: هذا أحسن من قرآن محمد.
الثانية: في رجل اشترى جارية مغنية، فشغل الناس بلهوها عن استماع النبي عليه السلام.
وكلا الروايتين بل جميع الروايات المفسرة للهو الحديث ضعفها العديد من المحدثين أنفسهم، وقد ذكرت ذلك في بحثي.
أما السلف لم يحصروا التفسير مع قول ابن مسعود، فهناك آراء كثيرة في الآية من هؤلاء:
1- شراء المغنيات.
2- الغناء كما عند ابن مسعود وعكرمة وابن جبير وقتادة، على أنّ الغناء في مفهوم العرب يدخل فيه حتى الإنشاد كما أسلفنا!!
3- الطبل قاله عبد عبد الكريم.
4- المزمار قاله ابن زخر.
5- الشرك قاله الضحاك وابن زيد.
6- ما ألهى عن الله قاله الحسن.
7- الجدال في الدين قاله سهل بن عبد الله.
فهذه نماذج فقط تفسيرية وليست النص نفسه على أن سياق الآية أكبر بكثير، قال ابن حزم في هذه الأقوال: لا حجة في هذا لوجوه ذكر منها: أن نص الآية يبطل احتجاجهم لأن فيها وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ، وهذه صفة من فعلها كان كافرا بلا خلاف، إذا اتخذ سبيل الله هزوا، ولو أن امرأ اشترى مصحفا ليضل به عن سبيل الله كان كافرا بلا خلاف فهذا هو الذي ذم الله تعالى، وما ذم قط من اشترى لهو الحديث ليتلهى به، ويروح نفسه، لا ليضل عن سبيل الله” انتهى كلامه مع تحفظي في قضية التكفير.
يقول سيد قطب في الظلال: ولهو الحديث كل كلام يلهي عن القلب، ولا يثمر خيرا، ولا يؤتي حصيلة تليق بوظيفة الإنسان المستخلف في هذه الأرض لعمارتها بالخير والصلاح.
الخلاصة:
كما رأينا المسألة واسعة ولا إجماع حولها، وتعود إلى ذات الإنسان وتورعه، ولا أحد يزكي نفسه بذلك، بل يسعى للتزكية بما يومن به، وما على المحسنين من سبيل.
فيسبوك 1435هـ/ 2015م