في يوم 21 فبراير يحتفل العالم بيوم اللّغة الأمّ أي اللّغة الّتي ولد عليها الإنسان حسب منظمّة اليونسكو، بيد أنّه يحتفل بيوم اللّغة العربيّة في 18 ديسمبر من كلّ عام.
والقرآن الكريم استخدم مصطلح اللّسان في قوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشّعراء/ 195]، وفي معجم لسان العرب أنّ اللّسان هو اللّغة، واستشهد بقول أبي عمرو: كل قوم لِسْنٌ أَي لُغَة يتكلمون بها.
وجدليّة الفرق بين اللّسان واللّغة أصبحت شائعة اليوم، ولماذا استخدم القرآن لفظة اللّسان ولم يستخدم لفظة اللّغة، فيحاول المترجم منذر أبو هواش [معاصر] في موقع واتا الحضاريّة الإجابة عن هذا الخلاف، حيث يرى أنّ اللّسان الواحد هو الكلام، فهو أمّة اللّغات ولغة الأمّة، وهو وعاء يحتوي مجموعة من اللّغات المتقاربة والمتجانسة والمتعارفة، وهو طريقة الإنسان في الكلام وترجمة الدّلالات والمعاني المخزنة لديه إلى نطق باللّسان، وإخراج للأصوات والحروف والحركات والسّكنات، وهو مجموعة العناصر المميزة المشتركة بين مجموعة متقاربة متجانسة من اللّغات في العائلة اللّغويّة الواحدة.
ويرى أنّ اللّغة جزء من أجزاء اللّسان الواحد، وهي كلّ فرد من أفراد العائلة اللّغويّة الواحدة، تتشابه في عناصرها الأساسيّة المميزة، وتختلف في بعض علاماتها الفارقة الثّانويّة.
وعليه يخلص أنّ اللّسان هو الكلّ الحقيقيّ، واللّغة جزء من هذا الكلّ، إلا أنّه يطلق على اللّغة لسان من باب المجاز، بيد أنّه يعلل أنّ استخدام اللّسان في القرآن ليس من باب المجاز وإنّما من باب الحقيقة، ويعلل ذلك بقوله لأنّ العرب كانوا يتحدثون بلسان واحد، بيد أنّه لكلّ قبيلة لغتها ولهجتها الّتي تميزها عن الآخرين، لذلك فقد نزل القرآن الكريم باللّسان العربيّ الشّامل المشترك بين القبائل العربيّة.
وهناك من يرى أنّ اللّغة سابقة عن اللّسان، واللّسان استقرار لهذه اللّغة؛ لأنّ اللّغات تتأثر ببعضها، ويكون التّداخل بين اللّغات في العديد من المفردات، وهذا يظهر من قوله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النّحل/ 103].
وإذا كان (اللّسان) نسبة إلى الجارحة، وهذا قدر متفق مال إليه العديد من الباحثين؛ إلا أنّ الخلاف كبير في اشتقاق اللّغة، فقيل من لغى يلغي إذا هذى، وقيل من اللّغو، ويرى ابن جنّي [ت 392هـ] أنّها أصوات يعبِّر بها كلّ قوم عن أغراضهم، ويرى حسن ظاظا [معاصر] في كتابه اللّسان والإنسان مدخل إلى معرفة اللّغة، يرى أنَّ أصل كلمة لغة يوناني وليس عربيا، وهو كلمة (لوغوس)، الّتي تعني باليونانيّة الكلمة أو الكلام [ينظر موقع الألوكة].
وفي سفر التّكوين من العهد القديم، الإصحاح 11، آية 9: لذلك دعي اسمها «بابل» لأنّ الرّب هناك بلبل لسان كلّ الارض. ومن هناك بددهم الرّب على وجه كلّ الأرض.
فالنّص يرى أنّ اللّسان حتى العهد البابليّ واحد، ويرى شراح التّوراة أي اللّسان العبريّ، ثمّ تبلل إلى لغات متعددة ومختلفة.
ونجد أنّ مشتق كلمة اللّغة قريبة بين اللّغة العربيّة والعديد من اللّغات اللّاتينية، ففي الإنجليزيّة language، حيث ظهور اللّام، والجيم بدل الغين، وهاء السّكت، وكذا في الفرنسيّة Langue، وفي أصل اللّاتينيّة lingua.
ومن جدليّة اللّسان واللّغة إلى جدليّة الأقدميّة والأفضليّة في اللّغة، وسببه في نظري يعود إلى ثلاثة أسباب رئيسة: سبب دينيّ، وسبب قوميّ، وسبب نتيجة أبحاث الآثار المعاصرة وقراءات التّأريخ.
أمّا السّبب الدّينيّ فاليهود كما أسلفنا يرون أنّ النّاس من آدم وحتى تبلبل بابل كانوا يتحدثون العبريّة، والنّصارى يرون أنّ الآراميّة هي أشرف اللّغات؛ لأنّها لغة المسيح وأمّه العذراء، ولغة الأسفار المقدّسة، والإغريق يرون أنّ لغتهم أشرف اللّغات لأنّها لغة الحكمة، والعرب يرون أنّ لغتهم أفضل لغة لأنّها لغة القرآن، ولغة أهل الجنّة، ويرى العقاد [ت 1964م] وغيره من الباحثين أنّ أقدم لغة هي اللّغة العربيّة، ويعلل الدّكتور عدنان إبراهيم [معاصر] أشرفيّة اللّغة العربيّة لأنّ بها أربعا وعشرين ألف جذر وهذا لا يوجد في أيّ لغة أخرى، ولأنّها أول لغة معجميّة في التّأريخ، ولأنّها حفظت بالقرآن الكريم، لهذا صنفت الثّالثة بعد الإنجليزيّة والفرنسيّة من حيث الخلود، في حين تندثر كلّ خمسة أيام لغة من ستة آلاف لغة في العالم!!
وكما أنّ السّبب دينيّ فهناك أيضا أسباب قوميّة كما عند الصّينيين والتّرك والجرمن والفرس، وغيرهم!!
والقضيّة الكبرى في الجدليّة الحاليّة ما يتعلّق بالجانب الأثريّ، وإعادة قراءة التّأريخ والنّصوص الدّينيّة، والمخطوطات القديمة، ومن المتفق عليه كحد عامّ أنّ اللّغات السّاميّة نسبة إلى سام ابن نوح – عليه الصّلاة والسّلام – والّتي تعود إلى ستة آلاف عاما هي أقدم اللّغات على الإطلاق، ومنها انبثقت مثلا الآراميّة ومن ثمّ سميت بالسّريانيّة أي نسبة إلى سوريّة، والعربيّة، والعبريّة.
ومن المعلوم من حيث الكتابة أنّ اللّغة المصريّة من أقدم اللّغات في هذا، ولهذا يرى بعض الباحثين أنّ الخطّ السّريانيّ استفاد من الخطوط المصريّة القديمة، وأن الخطوط والحروف السّريانيّة أساس للخط والحروف العربيّة والعبريّة، ومحلّ الجدل الّذي أثاره أخيرا لؤي الشّريف الباحث السّعوديّ، والّذي يرى أهميّة اللّغة السّريانيّة في تفسير القرآن، ومنها الحروف المقطعة، والّذي ساعده في هذا البحوث الأثريّة، في حين رفض الكثير من المسلمين هذه الرّؤية، ويعود بعضهم الرّفض ليس من باب التّداخل الحضاريّ بين اللّغات؛ بل لأنّ اللّغة العربيّة هي أصل اللّغة السّاميّة والّتي تطورت حتى نزول القرآن الكريم، فكان بلسان عربيّ مبين، ولهذا يرى بعضهم أنّ العبريّة والحمريّة والمهريّة وغيرها لهجات عربيّة قديمة، والحضارات الكلدانيّة والفينيقيّة مثلا حضارات عربيّة قديمة، حيث حاول العديد من المستشرقين الغرب فصلها، ليجعلوا فضل العرب فقط وحضارتهم بعد الحضارة الرّومانيّة اللّاتينيّة!!
أمّا قضيّة التّأثر والتّداخل فوارد كثيرا، فلو ضربنا مثلا بين العربيّة والإنجليزيّة، على اعتبار الأخيرة أصبحت أشبه باللّسان الأمّ للعالم، نجد تأثير الجذر العربيّ فيها كبيرا، حتى اعتبرها بعض الباحثين أقرب إلى اللّهجات العربيّة، خاصة في أصل الأسماء، فالشّمس مثلا في اللّغة العربيّة يقترب منها لفظ في الإنجليزيّة إلا أنّ أل التّعريف لا يكتب في العربيّة بيد أنّه ينطق في الإنجليزيّة the sun.
كذلك نجد تشابها في الأسماء الأولى ولو بعض الحروف نتيجة الأصل الصّوتي للّغات، فالأرض مثلا في العربية تجد الراء والضاد مثله في الإنجليزية Earth إلا أنّهم لا ينطقون حرف الضّاد، كذلك السّماء وجود السّين والمقدار الصّوتيّ يماثله في الإنجليزيّة sky، ونحو هذا الرّجل وجود الجيم والمقدار الصّوتي يماثله في الإنجليزيّة leg، وهناك عشرات بل مئات الكلمات تتشابه في اللّغتين إمّا ببعض الحروف الّتي هي أصل لصوتيّة الكلمة، أو للمقدار الصّوتيّ نفسه.
أيضا من جانب آخر تبادل المفردات اللّفظيّة بين اللّغات، تبقى بعض الحروف لتتحول إلى ساكنة، أو تنقص بحيث ينطق بعضها، فمثال الأول السّكين فوجود حرف الكاف في العربيّة ماثله Knife في الإنجليزيّة فلم ينطق، ومثال الثّانيّ خانّ أي النزل تحول إلى الإنجليزيّة inn فحذف الخاء، وأحيانا يبقى أكثر من حرف مع التّقديم والتّأخير في الحروف نحو كتاب تحول إلى book في الباء والكاف.
وكذا الحال في الإمالة، فمثلا في لفظة أضيف حرف K know ولعلّه للتفريق بينها وبين now من حيث الكتابة، لتحدث الإمالة في الأول نحو الواو بمعنى تعرف، ونحو الألف في الثانية بمعنى الآن، حتى لا يختلط في القراءة الأمران، مع الشّبه في المشتق، على أنّ الشّبه الصّوتيّ قريب أيضا في العربيّة في تعرف، ففيها إمالة نحو الكسر والواو قريب الكسر، أمّا الآن في الإمالة في اللّفظين نحو الألف.
وخروجا من هذه الجدليات وغيرها نقف ونحن نحتفي بيوم اللّغة العربيّة أمام آيتين في القرآن:
الآية الأولى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الرّوم/ 22]، فاختلاف الألسنة من آيات الله تعالى في الوجود كاختلاف الألوان، فكما أنّه لا أفضل لأبيض على أسود، أيضا لا أفضل لهذه اللّغة على تلك، ولا أفضل لهذا العرق على ذاك العرق، واختلاف اللّغات آية من آيات الله تعالى في الوجود، ولهذا يتبين لنا خطأ الرّأي الّذي يرى أنّ تعلّم اللّغات والبحث فيها من العبث وضياع الوقت، أو أنّه لا يصح إلا لتحقيق رواية: [من تعلّم لغة قوم أمن مكرهم] بل تعلّم لغة ولسان الأمم هو تعبد لله تعالى، وتفكر في آياته، وممّا أمر به سبحانه، ومدح به عباده بتفكرهم وبحثهم وسيرهم في الأرض، لذا تبقى المساحة البحثيّة مفتوحة، ولا علاقة لها بالكفر أو الفسوق، فمن خلص إلى نتائج قد تخالف المشهور حاليا تبقى معرفة بحثيّة قابلة للنّقض، وليست عقيدة يتعلّق بها كفر أو فسوق!!
الآية الثّانيّة: قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة/ 31] وهذا منطلق كبير للبحث في الألسنة واللّغات، من حيث صوتيّة الأسماء المشتركة بين اللّغات وتطورها!!
وختاما ندرك أنّ أيّ لغة تتقدّم إنّما تتقدّم باعتزازها وتطورها أولا وعدم جمودها، ثمّ بقوة من ينطق بها اقتصاديّا وسياسيّا ومعرفيّا، ولهذا أرى حاليا ضرورة مراجعة الجانب التّدريسيّ في اللّغة، والخروج من تعقيدات النّحاة، وتحبيب اللّغة كجانب تربويّ إلى النّاطقين بها قبل غيرهم، ثمّ ضرورة ترجمة العلوم إلى العربيّة، وتدريس العلوم بها، كذلك أخيرا ضرورة الاهتمام بالتّرجمة العكسيّة، من العلوم الأخرى إلى العربيّة، ومن العربيّة إلى العلوم الأخرى، وهذه مباحث يطول في تفصيلها الحديث، ونكتفي عند هذا القدر تجنّبا للإطالة!!
صحيفة شؤون عمانيّة 1439هـ/ 2018م