مر المسلمون منذ وفاة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بصراعات سياسيّة وقبليّة، ومن ثمّ بعد ثورة الانفتاح على الآخر وما تبعه من دخول فلسفات وأفكار حورت بعضها إلى روايات نسبت إلى النّبي الأكرم أو الصّحابة وآل البيت والتّابعين ومن بعدهم، ممّا ولّد تضخما في الفكر الرّوائي، وزادت المصنفات الرّوائيّة والحديثيّة.
هذا كلّه نقل بالمجتمع المسلم إلى خلاف وصراع مذهبي وطائفي، تمازج أحيانا مع السّلطة، واختلف معها تارة أخرى.
فمع الخلاف الأول من أحق بالخلافة؟ الأنصار أم المهاجرون، ثم بيعة أبي بكر واختلاف النّاس حول خلافته أهو أحق أم علي أم العباس، إلا أن تحول هذا الخلاف السّياسيّ إلى خلاف دينيّ، وأنّ الخلافة لعلي كانت بنص جليّ عند الإماميّة، وبنص خفيّ عند الزّيديّة، بينما يرى آخرون أنّ الخلافة في قريش كانت أيضا بنص من النّبي الأكرم وفق رواية: الأئمة من قريش.
كذلك ظهور المعارضة في أرض نجد إلى بعض حدود عمان، والّتي سميت بالرّدة، وهو في الحقيقة خلاف سياسي واقتصادي بعدم دفع الزّكاة، وهي ركيزة اقتصاديّة حوّرت لاحقا إلى قضيّة دينيّة.
في هذه الفترة كان القرآن خصبا للتّحريف، وإضافة آيات تبرهن أحقية البعض بالخلافة لبعض الأشخاص، أو تضاف آيات تدعم بعض الطّوائف لاحقا في بعض الخلاف الفقهيّ أو العقديّ.
ولكننا بعد أكثر من ألف سنة سنجد القرآن الّذي يتلوه السّنة بطوائفهم هو نفس القرآن الّذي يتلوه الشّيعة والزّيديّة والإباضيّة والإسماعيليّة والأحمديّة ونحوهم، والجميع مؤمن به من الجلدة إلى الجلدة.
بيد أنّ الفرصة كانت مواتية للزّيادة والنّقيصة في القرآن، خاصة وقد تعدد الاتجاه المذهبيّ والسّياسيّ للدّول الحاكمة، بينما ظلّ القرآن هو نفسه لم يزد أو ينقص حرفا واحدا!!!
وإذا جئنا إلى العهد القديم أو التّوراة فعدد أسفاره حسب المطبوع حاليا ملحقا بالعهد الجديد تسعة وثلاثون سفرا، بداية من سفر التّكوين، ونهاية بسفر ملاخي.
إلا أنّ اليهود بطوائفهم مختلفون في قانونية العديد من الأسفار، ففرقة الصّدوقيين كانت ترفض عدا الأسفار الخمس فقط، أي تنكر أربعة وثلاثين سفرا أي سورة، وهذا ليس بسيطا، وإن كان الصّدوقيون قد انقرضوا في الجملة إلا أنّ السّامريين لا يزالون موجودين إلى يومنا هذا في نابلس وحولون قرب تل أبيب، وهم أيضا لا يؤمنون بغير الأسفار الخمسة الأولى أي سفر التّكوين والخروج واللّاويين والعدد والتّثنية!!!
وهكذا الحال في الأسفار القانونيّة الثّانية الّتي أضافها يهود الأسكندريّة ورفضها آخرون.
ولن نتحدث بطبيعة الحال عن المشناة والجمارة وشروحاتها في التّلمودين البابليّ والفلسطينيّ والخلاف في كونها حاكمة على العهد القديم ومخصصة ومقيدة له، أم في رفضها من الأساس، فهذا بحث آخر، وهو ما يعادله عندنا في الخلاف في المرويات والأحاديث، وهل هي حاكمة على الكتاب وناسخة ومخصصة ومقيدة!!!
وكذا الحال إذا جئنا إلى العهد الجديد أو الإنجيل، فمع اعتبار الأناجيل الأربعة: متى ومرقس ولوقا ويوحنا هي المعتمدة قانونيا من بين عشرات الأناجيل إلا أنّ هناك أناجيل أخرى كانت حاضرة، وبعضها ظهرت مؤخرا كإنجيلي برنابا ويهوذا.
ثمّ أنّ هذه الأناجيل هي واحدة في الأصل، وسميت باسم رواتها وإن لم يكن العديد منهم عاش في عهد المسيح، فهم أشبه برواة الأحاديث عندنا، إلا أنّك تجد العديد من الاختلاف والتّضارب بين هذه الأناجيل!!!
وفي الطّبعة المنتشرة اليوم للعهد الجديد أضيف إليه فوق الأناجيل الأربعة أعمال الرّسل، وأربعة عشر رسالة للقديس بولس، وسبع رسائل لرسل وتلاميذ آخرين، مع سفر الرّؤيا.
فمع مقارنة بسيطة بين القرآن والعهدين القديم والجديد نجد أنّ المدارس الإسلاميّة جميعا متفقة على كتاب واحد، لا يختلف بين مدرسة وأخرى، وهذا خلاف المدارس اليهوديّة والمسيحيّة على مر التّأريخ!!!
إلا أنّه للأسف الشّديد عندما صعب التّلاعب بالقرآن كان التّلاعب بالرّواية واضحا، فمن ذلك رواية عائشة وهي أنّ سورة الأحزاب كانت تُقْرأ في زمان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في مائتي آية، فلم نقدر منها إلاّ على ما هو الآن. وإذا جئنا نتأمل عدد آياتها الآن نجدها ثلاثا وسبعين آية، أي حذف منها ما يقارب سبع وعشرون ومائة آية (127)!!!!
بينما تشير رواية ابن عباس أنّ سورة الأحزاب كانت تقارب سورة البقرة، أو هي أطول منها، وفيها كانت آية الرجم، وسورة البقرة في ست وثمانين ومائتين آية، أي حذف أكثر من مائة آية!!!
أمّا أية الرّجم المحذوفة فهي آية: الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم، وهذه لا وجود لها في القرآن الحالي!!!
من هنا وقع الأصوليون في حرج من خلال التّعامل مع هذه الرّوايات فاخترعوا ما يسمى بنسخ التّلاوة والحكم، ونسخ التّلاوة دون الحكم، ونسخ الحكم دون التّلاوة، فجعلوا روايات حذف أكثر الأحزاب من نسخ التّلاوة والحكم، وآية الرّجم من نسخ التّلاوة لا الحكم، وباقي النّسخ في القرآن من نسخ الحكم لا التّلاوة، كقولهم إنّ آية السّيف نسخت ما عداها كبعض آيات السّلم!!
بل بعض الرّوايات تفيد أنّ بعض السّور ليست من القرآن كرواية ابن مسعود أنّ المعوذتين ليستا من القرآن، فتنازعوا في قبولها، فبعضهم حكم بوضعها، وآخرون قيدوها بمصحف ابن مسعود وليست بمعنى من القرآن، أي لم تكن في مصحفه لسقط أو نحوه!!
وعندما نتأمل سبب القول بالتّحريف إمّا ضمنا أو تصريحا فيعود إلى الخلاف السّياسيّ والعقديّ والفقهيّ، وهذا ما لم يستطيعوا إضافته في القرآن.
أما السّبب السّياسيّ فكرواية أبي جعفر الباقر قال: نزل جبرئيل بهذه الآية على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هكذا: وإن كُنْتُم في رَيْبٍ مِمّا نَزَّلنا عَلَى عَبْدِنا ـ في عليّ فأتُوا بسُورةٍ مِن مِثْلِهِ. فهذا نتيجة الخلاف في علي بن أبي طالب هو أولى بالخلافة من أبي بكر أم لا، ثمّ تحول إلى خلاف عقديّ وفي وصية الله ورسوله له بالخلافة والولاية!!!
ومنها رواية أبي عبدالله في قول الله تعالى: من يُطعِ اللهَ ورَسُولَه في ولاية عليّ والاَئمّة من بعده فَقَد فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً.
وأمّا الخلاف الفقهيّ فكرواية عائشة أنّها قالت: كان فيما أُنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله وهنّ ممّا يقرأ من القرآن، فهذا سببه الخلاف الفقهيّ كما في مسألة الرّضاع الّذي به يحرم، فقيل قليله وكثيره، وقيل خمس رضعات، وقيل عشرا، وقيل غير ذلك!!
ومنه الخلاف في الرّجم، فهناك من أنكره من الأوائل، واعتبر سورة النّور ناسخة لتشديد الله على اليهود، وهو من وضع الأغلال والأصر الّتي جاء بها رسول الرّحمة، وهناك من اعتبر الرّجم لا زال على وجوده، وقد أشرنا إلى آية الرّجم في الأعلى، ومنها أيضا رواية عائشة أيضا: نزلت آية الرّجم ورضاع الكبير عشراً، ولقد كانت في صحيفة تحت سريري، فلمّا مات رسول الله وتشاغلنا بموته؛ دخل داجن فأكلها.
عموما هناك العديد من المرويات وما ذكرناه من باب الإشارة، وهذا بغض النّظر عن سندها وطرق تأويلها، إلا أنّ وجودها دلالة واضحة على المتنفس الّذي حدث بعد لعدم القدرة في التّلاعب بالقرآن الكريم.
وفي هذا دلالة واضحة في حفظ الله تعالى لكتابه، وصدق وعده في ذلك: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.
ومع خصوبة البيئة لتحريف القرآن، للخلاف السّياسيّ والفقهيّ والمذهبيّ إلا أنّ القرآن بقي واحدا، فمن هنا كانت المرويات الحديثيّة هي المرتع الخصب للتّلاعب والإضافة والنّقيصة.
وعليه ينبغي العودة إلى الهيمنة القرآنيّة لكل ما عداه، وإلى الانطلاقة منه في فهم أبعاد الرّواية فقها وعقيدة، وجعل القرآن حاكما لا محكوما، ومهيمنا لا مهيمَنا عليه، فحفظه كما نزل رحمة من الله لكي يراجع المسلمون أوراقهم، ويعيدوا النّظر في تراثهم.
وما ذكر من روايات مشيرة أو مثبته للتّحريف فهي لا تنقص من القرآن شيئا؛ بل تزيد الإيمان بحفظ الله لكتابه؛ لأنّه لو كانت يد القدرة ممكنة في وجود التّحريف لامتدت إلى القرآن، ولكنها عجزت فامتدت إلى ما هو دونه من مرويات التّأريخ والحديث!!!
فيسبوك 1437هـ/ 2017م