المقالات النقدية

قمّة جدّة والواقع العربيّ

جريدة عمان 1443هـ/ 2022م

عُقِدَ مؤخرا في المملكة العربيّة السّعوديّة الشّقيقة قمّة جدّة للأمن والتّنمية، شاركت فيها دول الخليج ومنها عُمان بطبيعة الحال، بجانب مصر والأردن والعراق وأمريكا، ولستُ معنيا هنا بالجانب السّياسيّ ومتعلقاته، ولكن يعنيني بشكل كبير الواقع العربيّ، خاصّة وأنّ القمّة تتحدث عن جانبين مهمّين: الأمن والتّنمية، وهما متلازمان، فلا تنمية بلا أمن، خصوصا ونحن نعيش في مرحلة تنامى فيها التّطرف والإرهاب وظلم الإنسان في فردانيّة، وسوء توزيع العدالة، مع تأثر السّوق العالمي، وصراع التّكتلات السّياسيّة في العالم، والمؤثرة على الوضع الاقتصاديّ والاستثماري.

هذا الوضع بلا شك له مصاديقه على الواقع العربيّ، فهذه اليمن تعاني أسوأ مراحل واقعها الإنسانيّ، ولا زال الوضع الفلسطينيّ يتراجع يوما بعد يوم، وتزداد مآسيه الإنسانيّة جيلا بعد جيل، ولا زالت دول أبضا تعاني من وضع اقتصادي وتنموي مؤثرا على الواقع الإنسانيّ فيها، وعلى المنطقة عموما، كالعراق والسّودان وتونس ومصر وسوريّة ولبنان وغيرها، وهذه دول كبار كباقي دول المنطقة، لها تأريخها العريق، وقوّتها البشريّة والماديّة، وتأثيرها السّياسيّ والفكريّ والتّنمويّ.

الّذي أراه للحديث عن الواقع العربيّ ونهضته في المرحلة المعاصرة؛ علينا أن لا نتجاوز ثلاث مفردات مهمّة – في نظري -: الإنسان والتّعدديّة التعايشيّة والإحياء، وقبل الحديث حول هذا، وإن كنت سابقا في مقالات متنوعة تحدّثت عن جوانب عديدة منها، ولكن يهمني هنا أن ندرك اليوم كما أننا نعيش واقعا إنسانيّا واحدا، وفي عالم متقارب جدّا، فالحرب الأوكرانيّة، والصّراع الشّرقيّ الغربيّ، في بعده الاقتصاديّ والبرجماتيّ الفلسفيّ الماديّ من جهة، وفي الصّراع الدّينيّ المسيحيّ كأداة ناعمة بين كنيستين شرقيّة وغربيّة يتشبث بهما الجهتان المتصارعتان من جهة ثانيّة، ومع بًعد الواقع الجغرافيّ عن المنطقة العربيّة، إلا أنّ تأثير هذه الحرب سلبا أم إيجابا امتدّ إلى العالم أجمع، بما فيها منطقتنا، فالعالم اليوم يتأثر ببعضه أكثر ممّا سبق، وأيّ ضرر يصيب جزءه أيّا كان موقعه الجغرافيّ، ودوره في التّـأثير العالميّ، إلا أنّ ذلك بلا شك يسقط أثره على العالم أجمع.

لهذا كما أننا جزء من المنظومة الإنسانيّة العالميّة، ونعيش الواقع الجغرافيّ المهم فيها، من حيث التّأريخ والجغرافيا والوفرة البشريّة والمواد الطّبيعيّة والسّوق الاستهلاكيّة، إلا أننا جزء قوميّ واحد، من حيث اللّغة والثّقافة، والمشتركات الدّينيّة واللّسانيّة والهوّيّات المتقاربة، وهي قوى ناعمة ومهمّة في نهضة المنطقة، وتسخيرها إيجابا في خدمة المجتمع الإنسانيّ، لهذا ينبغي أن ندرك ونحن نتحدّث عن الأمن والتّنمية أننا بواقعنا كدول قطريّة لا يمكن تحقّق ذلك بحال، إلا إذا تجاوزنا النّظرة الضّيقة في إدارة الدّولة القطريّة، وهي دولة إجرائيّة تعاني من هشاشة إذا انعزلت عن واقعها القريب فضلا عن البعيد، ولا يمكن تحقّق أمنها وتمنيها عالميّا ما لم يتحقق في بعده الأوسع والشّمولي على الأقل مع القريب، وأقصد به هنا الدّول العربيّة كمنظومة واحدة، يدور حولها منظومات متقاربة كالمنظومة الفارسيّة والتّركيّة والهنديّة مثلا.

لهذا أولا لا بد من ربط الواقع العربيّ بالواقع الإنسانيّ، من باب الانطلاقة من الواسع، ولا يمكن رهن ذلك بالهوّيّات ما لم يحقق الجانب الفردانيّ فيها، فقبل الحديث عن الانتماءات القطريّة كواقع إجرائيّ يتمثل فيه جانب المواطنة في بعده القطريّ، فنحن نتحدّث عن وطن عربيّ واحد، أي مواطنة ذات انتماء وهوّيّة قوميّة واحدة، لها مشتركاتها الجغرافيّة والانتمائيّة، فهذا الوطن العربيّ في بعده الفردانيّ لا يمكن الحديث حوله إلا من المنطلق الإنسانيّ، فالحالات الفرديّة في هذه المنطقة متباينة بشكل مخيف جدّا، فهناك حالات إنسانيّة تعيش واقعها التّنمويّ والإنسانيّ السّيء، من حيث تحقق الكرامة الإنسانيّة بالإشباع الشّهوانيّ والماديّ، ومن حيث التّعليم والصّحة، ومن حيث قيم الحرّيّات والمساواة والعدل، ممّا وسّع دائرة الفقر والتّشريد والاستبداد، وفتح دوائر فارغة تملأ بالتّطرف والإرهاب، فأصبحت المنطقة مهدّدة أمنيّا، ومتراجعة تنمويّا، ولا يمكن لأيّ دولة عربيّة قطريّة، وإن أظهرت قوّتها الاستخباريّة في جزئها القطريّ أن تكون بمعزل عن المهدّدات الأمنيّة السّلبيّة النّاشئة في موطن الفراغ في أيّ جزء من الواقع العربيّ، لهذا لن يتحقق البعد الأمنيّ بمعزل عن تحقيق الكرامة الإنسانيّة لجميع معزّزات ومكوّنات العالم العربيّ، والتّعاون الإيجابيّ في تحقق ذلك، مع الشّراك والتّعاون في تحقّق ذلك في العالم الإنسانيّ ككل أمنيّا وتنمويّا.

فإذا أدركنا الجانب الإنسانيّ سندرك أنّ هذا الجانب ليس من حيث فردانيّته فحسب؛ بل حتّى من حيث هوّيّاته وانتماءاته متعدّد ومتنوع، ففي الواقع العربيّ توجدد تعدديّة قلّ نظيرها في العالم أجمع من حيث الألسنة واللّغات واللّهجات والأديان والمذاهب والعادات والتّقاليد والفنون والتّوجهات اليمينيّة واليساريّة، هذه التّعدديّة حالة ثراء، وتشكل لوحة إيجابيّة إذا ما أحسن التّعامل معها من المنطلق الإنساني الواسع، لتتهذّب في شكلها الطّبيعيّ؛ لأنّها مرتبطة بالإنسان، والإنسان كائن متحرك ومتطوّر، ولا يكون ذلك إلا إذا وجدت المساحة الطّبيعيّة، حيث تشعر هذه الهوّيّات وإن كانت العديد منها ذات صبغة أقليّة؛ إلا أنّها إذا شعرت بالأمن، وأنّ خصوصيّاتها لا تتعارض مع إنسانيّتها، ولا تشعر بالغربة والانزواء من حيث الحقوق الفرديّة، والشّراك الإيجابيّ في الواقع العربيّ؛ بلا شك ستكون عنصر ثراء يساهم في الاستقرار الأمنيّ والتّنمويّ معا، فعلينا أن نتجاوز حساسيّة النّظرة السّلبيّة إلى المختلف، كما علينا أن نستثمر التّعدديّة إيجابا، ولا ينبغي صبغ الواقع العربيّ بلوحة سياسيّة ذات هوّيّة انتمائيّة واحدة، فهذه تقوده إلى الصّراع والعنف، ومن ثم تؤثر على الواقع الأمنيّ والتّنمويّ معا.

فإذا أدركنا الجانبين الإنسانيّ والتّعدّديّ التّعايشيّ؛ ندرك أهميّة الجانب الثّالث، وهو الجانب الإحيائيّ، ومن أكبر ما يعوق الإحياء الإحياءُ القطريّ دون الاعتناء بإحياء الآخر؛ بل أن نكون عونا في دماره وتشرذمه وضعفه، وكما أنّ الإحياء القطريّ، أي في الدّولة القطريّة الواحدة جانب مهم جدّا، علينا كأفراد ومؤسّسات أن نتعاون معه، وأن نشترك في تمكينه والحفاظ عليه، ولكن علينا أيضا أن نساهم إيجابا في إحياء الآخر أمنيّا وتنمويّا، وفي الواقع العربيّ على الإحياء أن يمتدّ جميع الوطن العربيّ، فعكس الإحياء الإماتة، وإماتة أيّ جزء عربيّ إماتة للكل، بمعنى يكون بؤرة سلبيّة تهدّد الواقع العربيّ أيّا كانت جغرافية بعضه قربا أو بعدا.

فعلينا أن نتخلّص من لغة أنا الدّولة القطريّة الواحدة، وعلينا أن نتحرّر من عقدة أنّ قوّتي في خراب الآخر ودماره، ولو كان يشترك معي جغرافيّا وقوميّا وثقافة؛ فخراب الآخر ودماره يعني بعد حين أن يمتدّ ضرر ذلك إلى المتسبب ذاته، بل وغير المتسبّب أيضا؛ لهذا يجب على الجميع التّعاون في إحياء الكل، والإحياء ليس بمعنى الصّدقات بين حين وآخر، أو بمعنى البيانات المسكنة بين فترة وأخرى، بل هو إرادة فلسفيّة وعمليّة في إحياء الكل، بالمعنى الفردانيّ، وبالمعنى المؤسّساتيّ والقطريّ أيضا، من حيث جميع الجوانب الشّهوانيّة الغرائزيّة، والحقوق الملازمة للإنسان، وفي الدّفع بعجلة التّنميّة في جميع الأقطار اقتصاديّا واستثماريّا وسياحيّا.

بهذه الجوانب الثّلاثة في نظري سنساهم بشكل إيجابيّ في الرّقيّ بالواقع العربيّ، والانطلاقة به سياسيّا وأمنيّا وتنمويّا من حالة يرثى لها كواقعه اليوم، إلى حالة تحقّق كرامته الإنسانيّة، وتحافظ على تعددّيته وجماليّة في ذلك، وتحيي واقعه ليكون مؤثرا كتأريخه السّابق، ومساهما في النّهضة المعاصرة، وبناء الحضارة الإنسانيّة الواحدة، وهذا ما نرجوه بعد مؤتمر جدّة وغيره من المؤتمرات، وأن يدرك السّياسيون أنّ نهضة هذه الشّعوب ككل، وإحيائها ورقيّها فردانيّا وانتمائيّا؛ هو الّذي يقود إلى التّنمية الحقيقيّة، وتحقق الأمن في جوّه الواسع لا المقنع.

السابق
جدليات الأديان من الإثارة إلى التّعقل
التالي
نظريّة تجديد الفقه الإسلاميّ
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً