جريدة عمان، 11 سبتمبر 2023م
مراكش تلك المدينة التّأريخيّة الّتي أنجبت العديد من النّجباء والأدباء والفقهاء، وكانت يوما ما عاصمة للمغرب في عهد المرابطين، وهي إحدى المدن الشّهيرة دينيّا وتأريخيّا وسياحيّا في الذّاكرة والواقع المغاربيّ، ومن المدن المهمّة على المستوى الإنسانيّ والعربيّ عموما، تميزت بمآثرها التّأريخيّة، وبحدائقها وأسواقها وأبوابها، وهي المدينة العلميّة والدّينيّة بعد فاس بالمغرب، وفي أوقات تأريخيّة تفوقت عليها.
هذه المدينة بجمال أهلها، وهدوء قاطنيها، وعراقة ماضيها، هي حاضرة في الذّاكرة العربيّة ولا تزال، إلّا أنّ ما حدث ليلة الجمعة الماضي في الحادية عشر مساء بتوقيت المغرب، من زلزال تجاوزت درجته 6.8درجة، وقد سكن النّاس في ليلتهم، وفي يوم عيدهم الأسبوعيّ، ليذهب ضحية الزّلزال أكثر من ألفي شخصا، وأكثر من ألفي مصابا أيضا، من الأطفال والنّساء والشّيوخ والشّباب، والعديد منهم لا زال تحت الأنقاض.
هذا الخبر المؤلم علينا جميعا، هي فاجعة إنسانيّة مؤلمة، وهو يواجه تمظهرات الطّبيعة من زلازل وبراكين وأعاصير وفيضانات، ولانعدام العدل الاجتماعيّ كثيرا ما يكون ضحيّتها الطّبقات الدّنيا والفقيرة، بسبب السّكنات العشوائيّة والبدائيّة، والّتي تتأثر لأقل هزة أرضيّة، ولا زال الملايين من سكان الوطن العربيّ خصوصا، وفي الدّول الكثيفة بالسّكان في العالم كالهند، والدّول الفقيرة كبنجلاديش، يواجهون قسوة الطّبيعة، وآلاف من البشر يشردون ويفارقون الحياة في العالم، لارتفاع العدالة في المجتمعات الإنسانيّة.
ومع هذا كلّه؛ أيّ مصاب في المجتمع الإنسانيّ مصاب الجميع، لا يفرح أحد أو يتفكه لمصاب أحد ما، في أيّ بقعة من العالم، كما أنّ أيّ تطوّر واستقرار وفرح إنسانيّ في أيّ بقعة من العالم يفرح الجميع، بعيدا عن الاختلافات الدّينيّة والسّياسيّة والعرقيّة؛ لأنّ الإنسان بماهيّته لا يختلف عن الآخر، فنحن نفرح ونحزن لاشتراكنا في ذات الماهيّة، وجميعنا أبناء الأرض جميعا، متساوون في حقّ التّنعم في الحياة، والاستفادة من خيراتها، واستثمار سننها وطبيعتها، كما أننا متساوون أيضا في التّضامن والتّعاون الإنسانيّ في مواجهة تحدّيات الطّبيعة، ومواجهة مصاعبها وشدائدها ونكباتها.
لهذا ما حدث من زلزال في مراكش بالمغرب هي فاجعة إنسانيّة، وليست مغربيّة أو عربيّة فقط، فأبناؤهم أبناؤنا، ونساؤهم نساؤنا، وشيوخهم آباؤنا، وشبابهم إخواننا، وما تعيشه مراكش اليوم خصوصا، والمغرب عموما، من هذا المصاب؛ نعيشه نحن أيضا، وهذا الألم سيبقى محفورا في ذاكرتنا، لولا الأمل الّذي أودعه الله في النّفوس البشريّة، لتتغلب على عواطفها، وتصبر في مصابها، وتقوم من بعد شدّتها، لتعود الحياة إلى مجاريها وطبيعتها، وهذه طبيعة الإنسان وهو يواجه قسوة الحياة، لطالما عايش شدائد الطّبيعة وقسوتها؛ إلّا أنّه استطاع أن يتكيّف ويتعايش معها، بل ويستثمرها لصالحه، ويكشف سبل مواجهتها، ليخفّف من آثارها وأضرارها.
ومع هذا لعل قضايا الزّلازل من اصعب القضايا الطّبيعيّة والجغرافيّة، ومع محاولة العلم للتّنبؤ قبل وقوعها، إلّا أنّ حركة الصّفائح الأرضيّة لا زالت معقدة، وليس من السّهولة في مناطق جغرافيّة كالمغرب حدوث التّنبؤ بها مسبقا، ولهذا جغرافيّة المغرب ليست من الجغرافيّات الّتي تكرّر حدوث الزّلازل فيها، إلّا أنّ حدوثها في المغرب آثاره وخيمة لبساطة البناء، خصوصا في العشوائيّات والمناطق الفقيرة، كما حدث في عام 1960م،
ومع كون الشّدائد والمصائب على فجاعتها تعطي دروسا للمستقبل؛ فهذا ما نرجوه للمجتمع الإنسانيّ عموما، والعربيّ خصوصا، أن يلتفتوا إلى الاهتمام بقضايا الكوارث الطّبيعيّة، وخصوصا الزّلازل، وأن يلتفت إليه، ودراسة ما يمكن تفاديه ولو قل في القدرة التّحمليّة للبناء، وفي مواجهة العشوائيّات، وتحقيق التّضامن الإنسانيّ في ذلك، ودعم البحوث العلميّة المعنيّة بقضايا الطّبيعة وسننها وكوارثها.
وما رأيناه من تضامن عربيّ ودوليّ، على مستوى الحكومات والشّعوب، بعد السّماع بهذا الخبر المؤلم، ومنها سلطنة عمان مثلا، فكانت أوامر خاصّة من لدن جلالته في إرسال فرق إنقاذ، ومساعدات إغاثيّة وعلاجيّة عاجلة؛ هو تجسيد واضح لهذه اللّحمة الإنسانيّة والعربيّة الواحدة، فالمغرب لها مكانتها قديما وحديثا في قلب أيّ عربيّ كان، وهي البوابة إلى العالم الحضاريّ الآخر، والمخلص يُعرف في الشّدة كما يُعرف في الرّخاء.
إنّ المغرب اليوم بحاجة إلى من يقف معها ليس لعجز فيها، فهي قويّة بذاتها، ولكن المرء قوي بإخوانه، فهي بحاجة خصوصا فيما يتعلّق بفرق الإنقاذ، وخصوصا المساعدات الإنسانيّة العاجلة، لتتجاوز هذه المحنة إلى منحة، والشّدّة إلى يسر، فهي مرحلة وقت لتعود المياة إلى أفضل ممّا كانت، ويتعلّم الإنسان من هذه المصائب والشّدائد كيف يواجه مشاق الحياة ونكباتها.
صحيح أنّ الأرواح الّتي فارقتنا لا تعوّض، راجين من الله لهم الرّحمة والمغفرة، وللمصابين الشّفاء العاجل، وللمغرب ومراكش خالص العزاء والمواساة، ثمّ صحيح أنّ المجتمع الإنساني والمغربي عموما، والمراكشيّ خصوصا، سيعاني من ذاكرة مؤلمة، وهذا لا يمكن سدّه وغلق ذاكرته بكلمات ومسكنات، ولكن يبقى الإنسان قويّا في شدائده، ومترابطا عند مصابه، ومتقبلا لقدره، ليتعامل مع واقعه بعقلانيّة، وينظر إلى مستقبله بكل أمل وتفاؤل.
وإذا نظرنا إلى واقعنا العربيّ، ومع أنّ الكوارث الطّبيعيّة على شدّتها، وضخامة آثارها؛ إلّا أنّها قليلة لا تقارن بما يصنعه الإنسان من دمار فيها، بسبب الحروب والاستبداد، وارتفاع العدالة الاجتماعيّة، وعدم تحقّق المساواة في الذّات الإنسانيّة الواحدة، ولا زالت العديد من الدّول العربيّة تتوالى في نكساتها، من القتل والفقر والمجاعة والتّشريد في الأرض، فبلاد الشّام على عراقتها؛ إلّا أنّ غالبها اليوم بين فقر وتشريد وحروب، من سوريّة وفلسطين ولبنان، ثمّ اليمن السّعيد بعدما فقد سعادته فأصبح اليمن الحزين، وكانت قبله العراق، وفرحنا أنّها بدأت تتعافى شيئا فشيئا، وتبعتها السّودان، وما يحدث فيها الان من صراعات أهليّة لا يرضي أحدا، وكذا الحال في ليبيا، مع المعاناة الاقتصاديّة كما في مصر وتونس، فهذه كوارث نحن نصنعها لا تقارن بكوارث الطّبيعة.
إننا في الوطن العربيّ بحاجة إلى شيء من التّعقل والإحياء، فمن العقل أن ندرك أننا أمّة واحدة في المجتمع الإنسانيّ الكبير، وما أقوله ليس تعصّبا، إلّا أننا كواقع إنسانيّ من أعظم أمم الأرض من حيث الماضي والتّأريخ، فهنا كانت الحضارات الأولى، كحضارة وادي النّيل، وحضارة وادي الرّافدين، وما نتج عنها من سومر وكلدان ومجان ودلمون وغيرها، وفي هذه المنطقة كانت رسالة موسى وعيسى ومحمّد، وهنا جميع المقدّسات في الأديان الإبراهيميّة، وفي المنطقة أكبر تعدّديّة عرقيّة ولغويّة ودينيّة ومذهبيّة وثقافيّة، وهنا أكثر خيرات الأرض من المعادن والزّروع والأنهار والبحار، كما نملك طاقات عقليّة يستفيد منها العالم الآخر أكثر من عالمهم، ولا زالت تهاجر بسبب الاستبداد والصّراع والحروب، ولو تعقّلت هذه الأمّة العربيّة كما تعقلت غيرها من أمم الأرض، وأدركت أنّ دولها القطريّة مجرد دول إجرائيّة، وأنّ قوّتها في قوميّتها وأمتها الواحدة؛ لكانت اليوم من أعظم أمم الأرض، ولأكل أهلها من فوقهم وتحتهم ببركات وحدتها وتماسكها، ولكنها أبت إلّا كثرة الحديث والخطابات، فصرنا أوهن من بيت العنكبوت.
والتّعقل لا يقتصر عند الخطابات، بل لابدّ من إحياء، يبدأ بإحياء الإنسان ذاته، من حيث العدالة المعرفيّة والعلميّة والصّحيّة والماديّة الشّهوانيّة، ومن حيث إحياء الأرض، وتنمية الاقتصاد، وفتح أكبر درجات الإبداع والاختراع، ومواجهة الحروب والتّشريد والفقر والمرض والجهل والجوع، وتجاوز الانغلاقات والأيدلوجيّات الدّينيّة والسّياسيّة والعرقيّة والمناطقيّة والقبليّة والشّعوبيّة، إلى الماهيّة الإنسانيّة الواحدة، حينها نفكر بالإحياء بدل الفساد والدّمار، ومنها ندخل بحق في مرحلة الحضارة، فلسنا أضعف من الصّين، ولا أوهن من الهند، ولا أجبن من فارس، ولا أقلّ قدرات عقليّة من الغرب، ولكننا رضينا بالحدّ الأدنى، وطمعنا بالّذي هو أدنى عن الّذي هو خير.
لا أريد الحديث حول هذا، في وقت تعاني في مراكش والمغرب من هذا المصاب الجلل، ولكنّها فرصة أيضا لمراجعة الذّات، فجميل أن نكون أمّة واحدة في الشّدّة، إلّا أنّ الأجمل أن نكون أمّة واحدة في الرّخاء، وحسن أن نكون يدا واحدة في مواجهة آثار كوارث الطّبيعة، إلّا أنّه من الحسن أن نكون يدا واحدة في مواجهة الكوارث الّتي نصنعها نحن البشر بأيدينا، كما أنّها حالية إنسانيّة واجبة في التّعاون في إنقاذ من بقي من هذه الكوارث الطّبيعيّة، إلّا أنّه يجب إنسانيّا أيضا التّعاون المستمر في تحقيق العدالة والأمن الغذائيّ والإبداعيّ والنّفسيّ للجميع في أيّ وقت ومكان، فرحم الله ضحايا زلزال مراكش، ومنّ على من نجا بالصّحة والعافية، وأمدّ أهليهم والمغرب والوطن العربيّ والإنسانيّ بالصّبر والرّضا والتّعاون والبناء.