تقدمة:
بدعوة كريمة من أستاذي الفاضل: سالم المشهور في صالونهم الثقافي للحديث عن الشريعة فارتأيت أن أخصص الحديث حول الشريعة القرآنية والتحديات المعاصرة، لذا سيكون الحديث مركزا جول الرؤية القرآنية للشريعة.
من هنا سيكون الحديث وفق محورين:
المحور الأول: الشريعة القرآنية.
المحور الثاني: التحديات المعاصرة التي تدور حول الشريعة.
وقبل الدخول في الموضوع ننظر في معنى الشريعة لغة، فقد جاء في مختار الصحاح مادة شرع ما يلي: الشَّرِيعةُ مَشْرَعةُ الماء وهي مورد الشاربة، والشَّرِيعةُ أيضا ما شرع الله لعباده من الدين، وقد شَرَع لهم أي سنَّ، وبابه قطع.
وعليه الشريعة لغة الطريقة والسنة والمنبع، وجميع ذلك متداخل ومتلازم.
المحور الأول: الشريعة القرآنية
ذُكِرَت لفظة الشريعة بمشتقاتها في القرآن الكريم أربع مرات على التالي: شرع، شرعوا، شِرعة، شريعة، وسنتطرق إلى بياني هذه المشتقات بشكل موجز:
أولا: لفظة شَرَعَ وردت في سورة الشورى آية 13، ونصها: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}.
وعند التأمل في هذه الآية نجد الله تعالى يذكر أنّ الشريعة وقد عبّر عنها هنا بالدين، والدين مجموعة من التوجهات والممارسات عند فئة معينة من الناس[1]، وهنا يريد الله بالدين أصولَ الشريعة كالتوحيد ورؤوس العبادات وما يدخل في ذلك من عدل وتحرير الإنسان من العبودية وغيرها، وهذه جاء بها جميع الأنبياء، وأشار القرآن إلى بعض الرموز الكبيرة منهم، وحذّر من التفرق والاختلاف عليها، بل الدين جامعة واسعة للجميع.
ثانيا: لفظة شَرَعُوا وردت في السورة نفسها أي الشورى آية: 21، ونصها: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
هنا تحذير بليغ أن يستغل اسم الله أو الشريعة أو الدين في إضافة أمور لم يشرعها الله، ولكن شرعها البشر لأنفسهم، ثم تضاف إلى الله تعالى، والتحذير من وجهين:
الوجه الأول: إشراك بعض المخلوقات لتكون وصية على العباد، فتشرّع لهم، وتنسب ذلك إلى الله تعالى، والإشراك هنا يدخل فيه الأحبار والرهبان والعلماء أيضا، والذين يضيفون إلى الدين، ويجعلون ما تمليه عقولهم من الشرائع دينا وشريعة إلهية، وهذا ما حدث مثلا عند هذه الأمة عن طريق الروايات، أو تقديس المذاهب، فجعلت بعض أفرازات العقول دينا لا يجوز المساس به.
الوجه الثاني: استغلال اسم الله أو شريعته كعنصر ترهيب، ومطية لخضع الرقاب، ونحوه كما حدث عند الخلاف السياسي بين المسلمين، فحوّرت بعض الاختلافات إلى دين منسوب إلى الله تعالى، وهذا واضح في الدراسات الإسلامية.
ومما سبق لا يعني إلغاء العقول لتفكر وتبدع، ولكن في حدود البشرية، لا أن تنسب ذلك إلى الله تعالى، لتحقق أكبر قدر من الجذب الجماهيري باسم الدين.
رابعا: لفظة شِرْعَة وردت في سورة المائدة آية 48، ونصها: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
نلاحظ من هذه الآية الربط بين القرآن والشريعة الربانية، فالله تعالى وإن كانت شريعته جاء بها الأنبياء والمرسلون عن طريق الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل، إلا أنّ هذه الشرائع أدخل فيها ما نسب إلى الله كذبا وزورا، فجاء القرآن مصححا، وفي الوقت نفسه جاء مصدّقا لما فيها من حق، ومهيمنا عليها في الحكم.
وهذا ليس خاصا بما سبق نزول القرآن، بل هو عام إلى يوم الدين، حيث هذه الخاصية باقية فيه، لمعرفة مما يصح نسبته إلى الله كشرع إلهي، لذا هو مصحح ومهيمن ومصدّق لكل ما عداه، فالقرآن هو القرآن، والبشر هم البشر.
خامسا: لفظة شَرِيعَة وردت في سورة الجاثية آية 18، ونصها: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.
هنا يخاطب الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – وهو خطاب للناس أجمعين، حيث يذّكر الله هنا نبيه أنّ الله جعله على طريقة أو شريعة واضحة، فعليه أن يتبعها، ولو خالف أهواء الذين لا يدركون مغازيها، أو يُعتبر في نظرهم من الجديد، المخالف لتراث الآباء والأجداد.
مما سبق ندرك أنّ الشريعة تمثل الخطوط التالية:
- الشريعة الربانية واحدة المصدر، أي أنّ المشرّع هو الله سبحانه وحده لا شريك له.
- لا يجوز نسبة شيء إلى الله لم يشرعه، وإنما ينسب إلى البشر، وهو قابل للنظر والأخذ والرد، ولا يترتب عليه تفسيق أو تكفير.
- القرآن ناقل لشرع الله وهو يمثل لما عداه ثلاثة خطوط: مصدّق، ومهيمن، ومصحح، لأنه فرقان ونور وهدى.
- يجب اتباع الشريعة ولو خالفت الأهواء، ولم تدرك العقول مغازيها ظاهرا.
وعند استقراء الشريعة في القرآن نجدها تدور وفق ثلاث دوائر رئيسة:
- الدائرة الأولى: دائرة موجودة في جميع الأمم والنحل، وكان يمارسها العرب، وعندما أُنزِل القرآن أكدّها وأرجعها إلى أصولها، ومثل هذا الصلاة والصيام والحج، لذا لم يدخل القرآن في كثير من تفصيلاتها، وعليه لم نجد خلافا بين مدارس الأمة الإسلامية في مجملاتها، فقط حدث هناك بعض التنبيهات لبعض الأخطاء التي مورست باسم الشريعة، مثال هذا قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[2]، وذلك لأنّ أشراف قريش كانوا لا يقفون مع الناس في عرفة، وإنما كانوا يقفون في مزدلفة، فأمرهم الله تعالى أن يقفوا في عرفة كسائر الناس.
- الدائرة الثانية: هي الدائرة المفصلة نوعا ما لبعض الأحكام كالمواريث وبعض أحكام الأسرة كالطلاق، وبعض الحدود ونحوها.
- الدائرة الثالثة: أحكام مجملة أعطت العقل البشري، والتداخل الحضاري دوره في تفصيلها، ونحو هذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[3]، فالآية أشارت إلى ثلاثة أسس: القسط، والعدل، والشهادة لله تعالى، وتركت مجال تفصيلها للعقل والتداخل الحضاري، وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[4]، والربا كناية عن الظلم والاستغلال السيء، ومع هذا تركت للعقل والتدافع الحضاري اقتصاديا ومجتمعيا النظر في تحديد ذلك، وهكذا عند قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[5]، ولم تفصل مجالات وآلية الشورى، وإنما تركت ذلك للناس حسب الزمان والمكان.
المحور الثاني: التحديات المعاصرة التي تدور حول الشريعة.
توجد في حقيقة الأمر عدة تحديات تدور حول الشريعة، منها ما هو داخي في مجموع الأمة، ومنها ما هو خارجي، ومنها ما قديم في التأريخ، ومنها ما هو معاصر، لذا سنجمل بعض التحديات لضيق المقام:
أولا: تحدّي المصطلح ذاته، فالعديد من الأزمات التي تثار حاليا في نظري أزمة مصطلحات، نحو العلمانية واللبرالية والحداثة والعقلانية والأصولية ونحوها، حيث هذه المصطلحات أصبحت قنابل تستخدم لأغراض سياسية وفكرية معادية، وهكذا الشريعة، فيطلقون مثلا: تطبيق الشريعة هدف الأصوليين من الحكم، أو يقول من ينادي بذلك داخل مجموع الأمة: نريد تطبيق الشريعة الإسلامية، وهذان الفريقان لا يدركان مفهوم الشريعة وأبعادها، حيث نجد أنّ الفريق الأولى يرى الشريعة شكليات حدود ومرأة وخمور وما يدانيها، والثاني يخلط بين الشريعة الربانية وتطبيقات الفقهاء، ولا يدرك أولوياتها ومغازيها، فأصبح هنا مصطلح الشريعة فقط كمسمى للفريقين، فلا بد من تحديد مفهوم الشريعة وآلية التعامل معها.
ثانيا: الخلط في الشريعة بين النص والتطبيق، أو بمعنى آخر زيادة النص، بحيث لم يقتصر على القرآن، ومجموعة من تطبيقات النبي عليه الصلاة والسلام، بل أصبحت أقوال الفقهاء والأئمة نصا، واستنتاجاتهم وحيا يوحى، فمخالفتها كفر وتفسيق، وهذا خلل كبير، مثال هذا الحج، والذي أحكامه في القرآن في سورتي البقرة والحج لا تتعدى ثلاث صفحات، سنجد اليوم بعضهم يألف في أحكامه خمس مجلدات وأكثر، بل ولا يحوي مقاصد النص وعقلية التعامل معه، ومثال هذا في الحج عشرات الضحايا التي كانت ضحية رمي الجمرات في يوم النفر الأول، نتيجة النظرة الظاهرية لبعض النصوص أو أقوال الفقهاء الخارجة التي اعتبرت نصا في ذاتها، بينما الدماء أصبحت هينة مقابل عدم الانحراف عن اجتهادات الفقهاء.
ثالثا: تغييب المقاصد من النص، فالشريعة القرآنية مربوطة بالمقصد، وهذه لا تذكر إلا قليلا، ومثاله حدّ القصاص يقول تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[6]، ولو نظرنا إلى المقصد لعلمنا وفقهنا القانون، وأقنعنا الآخرين بذلك، والمثال الحي لهذا ما حدث في دولة الإمارات قريبا في العين من قتل العمانيين، نتيجة عدم تطبيق القاضي العماني لحد القصاص في قاتل العمد، فجر هذا إلى هدر أرواح أبرياء، ولا نعلم ما يدور في الخفاء من تخطيط لأقرباء القتيلين والله المستعان.
رابعا: حصر الشريعة في رجال وفقهاء الدين، وهذا خلل كبير، لأن الشريعة كما رأينا مجملة في معظمها، ومفصلة في بعضها، وتعم نواحي الحياة تعبديا واجتماعيا واقتصاديا وجنائيا وسياسيا ونحوها، والمفصل يؤخذ من أهله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[7]، والمجمل يشترك الجميع في علاجه، وكذلك في آلية إنزال بعض المفصل، وهذا يشترك فيه علماء النفس والاجتماع والاقتصاد والتربية والقانون وغيرهم، مع الاستفادة من مجريات الحضارة العالمية، لذا أرى تفكيك دائرة الافتاء بحيث تتحول إلى مجمع يعم جميع التوجهات لإنزال الشريعة تكامليا في مقاصدها، حتى تحق الشريعة أبعادها التكاملية.
خامسا: تقزيم الشريعة في الحدود، وجعل الحدود مقاصدها الكبيرة، والحدود مبنية على تطبيقات كليات الشريعة، فكيف تطبّق حد السرقة مثلا وأنت لم توفر كلية العدالة الاجتماعية والاقتصادية، كذلك كيف تطبق حدّ الزنا وأنت حرمت الناس من تسهيل اللقاء الطبيعي بين الناس، فلا بد بداية من تطبيق كليات الشريعة، وبعدها يأتي حديث الحدود، وفي طرق ضيقة جدا، كما ضيق القرآن لحد الزنا في سورة النور كما لا يخفى عليكم.
سادسا: الدعوة إلى فصل السياسة عن الشريعة، وهذه في الحقيقة دعاية خيالية على اعتبار المجملات، فالسياسة تقوم على العدل والحرية والمساواة والقسط والشهادة لله تعالى من الجميع، وهذه من أسس الشريعة الربانية، أما مايتعلق بحياة الناس وطقوسهم ومنهاهجم فالشريعة الربانية جاءت للحفاظ عليها لا جعلها مطية للصراع والتنافر.
سابعا: فتح أكبر مجال للعقل في الاستنباط والتفكير وإنزال الشرع وكلياته، والله تعالى يأمر في مئات الآيات بتحكيم العقل فمثلا عبارة أفلا تعقلون تكررت ثلاث عشرة مرة، وعبارة لعلكم تعقلون تكررت ثماني مرات، وعبارة لا يعقلون تكررت إحدى عشرة مرة، وعبارة لقوم يعقلون تكررت ثماني مرات، وعبارة إن كنتم تعقلون تكررت مرتين، وعبارتي ما عقلوه ونعقل تكررت مرة واحدة، وعبارة يعقلون وتعقلون تكررت مرتين، وهكذا دواليك.
بل إنه سبحانه أمر بالنظر العقلي في سنن الكون، وآثار من مضى ويدخل في هذا تراثهم وفكرهم وما خلّفوه من فلسفة وعادات وتقاليد، قال سبحانه: { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}[8].
ثامنا: مراعاة الزمان والمكان، وإنزال الشريعة بما يناسب ذلك، ولنضرب على هذا زكاة الفطر، وهي تدخل تحت كليات الصدقة والتعاون الاجتماعي، وقد كانوا يخرجونها في عهده عليه السلام من غالب قوت أهل البلد، وعندما رأى الفقها الأفضل خلافه حسب الزمان والمكان تغير القانون الحكمي، فنجد الإمام جابر بن زيد أجاز إخراجها نقدا في القرن الأول جاء في منهج الطالبين: وقيل كان ضمام يكره إعطاء الدراهم عن فطرة شهر رمضان، وكان الأعور – أيّ جابر بن زيد – يعجبه ما قال ضمام، ثمّ بدا له من رأيه أن قال: إنّ الدراهم خير من الطعام[9].
وممّن أجاز ذلك من التابعين سفيان الثوري، والحسن البصري، والخليفة عمر ابن عبد العزيز، وقال الحسن البصري: “لا بأس أن تُعطى الدراهم في صدقة الفطر”، وكتب الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عامله في البصرة: أن يأخذ من أهلِّ الديون من أعطياتهم من كلِّ إنسان نصف درهم[10].
ويرى الإمام الصادق وهو من أئمة القرن الثاني الهجري أنّ إخراج زكاة الفطر أنفع وأفضل للفقير، حيث يشتري به ما يريد[11]، وأخذ بهذا الرأي تلميذه أبو حنيفة النعمان[12]، وعليه أتباعه الحنفية.
وهكذا الحال في تقديم إخراجها زمانا جاء في الذهب الخالص: “وجاز تقديمها في رمضان لحاجة الفقراء، أو في نصفه الآخر أو لا أقوال”[13]، وقال أبو المؤثر: كتبت إلى محمد بن محبوب – رحمه الله – أسأله عن إخراج زكاة الفطر قبل شهر رمضان بشهر، أو في شهر رمضان، أو بعده بشهر، فكتب إلي: أمّا من أخرجها في شهر رمضان أو بعده بشهر فقد أجزى عنه، وأمّا من أخرج قبله بشهر فلا يجزي عنه”.[14]
ويقول محمود شلتوت في الفتاوى: “ويجوز إخراجها قبل آخر رمضان بمدة يتمكن فيها الفقير من الانتفاع بها في يوم العيد، وذلك تحقيق للمعنى المقصود منها وهو إغناء الفقير عن مدّ يده في يوم العيد، أغنوهم في هذا اليوم عن السؤال”[15].
وقال ابن قدامة في المغني: “مسألة: وإن قدّمها قبل ذلك بيوم أو يومين أجزأه…،ولا يجوز أكثر من ذلك، وقال ابن عمر: كانوا يعطونها قبل الفطر بيوم أو يومين، وقال بعض أصحابنا – أي الحنابلة -: يجوز تعجيلها بعد نصف الشهر كما يجوز تعجيل أذان الفجر، والدفع من مزدلفة بعد نصف الليل، وقال أبو حنيفة: ويجوز تعجيلها قبل الحول لأنّها زكاة، فأشبهت زكاة المال، وقال الشافعي: ويجوز من أول شهر رمضان؛ لأنّ سبب الصدقة الصوم والفطر عنه، فإذا وجد أحد السببين جاز تعجيلها كزكاة المال بعد ملك النصاب”[16].
وممن أجاز تعجيلها الجعفرية، يقول أبو القاسم الحليّ: “ويجوز تقديمها في شهر رمضان ولو من أوله أداء”[17].
فكليات الشريعة لا بد أن تنزل مراعية للزمان والمكان.
تاسعا: التفريق بين القانون والشريعة، فهذه داخلة في أزمة المصطحات، فتصور بعضهم أن القانون غير الشريعة، مع أن القانون الغربي استفاد كليّا من الفقه الإسلامي، والفقه الإسلامي تجربة زمانية ومكانية قابلة للإفادة والتطور والدراسة النقدية، والقوانين الغربية تجربة زمانية ومكانية، والشريعة جاءت بكليات تحفظ الدين والنفس والعرض والنسل والمال، وعليه نتعامل مع القوانين، ولا تعارض في ذلك أبدا.
عاشرا: الاهتمام بالشكليات وترك الكليات، مما أوجد ازدواجية في التفكير عند بعض أفراد مجموع الأمة، فنجد اهتماما كبيرا في الغناء والمعازف واللحية والثوب ونحوه، ولكن لا نجد اهتماما للعدل والمساواة والحرية والشهادة لله تعالى ونحوه، وهذا أوجد صورة عند المخالف بقصور الشريعة واهتمامها بجزئيات الأمور.
هذه بعض التحديات أحببت الحديث عنها في هذه العجالة وهناك تحديات أخرى لا يتسع المقام لذكرها، شاكرا لكم حسن الاستماع والانصات، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الثلاثاء: 1/ رجب 1433هـ/ 22 مايو 2012م
[1] ولهذا وصف الله تعالى ممارسات أهل الكتاب بالدين في قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} الكافرون/ 6.
[2] الحج/ 199.
[3] النساء/ 135.
[4] البقرة/ 275.
[5] الشورى/ 38.
[6] البقرة/ 179.
[7] الأنفال/ 122.
[8] النمل/ 69.
[9] منهج الطالبين وبلاغ الراغبين للشيخ خميس بن سعيد الشقصي، ج6، ص 166.
[10] موقع إسلام اليوم، فتوى للشيخ خالد بن عبد المنعم الرفاعي.
[11] فقه الإمام جعفر الصادق، ج2، ص97.
[12] موقع إسلام اليوم، فتوى للشيخ خالد بن عبد المنعم الرفاعي.
[13] الذهب الخالص لقطب الأئمة، ص 247.
[14] منهج الطالبين، ج6، ص 163.
[15] الفتاوى لمحمود شلتوت، ص 157.
[16] المغني لابن قدامة، ج 2، ص 668-669.
[17] المختصر النافع في فقه الإمامية لأبي القاسم الحلي، ص 86.