المقالات الإجتماعية

الخدمات المجتمعيّة وأهميّتها

الإنسان يعيش في هذه الحياة وفق بعدين: البعد الفردي والبعد المجتمعي، وكلا البعدين إكمال للآخر، فتنمية البعد الفردي رقي بالبعد المجتمعي، كما أنّ ظهور البعد المجتمعي استغلال في حد ذاته للبعد الفردي، والإنسان في أصله خلق للجماعة.

وهذا ما يظهر جليّا في قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.

ففي الآية يظهر الله أعظم البر وهو ما يحقق البعد المجتمعي من خلال إعانة ومساعدة ذوي القربى والفقراء والمساكين، واحترام ومساعدة ابن السبيل المنقطع عن أهله، وحل قضايا السائلين عن الإعانة، والباحثين عن المساعدة، والباذلين لعتق الرقاب وحريات الناس، ويدخل في هذا تحرير المساجين، وفك كربتهم، وتيسير شدتهم.

بل حتى إقامة الصلاة جعلها الله في جماعة تحقيقيا للبعد المجتمعي، وحث سبحانه على إخراج الزكاة، لكي لا يكون المال دولة بين الأغنياء فقط، ودعا إلى الوفاء بالعهود والعقود والمواعيد، وأرشد إلى تسهيل حوائج الناس، وقضاء معاملاتهم، وعدم تأخيرها.

هذه الصور بلا شك هي أبعاد للعمل المجتمعي، مرتبطة كليا بعبادة الفرد وعلاقته بربه سبحانه وتعالى، فهي لا تقتصر عند عدد ركعات الصلاة، وعدد أيام الصيام بقدر ما تشمل حياة الإنسان وسعيه في الأرض.

ولا شك أنّ أيّ عمل مجتمعي يشمل الهدف والغاية ثم الوسائل المتاحة وبعدها التقنين وآلية التطبيق.

أمّا الغايات والأهداف فهي عديدة ومتعددة ويمكن أن نضعها في النمطية التالية:

غاية نشر المعرفة والتنوير المعرفي، وهذه بلا شك ستتعدد وسائلها، بداية من الحضانة والطفل وحتى القضاء على الأمية عند كبار  السن، ويدخل في هذا إعانة ذوي الدخل المحدود في مواصلة دراساتهم في الدبلوم والدراسات العليا، كذلك مساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة، مع وجود المراكز المعرفية كمراكز حفظ القرآن وتدبره وتعليمه، ومراكز المحاضرات الأدبية والنقدية والعلمية وغيرها.

غاية المراكز الترفيهية والاستغلالية لأوقات الشباب، ويدخل فيها البرامج الرياضية للفتيات والفتيات، والمسابقات المتعددة والمتنوعة.

غاية الإعانة للفقراء والمساكين والمرضى وابن السبيل، والغارمين في الديون، وهذه يدخل فيها التخفيف والعلاج أيضا، عن طريق الجمعيات المؤهلة للعمل لا المقتصرة فقط عند العطاء القاصر، حتى لا ينتج جيل متواكل معتمد على غيره.

غاية تفريج الكرب عن المساجين، وإرجاعهم إلى أهليهم مع تأهيلهم، وحل مشاكلهم وقضاياهم المختلفة.

غاية التثقيف الصحي والاستهلاكي والقضاء على الأمراض المتعددة، والعادات السلبية كالمخدرات.

غاية تطوير الناس إداريا وإنتاجيا، وعلاج المشاكل الإدارية التي يعاني منها فئة من الناس.

غاية العلاج النفسي، وتنمية العلاقات الاجتماعية، وعلاج القضايا المتعلقة باجتماع الناس كالمسنين والأرحام وقضايا الزواج.

غاية قضايا المرأة والزوجة والأمومة والأطفال وقضاياهم الخاصة.

وأخيرا ممكن أن نشير  إلى الجانب الفني والمسرحي والشراك السياسي والإعلامي.

فإذا فقهنا الغايات سنفقه الوسائل لأنها تعتمد على الزمان والمكان والعامل لهما، فهناك حاجات مشتركة بين جميع المجتمعات كليا أو في بعض الأجزاء، كما أنّ هناك حاجات قد تختلف من مجتمع لآخر، وعليه الوسائل ستختلف أيضا مراعاة للمجتمع المستهدف، والزمان الذي ينزل فيه الهدف والغاية.

والمهم هنا أمران: الأول إشراك الشباب وحتى الصغار  في مثل هذه المناسبات، لكي يتعودوا عليها، وينشؤوا وفق الجماعة، لا وفق الذات وأنانية الفرد.

والأمر الثاني التشجيع المالي والمعنوي من المجتمع، سواء على المستوى المدني العام من قبل أفراد المجتمع، أو من قبل الحكومة والجهات المختصة النائبة عن عموم الناس في خدمة المجموع.

ولقد تقدّم اليوم العمل المدني في مؤسساته المدنية، من هنا يأتي الجانب التقنيني ليتحول العمل من جانب عشوائي يقوم على أشخاص يضعف بكسلهم، ويدفن مع أول يوم من تأريخ وفاتهم.

والعمل المدني في ذاته يقوم على العمل المؤسسي القائم على الرؤية الواضحة والقانون الواضح، مع الشراك من الجميع، ورئاسته قائمة على الانتخاب والحرية في المشاركة والإبداع.

ولا شك أنّ الأمم المتقدمة تعرفها بقوة وكثرة الشراك المدني في الجانب التطوعي خصوصا، من هنا يجب على الحكومات تسهيل ذلك وتشجيعه لكي ينشأ على عينها بدل نشأته في الخفاء، وقد يستغل سلبيا لاحقا.

ومن خلال الدوائر الثلاثة (الغاية والوسيلة والتقنين المؤسسي) سيتقدم المجتمع في تحقيق وسائله المدنية، وستكون الرؤية بلا شك واضحة، وسيكون المجتمع هو المستفيد أولا وآخرا، وسيحقق أكثر الناس شراكا مع حكوماتهم في خدمة أوطانهم، مما تتحقق لديهم الوطنية والتعلق بالوطن كعمل لا كشعارات.

ثمّ أنّ مجالا ثالثا لتحقيق ذلك مع التقنين وهو الحرية في الشراك حتى يرتفع من العمل القبلي أو الفئوي إلى العمل الجماعي الذي لا يفرق بين أحد لتوجه في فكر أو مذهب أو قبيلة أو لون أو جنس.

ففي المجتمع طاقات قد تضيع بسبب الاعتبارات الفئوية، والاعتدادات الشخصية، من هنا يجب أن نرتفع من الذات إلى القانون، ومن الأفراد إلى المؤسسة التي تعطي الحرية والإبداع للجميع بلا تفريق.

وعليه ينبغي أن يتحول العمل المسجدي نفسه إلى عمل مؤسسي لا يقتصر عند الإمام أو الوكيل فحسب، كما أنّه لا يقتصر عند الذكور فقط، ويهمل جانب النساء بصورة واضحة.

ويشمل العمل المؤسسي المسجدي في إشراك المصلين ليكون لهم دورهم في المسجد عن طريق الانتخاب الحر، كما أنه يكون عنصر رقابة للمسجد وأوقافه وصدقاته ولو قلت.

ويعم العمل المؤسسي فيه جوانب عديدة كالتعليم خاصة القرآن واللغة العربية وتقوية من يعاني من ضعف في دراسته خاصة من الفقراء وذوي الدخل المحدود، كذلك الجانب الاجتماعي بإعانة المحتاج وتزويج العانس وزيارة المريض، وإصلاح المتخاصمين، وتقريب القلوب.

ويدخل فيه أيضا الاهتمام بالناشئة، وإعداد النوادي الرياضية والرحلات الترفيهية، ويدخل في المسجد عنصر المرأة ومشاركتها مع بني جنسها وشقيقها الرجل.

والعمل المسجدي يقوى إذا حضر فيه البعد المؤسسسي والجماعي بقوة، ويكتب له البقاء والتطور والاستمرارية إلى ما شاء الله تعالى.

كما أنه بهذا دربة عملية لمجتمع يحمل هم إصلاح الذات وتزكية النفس، إلى هم الجماعة والمجتمع، فيتربى ليس للصلاة فحسب؛ بل يجعل حياته كلها صلاة بتحقيق الأبعاد المجتمعية.

وهكذا إذا صعدنا قليلا إلى القرية الواحدة ذات المساجد المتعددة، أو القبيلة في المنطقة الواحدة، أو المدينة ذات التعدد القروي والقبلي والعشائري، ولا يقتصر الناس وينتظرون مجالس الشورى أو البلدية، فلابد أيضا من التطوع المدني والشراك في ذلك.

كما أنّ أعضاء مجلس الشورى أو المجلس البلدي ينبغي نشر هذه الثقافة المدنية والمجتمعية بين الناس وتشجيعهم على ذلك.

ولنعلم أنّ تعدد المؤسسات والجمعيات التطوعية، واختلافها في الغايات والأهداف والوسائل تنمية وتطور للمجتمع ورقي به، ولا يعتبر ذلك خللا في المجتمع أو نقيصة، فالقوة في حرية الشراك وتنوعه، وسيظهر ذلك بعد حين، كما أنّ الأحادية غطرسة تقتل التنوع فإن التعددية بناء للمجتمع، ولقد شاء الله أن يخلق الكون مختلفا ومتعددا ليعطي تنوعا وعطاء.

جريدة عمان 1436هـ/ 2016م

السابق
الإشكالات العقليّة حول رواية تخفيف الصّلوات في المعراج
التالي
الدّولة المدنيّة والقانون العادل
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً