المقالات التأريخية

الزّيديّة مذهب اليمن المجهول

جريدة عُمان 1444هـ/ 2023م

اليمن ذلك البلد القريب منّا جغرافيّا، فهو جار لنا يحبّنا ونحبّه، إلّا أنّ الأوضاع السّياسيّة في اليمن في عقوده الأخيرة جعلته بعيدا عنّا ثقافيّا وسياحيّا، وإن كان بعده لا يتعدّى سحابة صيف، فأملنا كبير أن نرى اليمن مزدهرا مستقرّا في القريب العاجل، ففي اليمن كما أخبرني الباحث اليمنيّ أبو الحسن مجد الدّين المؤيّديّ “تركيبة دينيّة ومذهبيّة تعايشت على مرّ الأزمان والعصور …  ففيه المسلمون واليهود، ومن المسلمين الزّيديّة ولهم وجود كبير في شمال اليمن، وثقلُها في صعدَة وصنعاء، ولا تكاد تخلو منهم المدن الكبيرة في أرجاء اليمن على تفاوت كثرة وقلّة، ومن المذاهب في اليمن الإسماعيليّة، وثقلُها في حراز والعدين، والصّوفية وثقلُها في حضرموت، ولها وجود في تعز والضّالع والبيضاء وشبوة، والإماميّة قلّة في صنعاء، وبيتوتات في الجوف، والشّافعيّة أيضا لها وجود كبير في اليَمن”، وفي الفترة الأخيرة كان الانتشار السّلفيّ، واختلط بالشّافعيّة بشكل كبير.

وبالنّسبة للجانب العقديّ والكلاميّ داخل الخطّ الإسلاميّ؛ فقد أخبرني الباحث اليمنيّ محمّد يحيى عزان أنّه “في اليمن … هنالك مذهبان أساسيان: المذهب المعتزليّ، والمذهب الأشعريّ، فالزّيديّة محسوبون في علم الكلام على المعتزلة، ولكنّهم يختلفون عنهم في بعض المسائل التّفصيليّة، والأشعريّة يشكلون أيضا المدرسة الشّافعيّة، والتّيار السّنيّ بشكل عام، وفي الأخير ظهرت المدرسة السّلفيّة الّتي هي ليست بمعتزليّة، وليست بأشعريّة، أو هي تنتقد الأشعريّة؛ باعتبار أنّها تعتمد على الكلام، والمدرسة السّلفيّة تعتمد على النّصّ”.

وبطبيعة الحال يوجد في اليمن كغيرها الاتّجاهات اليساريّة والاشتراكيّة، ولها قوّتها سابقا، كما توجد الاتّجاهات القرآنيّة والعقلانيّة واللّبراليّة واللّادينيّة، وأغلبها نخبويّة، وتوجد رموز فكريّة وثقافيّة لها قوّتها وحضورها في هذه الاتّجاهات وغيرها.

حديثي عن الزّيديّة يعود لأسباب، على رأسها جهل الكثير في منطقة الخليج والوطن العربيّ خصوصا لهذه المدرسة الموغلة في القدم، وجهلها لا يعني نقيصة في ذات المذهب؛ لكنّه حالة طبيعيّة سابقا بسبب الانتشار المذهبيّ كان موزعا جغرافيّا، فتشكل منطقة جغرافيّة على مذهب ما يجعل المذاهب الأخرى مجهولة في هذا المنطقة، إذا ما استثنينا المناطق المختلطة في مذهبين أو أكثر، كما نستثي العالِم الدّارس للمذاهب والفرق الأخرى من غير طائفته، وغالب الدّراسات السّابقة إمّا نقلا عن الآخر، أو سماعا من العامّة، ولهذا يحدث لغط كبير، وإضافات مغلوطة، قد تكون لأسباب سياسيّة أو مذهبيّة، أو نتيجة روايات وحكايات عابرة، وقلّ سابقا من يقرأ الآخر بإنصاف.

وبما أنّ العالم اليوم يعيش في قرية واحدة، وأصبحنا نرى الآخر عن قرب، فجميل أن نقرأ الآخر من ذاته لا عن طريق غيره، وجميل أن نبدأ بالقريب قبل البعيد، فكما أنّ الخلطة ترفع النّفرة؛ فكذلك معرفة الآخر يرفع تلك الحساسيّة المفرطة تجاه المختلف، مع أنّ المشترك كبير جدّا – كما أسلفت  في أكثر من مقالة – بين المذاهب الإسلاميّة، يجعل تسميتها مذهبا أقرب إلى التّجوّز من الواقع، ولهذا حاولت أن أقترب من الزّيديّة من خلال لقاءات مع علمائها وباحثيها في كتاب أنهيته قريبا بعنوان “من الزّيديّة”، يَقرأ الزّيديّة تأريخا وفكرا كلاميّا لاهوتيّا، وفكرا فقهيّا وسياسيّا مع واقعها الحالي، عسى أن يرى النّور قريبا.

والزّيديّة يسموّن بهذا الاسم نسبة إلى الإمام زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (ت 122هـ)، والّذي خرج على الأمويين حتّى استشهد، فهم علويّون من حيث التّكوّن، ولهذا يدخلهم الباحثون ضمن فرق الشّيعة، وكما أنّ أصل الخلاف بين المسلمين سياسيّ؛ فكذلك الانقسام بين الشّيعة أنفسهم كان سياسيّا من حيث الابتداء، فالزّيديّة يرون الإمامة شورويّة عن طريق البيعة وليس الوراثة في البطنين، أي في أولاد فاطمة من الحسن (ت 49هـ) أو الحسين (ت 61هـ)، فم يرون الإمامة في عليّ بن أبي طالب أنّها بالنّصّ الخفيّ، وليس بالنّصّ الجليّ كما عند الإماميّة، لهذا جمهورهم عدا الجاروديّة يرون صحة خلافة أبي بكر (ت13هـ) وعمر (ت 23هـ)، مع أولويّة إمامة عليّ بن أبي طالب (ت 40هـ)، وولاية الشّيخين من باب تقديم المفضول على الفاضل.

“وبعد مقتل زيد بن عليّ صارت الإمامة في ابنه يحيى بن زيد (ت 125هـ)، ومضى إلى خراسان، واجتمعت عليه جماعة كثيرة، وبعده في الإمامين محمّد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن، أمّا الأول قتل بالمدينة سنة 145هـ، قتله عيسى بن ماهان (ت 195هـ)، والثّاني قتل بالبصرة سنة: 145هـ، قتل بأمر الخليفة جعفر المنصور (ت 158هـ)، ولم يظهر الأمر بعدهما إلا على يدي ناصر الدّين الحسن بن عليّ الأطروش (ت 304هـ) في طبرستان والدّيلم شمال إيران”، وكانت لهم دولة في طبرستان والمغرب، ووصل الفكر الزّيديّ إلى اليمن بوصول الإمام الهادي يحيى بن الحسين (ت 298هـ) إلى صعدة عام 284هـ، ويعتبر الإمام الهادي من الرّموز الفقهيّة المؤسّسة للمدرسة الزّيديّة عموما، وفي اليمن خصوصا، ولهذا يطلق عليهم الهادويون أحيانا، ويرى الباحث السّعوديّ في تاريخ المذاهب والأفكار زيد الفضيل “أنّ نسبتهم إلى الإمام زيد نسبة اعتزاز وافتخار لا نسبة تقليد كلّي كما هو الحال لدى المذاهب الأخرى، ذلك أنّ الإمام زيد – من وجهة نظرهم – ليس أولى بالتّقليد من غيره من أئمّة آل البيت المعاصرين له، ولا أنّه أولى بالتّقليد من الإمام القاسم بن إبراهيم المتوفى سنة 246هـ/859م، أو حفيده الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين المتوفى سنة 298هـ/910م، أو غيرهم”.

وبانتشار الزّيديّة في اليمن قامت لهم دولة استمرت لفترة طويلة، تزاوجت بين القوّة والضّعف، والانتشار والانحصار، فكانت صعدة عاصمتهم الدّينيّة حتّى اليوم، وصنعاء عاصمتهم السّياسيّة، كما “عاصرت الإمامة الزّيديّة في اليمن عددا من الدول السُّنيّة والإسماعيليّة المتعاقبة كالدّولة الزِّياديّة، والنَّجاحيّة، والصُّليحيّة، والأيوبيّة، والرَّسوليّة، والطّاهريّة” وأخيرا العثمانيّة.

وأول إمام لهم في اليمن “الإمام محمّد المرتضى ابن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، وقد تنازل عن الإمامة لصالح أخيه أحمد الّذي تلّقب بالنّاصر لدين الله، وتوفي سنة 310هـ/922م”، وآخرهم كانت المملكة المتوكليّة اليمنيّة الّتي تأسّست على يد الإمام المتوكل على الله يحيى بن محمّد حميد الدّين (ت 1367هـ /1948م)، آخر أئمّتها “الإمام محمّد البدر بن أحمد بن يحيى حميد الدّين، الّذي سقطت المملكة المتوكليّة اليمنية في عهده، إثر أحداث السّادس والعشرين من شهر سبتمبر سنة 1962م / 1382هـ، والتي آذنت بقيام النّظام الجمهوريّ في اليمن”.

كما أنّهم يفترقون عن الشّيعة الإماميّة سياسيّا  فطائفة بعد وفاة محمّد بن عليّ الباقر (ت 114هـ) بايعت زيد بن عليّ، وطائفة أخرى بايعت ابن أخيه جعفر بن محمّد الصّادق (ت  148هـ)، وكانت طائفة بايعت زيدا، ثمّ بسبب تتبع وإيذاء هشام بن عبد الملك الأمويّ (ت 125هـ) للزّيديّة؛ تراجعت عن بيعته إلى بيعة جعفر الصّادق، فأطلق عليهم زيد مصطلحَ (الرّافضة)، أي رفضوا بيعته، فهو أول من أطلق هذا اللّفظ، إلّا أنّه استخدم مذهبيّا عند خصومهم لاحقا لكلّ من رفض بيعة الشّيخين، أي أبا بكر وعمر.

ثمّ اختلفوا عن الإماميّة مذهبيّا في العديد من المسائل الفقهيّة والكلاميّة، فاستقر مذهبهم على حرمة زواج المتعة، “ولا يقولون بالبداء ولا التّقيّة، ولا يعترفون بعصمة الأئمّة، ولا باختفائهم، ولا يعتقدون بالمهديّ محمّد بن الحسن، ولا يرون رجعة الأئمّة”، ويرون أنّ الاجتهاد مطلق، ولا يقولون بالمرجعيّة بصورتها الإماميّة الحاليّة، ويجيزون تقليد الميّت، وإن كانوا يستحبون تقليد الحيّ، خصوصا في مسائل البلوى أو النّوازل، إلّا أنّهم يشتركون مع الإماميّة فقها في أخذ الخمس، وقول حيّ على خير العمل في الأذان، والتّكبير خمس مرات في صلاة الجنازة، ويرسلون أيديهم في الصّلاة، ويقولون ببدعيّة صلاة التّراويح جماعة خلاف الإماميّة حيث يرون بدعيّة التّراويح كليّا، فرادى أو جماعة، فلا يستحبّ غير صلاة اللّيل فرادى، كما أنّ مشهور الزّيديّة أنّ المهدي المنتظر رجل من أهل البيت، يولد في زمانه، ولا يخصّونه بمحمّد بن الحسن، خلافا للجاروديّة الّذين يقولون بقول الإماميّة.

ويرى جمهور الباحثين أنّ الزّيديّة حافظت على أصول الاعتزال كلاميّا، فيقولون بالأصول الخمسة: العدل، والتّوحيد، والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وهم بهذا أقرب إلى الإباضيّة، إلّا أنّ الإباضيّة لا يقولون بالمنزلة بين المنزلتين، ولا يقولون بالتّحسين والتّقبيح العقليين في الجملة، ولا تقديم العقل على النّقل، ولا خلق الأفعال خلاف الزّيديّة في الجملة، إلّا أنّهم يشتركون مع الزّيديّة في خلق القرآن، وهو قول جمهور الإباضيّة خلاف الإماميّة في أحد قوليهم والأشاعرة وأهل الحديث.

ويرى الزّيديّة كرأي الإباضيّة والإماميّة والأشاعرة والماتريديّة خلافا للصّفاتيّة في تأويل الصّفات الخبريّة، ويرفضون الجبر والتّشبيه، ويشتركان الزّيديّة والإباضيّة في أنّ الصّفات الذّاتيّة هي عين الذّات، وأنّه لا يرى في الدّنيا والآخرة، وأنّه لا شفاعة لأهل الكبائر في الآخرة، بيد أنّ الزّيديّة يرون الشّفاعة لمن استوت حسناتهم وسيئاتهم، والإباضيّة في الجملة يقولون بالإحباط، وبعض الإصلاحيين الإباضيّة في المغرب المعاصرين يقتربون من الزّيديّة في هذا، كذلك الزّيديّة والإباضيّة لا يقولون بالخروج من النّار أو التّطهير، خلافا لباقي المدارس الكلاميّة الإسلاميّة.

وأهم المصادر الحديثيّة عند الزّيديّة مجموع الإمام زيد، وهو من طريق أبي خالد الواسطي [ت 233هـ] يرويه عن زيد بن عليّ عن أبيه عن الحسين عن أبيه عليّ بن أبي طالب عن رسول الله – صلّى الله عليه وآله وسلّم -، وأغلب أحاديثه فقهيّة لا تتجاوز ألف حديث بالمكرر، والزّيديّة مذهب سياسي اعتزالي فقهي أكثر منه حديثيّا، وهم منفتحون على المصادر الحديثيّة السّنيّة أكثر من المصادر الحديثيّة الإماميّة، إلّا أنّ لديهم قاعدة العرض على القرآن كالإباضيّة والإماميّة، وقاعدة إجماع العترة في الفقة وفرز الرّواية، وهي قريبة من قاعدة عمل الأشياخ عند متقدّمي الإباضيّة، وقاعدة عمل أهل المدينة عند المالكيّة.

وفي الفقه الزّيديّة يقتربون كالإباضيّة من المذاهب السّنيّة من حيث الأصول، فيقولون بالأدلّة الإجماليّة القرآن والسّنة والإجماع والقياس والاستحسان والاستصحاب وشرع من قبلنا، ونحوها على تفصيل في بعضها أو أجزائها، وهنا يخالفان الإماميّة والظّاهريّة في اعتبار القياس ليس من الأدلّة الأصوليّة، وكما أسلفنا ترى الزّيديّة أنّ العقل مقدّم على النّقل، أو هو أول الأدلّة كمشهور المعتزلة، وفي فروع الفقة هم كسائر المذاهب الإسلاميّة تشترك في أغلبه، كما يقتربون فقها من الإباضيّة بحكم تقدّمهم عملا تحت مدرسة أهل الرّأي، واشتراكهم في بعض المفرزات للرّواية الحديثيّة، وتقترب الزّيديّة من الشّافعيّة؛ لتأثر الجميع بأصول الشّافعيّ، ثمّ لخلطتهم جغرافيّا مع شافعيّة اليمن، ويقترب الزّيديّة مع المدارس الفقهيّة السّنيّة عموما لسبب انفتاحهم المبكر على المصادر الحديثيّة والفقهيّة السّنيّة، ولقولهم بالاجتهاد المطلق، وظهرت منهم رموز اقتربت من المدرسة السّنيّة كابن الوزير (ت 840هـ)، والجلال (ت 1084هـ)، والمقبليّ (ت 1108هـ)، والشّوكانيّ (ت1250هـ).

لهذا بهذه الخطوط العريضة ندرك عراقة المدرسة الزّيديّة، ولإسهامها اللّغوي والأدبيّ والكلاميّ والفلسفيّ والفقهيّ والسّياسيّ والتّأريخيّ طيلة التّأريخ الإسلاميّ، فحري أن يلتفت إليها، ويقترب منها وصفا ونقدا، كسائر المذاهب الأخرى، كما يقترب منها تعرّفا وتعارفا واعترافا.

*مراجع المقالة:

مَنِ الزّيديّة؟ (النّشأة – التّصورات – العمل – الواقع)، لكاتب المقالة، مرقون.

مقالة: الزّيديّة: علامات وأفكار (الخصائص الفكريّة والمؤثرات الثّقافيّة)، زيد بن عليّ الفضيل.

السابق
وزير الإعلام العمانيّ وصناعة الوعي الحقيقيّ
التالي
المثققون المصريون وعلاقتهم بسلاطين آل سعيد في بداية القرن العشرين
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً