جريدة عمان، الثّلاثاء 9 صفر 1446هـ/ 13 أغسطس 2024م
من النّداءات الّتي لم أفقه مرادها وعلاقتها بالقضيّة الفلسطينيّة، والّتي ردّدت في إحدى الوقفات التّضامنيّة مع أحداث غزّة الأخيرة عبارة “تسقط القوميّة”، والشّعارات إن لم تكن محكمة يكن لها تأثير سلبيّ في العقل الجمعيّ، خصوصا في الأجيال المعاصرة، وأزعم أنّ بعضهم لا يفقه معنى القوميّة، فالقوميّة من حيث أصلها قديمة قدم تبلور الاجتماع البشريّ، فارتبطت بعناصر كليّة وفق انتماء يجمعها كما يرى أندروفنسنت في كتابه “نظريات الدّولة”، حيث “الجماعة لأول وهلة، تتضمّن بعض الإحساس بالانتماء، المحليّة، مجموعة من القيم والمعتقدات والأهداف المشتركة”، سميت لاحقا باسم القوميّة أو دولة الأمّة Nation State، ويرى أنّ “القوميّة هي ظاهرة حديثة نسبيّا، يعود تاريخها إلى أواخر القرن الثّامن عشر، وأوائل القرن العشرين”.
بيد أنّ الحكم دروزة (ت 2017م) وحامد الجبوريّ (ت 2017م) – وهما من القوميين العرب الأوائل – ينقضان في كتابهما “القوميّة العربيّة” والّذي صدر قبل عام 1960م ارتباط القوميّة بالقرون الأخيرة “إنّ القوميّة لم تنشأ في القرن الثّامن عشر أو التّاسع عشر كما يقول بعض المفكرين، بل تكوّنت أسس الوجود القوميّ لكلّ جماعة قبل ذلك بكثير، وما حدث في القرن الثّامن عشر والتّاسع عشر والعشرين هو تبلور الشّعور القوميّ وليس نشوء القوميّة”، فنحن “إذا ألقينا نظرة عامّة على هذا العالم، وحاولنا أن نقوم بدراسة خاطفة لواقع البشر الّذين يسكنون الأرض، لطالعتنا ظاهرة بارزة تعبّر تمام التّعبير عن حقيقة الاجتماع البشريّ، هذه الظّاهرة هي أنّ البشر إنّما يعيشون جماعات جماعات، كلّ جماعة منها تختلف عن الأخرى بعدّة خصائص ومميزات ومظاهر تعطي لهذه الجماعة طابعا خاصّا يلصق بها، ويميزها عن غيرها من الجماعات الإنسانيّة”، “فالعالم إنّما يتكوّن من مجتمعات قوميّة، من أمم متعدّدة، يكون كلّ منها بطبيعته وحدة حياتيّة متفاعلة، لها واقعها التّاريخيّ واللّغويّ والثّقافيّ والنّفسيّ والجغرافيّ … وبكلّ هذه الأمور مجتمعة تتميز الأمم، وتستقل بعضها عن بعض، وإن كانت تشترك أحيانا في بعض هذه الأهداف مع بعض الأمم الأخرى”.
وعلى هذا هناك مفردات متقاربة من حيث الصّورة الأولى: الاجتماع البشريّ – القوميّة – الهويّة – الانتماءات المشتركة – الدّولة القطريّة، والأخيرة – أي الدّولة القطريّة – محلّ جدل من حيث علاقتها بالقوميّة، فهل هي صورة قوميّة مصغرة يجمع بينها مشترك المواطنة والتّأريخ والثّقافة، أم أنّها كما يرى أندروفنسنت “إذا نظرنا إلى الدّولة على أنّها مجرد نظام حكوميّ بيروقراطيّ أو جسد من المؤسّسات، فبالتالي يمكننا القول بأنّها متميزة عن الجماعة، ومن ناحية أخرى، إذا نظرنا إلى الدّولة على أنّها نظام أكثر شموليّة واتّساعا ليشمل كلّ العلاقات الاجتماعيّة، وليجسّد مثاليات أخلاقيّة جماعيّة، فبالتالي يمكن القول في معنى مهم أنّها تضمّ الجماعة، وهكذا فإنّ معنى الجماعة، مثل المجتمع، يرتبط ارتباطا وثيقا بالكيفيّة الّتي ينظر بها الإنسان إلى الدّولة”.
وهناك من حاول الممايزة بين ثلاثة جوانب رئيسة في الدّولة: الدّين والإنسان والثّقافة، فإذا غلب الدّين كنت ثيوقراطيّة، وإذا غلبت الثّقافة الشّموليّة أو هوية معينة كانت استبداديّة، وأمّا إذا تعلّقت بالإنسان وحافظت على الانتماءات الدّينيّة والثّقافيّة كانت ديمقراطيّة تجمعها ذات المواطنة، وقد أجاب القوميون أنّه لا تعارض بين القوميّة باعتبارها مشتركات وعلى رأسها الثّقافة بينها وبين الدّين والإنسان، فيرون “القومية وجود، والدّين رسالة أتت تصلح بعض جوانب هذا الوجود”، فروح الدّين “مجموعة من القيم والفضائل”، وهذا لا يتعارض مع القوميّة، ولكن يتعارض لمّا يتحوّل إلى “حركات سياسيّة تنفي القوميّة كوجود اجتماعيّ تاريخيّ، وتحاول أن تذيب كلّ قوميّات العالم في بوتقة واحدة”، وهي أيضا لا تتنافى من الغاية الإنسانيّة؛ لأنّ من أهدافها تحقيق “مجتمع قوميّ عربيّ تتحقّق فيه العدالة الاجتماعيّة بشتّى أشكالها، وتتحقّق فيه إنسانيّة الفرد العربيّ والأمّة العربيّة”.
وأمّا تأريخيّا في العالم العربيّ بالاعتبار الحركيّ، وليس بالاعتبار حركة الاجتماع البشريّ في المنطقة، يرى هاني الهنديّ (ت 2016م) وعبد الإله النّصرواويّ (ت 2023م) في كتابهما “حركة القوميين العرب” أنّ “بعض من كتب عن الحركة اعتبر تجربة كتائب الفداء العربيّ هي الّتي شكلت الانطلاقة، وآخرون تحدّثوا عن أنّها امتداد لـعصبة العمل القوميّ الّتي تأسّست في آب ۱۹۳۳م، حيث عقد مؤتمرها الأول في قرية قرنايل في جبل لبنان، وفريق ثالث تحدّث عن مفكرين وشخصيّات قوميّة، وعن أمكنة أخرى وفترات زمنيّة مختلفة، لم يكن للحركة علاقة بهم، ولا بالأماكن والأزمنة الّتي ذكرت، ولكن الوقائع تؤكد أنّ البداية كانت في عام ١٩٥١م، ومن بيروت كانت الانطلاقة، وكان المؤسّسون طلابا جاءوا من أكثر من قطر عربيّ”.
وكان الغاية منها قيام دولة عربيّة واحدة أمام الهيمنة التّركيّة حينها، ثمّ الاستعمار والصّهيونيّة العالميّة، لهذا من حيث حضور الفكرة كان في لبنان، فحضور “الفكرة القوميّة العربيّة [فيها، لها] جذور هي الأعمق والأقدم في بلدان المشرق العربيّ منذ الثّلث الأخير من القرن التّاسع عشر”، ولهذا “كان دعاة العروبة في غالبيتهم من المسيحيين العرب عند نشأة الوعي العربيّ”، وينقل مؤلفوا كتاب “حركة القوميين العرب” عن القوميّ العروبيّ الشّهير ساطع الحصريّ (ت 1968م) تفسيره لهذه الظّاهرة، حيث أرجع “السّبب الأساسيّ إلى الطّابع الإسلاميّ، وقوانين السّلطنة العثمانيّة الّتي جعلت المسيحيين العرب يشعرون أنّهم غرباء، شأنهم شأن البلغار واليونانيين والأرمن، وبكلمة، لم تكن المواطنة هي أساس القوانين على الرّغم من صدور التّشريعات الإصلاحيّة”، ومع هذا لأسباب التّخلف واستغلال موارد الأمّة والاستبداد والاستعمار ثمّ القضيّة الفلسطينيّة لقت القوميّة العربيّة رواجا في العالم العربيّ، فانتقلت إلى سوريّة وفلسطين، ثمّ العراق ومصر والأردن، وعمّت اليمن والكويت والجزيرة العربيّة عموما، وارتبطت بالماركسيّة لارتباطها الماديّ في تحقّق العدالة الاجتماعيّة وفق المساواة الذّاتيّة بين الجميع.
ولكونها حركة ثوريّة تحرريّة كانت القضيّة الفلسطينيّة حاضرة فيها قبل تبلورها كحركة، ففي كتاب “حركة القوميين العرب” أنّه “بدأ نشاط النّواة المؤسّسة لهذا العمل من قبل مجموعة صغيرة من الشّباب العرب، ومن أكثر من بلد، الّذين تصادف وجودهم طلابا في الجامعة الأميركيّة في بيروت أيام نكبة فلسطين عام ١٩٤٨م”، وفي كتاب “مع القوميّة العربيّة” بيّنت الحركة أنّ من “أهدافها – أي القوميّة – المرحليّة الّتي تناضل لتحقيقها في المرحلة النّضاليّة الحاضرة هي: القضاء على التّجزئة البغيضة في الوطن العربيّ بالوحدة العربيّة الشّاملة، والقضاء على الاستعمار بشتّى أشكاله بالتّحرّر الكامل، والقضاء على إسرائيل بالثّأر”، وأصدرت الحركة عام 1958م كتاب “إسرائيل: فكرة، حركة، دولة” لهاني الهنديّ ومحسن إبراهيم (ت 2020م)، وهي قراءة عميقة ومبكرة في تفكيك بنية اليهوديّة والصّهيونيّة.
لهذا لا أدري محلّ عبارة “تسقط القوميّة” وعلاقتها بالقضيّة الفلسطينيّة، ولو كانت في محلّ منفصل في رفض القوميّة لكان فيه شيء من المنطق، ولكن أن يكون في فضاء القضيّة الفلسطينيّة فهذا ينمي عن شعارات لا قيمة لها، وتعطي تشويها للحقائق المعرفيّة والتّأريخيّة، فالقضيّة الفلسطينيّة لا أحد يدّعي أنّه الحامي الوحيد لها، وقبل أن تتبلور الحركات الإسلاميّة جهاديّة أم دعويّة؛ كانت قبلها وأثنائها حركات أخرى أيضا ناضلت لأجل القضية، وهذا لا يعني بحال ملائكيّة الحركات القوميّة، كما لا يعني شيطنتها، فهي مرحلة تأريخيّة لها حسناتها وسلبيّاتها، وسبق الحديث عنها، وفي الوقت ذاته لا يجوز تشويه التّأريخ، كما أنّه علينا أن نبتعد عن مثل هذه الشّعارات غير الواقعيّة، لما لها من تأثير سلبيّ في العقل الجمعيّ.