الغاية والاستعداد والذّهاب
بدعوة كريمة من مؤتمر العرب الأمريكيين السّابع، والّذي سيعقد في شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكيّة، وشيكاغو تقع في ولاية إلينويّ، وتتبع مقاطعة كوك، وتعتبر ثالث أكبر مدينة في أمريكا بعد نيويورك ولوس أنجلوس، وهي مدينة في قمّة الجمال والنّظافة والنّظام، وسيأتي الحديث عنها كثيرا في الحلقات المقبلة، حيث تحوي الغرائب والعجب، والتّناقضات والعبر.
والمؤتمر الّذي سيعقد في 16 إلى 19 أغسطس 2018م، وهو من تنظيم المحفل الرّوحانيّ المركزيّ للبهائيين في الولايات المتحدة، حيث قدّم لي أحد المشاركين لسنتين خلت فاعتذرت لارتباطي حينها بعمرة طلاب جامع الدّعوة السّنويّة، وبما أنّ الحج هذا العام دخل في أغسطس بالتالي لا يمكن الذّهاب إلى العمرة، ولهذا عندما جاءتني الدّعوة تشجعتُ بصورة أكبر، ومع هذا كنت مترددا لسببين: الأول أنّ المؤتمر تنظيم بهائيّ، وقد يسبب لي بعض الحساسيّة هنا، ومع هذا رغبة في الاكتشاف ومعرفة الآخر رأيتها فرصة قد لا تعوّض، والثّاني أنّ الدّعوة جاءت قبل أقل من شهر من المؤتمر، وهذا يعني قد لا أحصل على التّأشيرة، ومع هذا قلتُ الدّنيا تجارب.
وتصوّرت بداية أنّ الحصول على تأشيرة إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة معقدّا كالحصول على الشّنجن أو الشّنغن الأوربيّ، لهذا حجزت التّذكرة والسّكن وعملتُ التّأمين الصّحيّ، وأخذت كشف الحساب البنكيّ لستة أشهر، وصوّرتُ الشّهادات وشهادة العمل وشهادة الرّاتب وشهادة إثبات العمل، إلا أنني تفاجأت أنّهم لا يطلبون غير الجواز وصورتين فقط وورقة التّسجيل الالكترونيّ!!
كذلك اختلفت الرّوايات في الفترة الزّمنيّة للحصول على التّأشيرة فقال بعضهم تتأخر ولا يكفي الوقت، وقال آخرون يختلف تارة يعجلون وتارة يؤخرون حسب الشّخص، ومنهم من قال إنّ الموضوع لا يتأخر، فجربت الحظ، فسجل لي أحد الأخوة الكترونيّا، فكان الموعد الأربعاء 25 يوليو في السّاعة التّاسعة والنّصف صباحا، ومن حسن الطّالع أنّ الّذي أجرى لي المقابلة شارك في المؤتمر سابقا حسب كلامه، وكانت سهلة في دقائق، ثمّ قيل لي استلم الجواز الأحد أي بداية الأسبوع المقبل مع التّأشيرة!!
وكنتُ خائفا من جهة أنّ جوازي فيه تأشيرة إيران، فكنت مترددا هل أغير الجواز أم لا، مع أنّه لم ينتهِ، فسئلت في المقابلة لماذا ذهبت إلى إيران؟، فقلتُ سياحة، مع أنّي ألقيت محاضرتين في قم، كما أشرت في الرّحلة القميّة من: 22/2 وحتى 26/2 لعام 2017م، ومع هذا كانت الرّحلة في جوّها سياحة علميّة وتعارفيّة[1].
وكنت قد قدّمتُ يومين قبل المؤتمر وزدتُ يومين لهدف تسجيل حلقات يوتيوبيّة وزيارة بعض المعابد والأديان، ونسّقت مع أحد الأخوة المرتبطين بمركز الأديان، فرحبوا بالفكرة، ونسّقوا الجدول، وأصروا على تحمل السّكن والتّغذية والنّقل والمترجم، فجزاهم الله خيرا.
المهم كان سفري يوم الاثنين السّاعة الحادية عشرة والنّصف ليلا حسب توقيت مسقط، إلا أنّ الطّائرة تأخرت لمدة ثلث ساعة بسبب هبوطها المتأخر، وما يعقبه من تعبئة الوقود وتنظيف الطّائرة، وكنتُ مغادرا على الطّيران السّويسريّ، وهنا في القاعة كنت أتحاور مع رجل بريطانيّ يظهر في الخمسين من عمره، يعشق مسقط كثيرا، لهدوئها وسكونها!!
وبطبيعة الحال لن أتحدّث عن مطار مسقط فتحدّثت عنه في الرّحلة الكويتيّة: 8 – 11 مايو 2018م[2]، حيث أقلعنا قرب الثّانية عشر ليلا إلى دبي، ولم ننزل في دبي فقط لحمل الرّكاب والمسافرين، لذا كان الوقوف سريعا، ومن دبي إلى مطار زيورخ في سويسرا.
وجلس معي في مقعد الطّائرة المبتعث العمانيّ محمّد بن محمود بن عبد الله العبدليّ من منح، التقيت به لأول مرة، وله قرابة كبيرة بأبي مصعب المهندس سالم العبدليّ، والشّيخ خالد العبدليّ، وهو مبتعث كطالب تجارة في مدينة Salt Lake – أي مدينة الملح – الأمريكيّة، وهذي المدينة عاصمة ولاية يوتا، وفيها ينتشر المورمون[3] المذهب الّذي تأسس عام 1830م على يدي جوزيف سميث [ت 1844م]، وكنيستهم تسمى بكنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة، ولهم خمسة عشر مليون عضوا في العالم يبشرون بهذا المذهب، ولهم تعاليمهم كدفع العشور، ولا يباشرون العلاقات الزّوجيّة قبل الزّواج، وهذا في الأصل محرم في الكنائس المسيحيّة عموما، إلا أنّه حدث تراجع في العديد من الكنيستين الكاثوليكيّة والبروستانتيّة في هذا، كما أجازت بعض هذه الكنائس زواج المثليين حاليا، كذلك يحرّم هذا المذهب شرب الخمر والعمل يوم الأحد، ويمتنع العديد منهم عن شرب الشّاي والقهوة لاحتوائه على الكافيين، ولا يدخنون، وبعضهم يحرّم على النّساء لبس الملابس القصيرة والسّراويل، ويهتمون بالأسرة وكثرة الإنجاب والضّيافة والكرم [للمزيد ينظر الموسوعة العالميّة ويكبيديا].
والمورمون غير الموارنة[4] الكاثوليك نسبة إلى مارون الرّاهب السّريانيّ [ت 410م] ومركزهم بلاد الشّام ولبنان خصوصا، والأصل أننا نعمل لقاء مع المورمون إلا أنّه لم نتمكن لعدم ردّ الكنيسة أولا، ولضيق الوقت ثانيا، ثمّ لرغبتي أن يكون للمسيحيّة (النّصارى) سلسلة مستقلّة من الحوارات مع جميع المذاهب المسيحيّة في المستقبل بإذن الله تعالى، ومع هذا التقيتُ بشهود يهوه، ورفضوا التّسجيل، إلا أنّه كان معهم حوار سريع سنشير إليه في حينه من هذه الرّحلة[5]، وأمّا المعبد اليهوديّ كذلك لم يرد، ومع هذا تلقينا استجابة ولكن في تكساس، وهي بعيدة جدّا عنا، ولعل لنا ذلك في المستقبل[6].
وسميت هذه المدينة بمدينة الملح نسبة إلى البحيرة المالحة الكبرى، والطّالب المبتعث محمد العبدليّ من منح شاب ذكيّ، شاركت معه حوارا في جوانب متعددة، وتذاكرنا أخيرا في النّحو العربي، وإعراب بعض الجمل.
وحقيقة أغبط الّذين يدرسون في الخارج، وغربتهم وفراغهم، خاصّة وهم في أرض المعرفة والحضارة، فوجودي لبضعة أيام في شيكاغو تعلّمت الكثير جدّا، فكيف بمن يبقى في الغربة سنوات، وكنت قد نشرتُ مقطعا في قناتي اليوتيوبيّة بعنوان: رسالة إلى المبتعثين خارج الوطن للدّراسة وطلب العلم في رمضان الماضي 1439هـ، بطلب من الأستاذ محمد الباديّ المبتعث في استراليا.
وشاركنا الحوار الطّالب من البرتغال Andre Lourenco، حيث يدرس علم الأديان في سويسرا، وأصله لأب مغربي مسلم، وأم مسيحيّة من البرتغال، إلا أنّه لا يؤمن بالأديان، ولا بالإله، وجاء عمان زيارة لمدّة ثلاثة أسابيع، وزار العديد من مناطق عمان، إلا أنّه لم تعجبه ظفار، ولكلّ رأيه، وهنا أنقل ما رأيت، وكنت حاملا لكتاب تاريخ الأديان وفلسفتها للعميد الرّكن طه الهاشميّ [ت 1961م] طبع سنة 1963م، فلهذا كان الحديث حول الأديان القديمة لتخصص الشّاب البرتغاليّ فيها، ومن ثمّ عن المورمون، وكان البرتغاليّ يتحدّث بالإنجليزيّة، والمبتعث العمانيّ يترجم لي.
وصلنا إلى زيورخ في السّاعة السّادسة وخمسة وعشرين دقيقة، وهذه المرة الثّانية لي في هذا المطار، حيث نزلت فيه لما زرت سويسرا مع الأهل قبل عامين، وهو مطار ليس بالكبير جدّا، والأوربيون لا يهتمون بالدّيكور كثيرا، واستغرقت الطّائرة من دبي إلى زيورخ ست ساعات وخمسين دقيقة، ومدّة (التّرانزيت) ثلاث ساعات وربع السّاعة.
وقبيل الصّعود قيل لنا اصعدوا إلى الأعلى من القاعة حيث تُنهى إجراءات الدّخول إلى أمريكا مع ختم بطاقة السّفر، ووضعوا قاعة أخرى، وقد رأيت البعض يدخلون إليها، وهي مغلقة بحائط خشبي صغير، ولما أتى دوري قالوا لي لماذا تريد الذّهاب إلى أمريكا؟، فأخرجت لهم ورقة تسجيل المؤتمر، فختم على ورقتي مباشرة بدون تأخير، وهنا رأيت امرأة شاميّة محجبة مع ابنها الصّغير تخرج من هذه الغرفة المغلقة، فسألتها لماذا هذه الغرفة؟، قالت هنا يدخل البعض يسألونه بعض الأسئلة الأخرى.
نزلت إلى قاعة الانتظار، فأقلعت الطّائرة من زيورخ في السّاعة تسع وأربعين دقيقة بتوقيت زيورخ، ووصلنا مطار شيكاغو في السّاعة الثّانية عشر وخمس وعشرين دقيقة بتوقيت شيكاغو، واستمرت الرّحلة تسع ساعات وخمسا وأربعين دقيقة، واسم مطار شيكاغو أوهير الدّوليّ، ويعتبر الثّاني عالميّا بعد هارتسفيلد جاكسون في أتلانتا.
وفي الحقيقة لم أشعر بتعب الرّحلة خلافا لما يصور لي، إلا في السّاعات الأخيرة؛ لأنّي شعرت بالملل لكوني جلست مع رجل عجوز أمريكيّ مع زوجته العجوز الأمريكيّة، أمّا هو فلا يكاد يتكلّم، وأمّا هي فأغلب الرّحلة تقرأ في كتابها، وأمّا أنا فلم أستطع القراءة من التّعب، وكذلك الأفلام والبرامج في شاشة الطّائرة قليلة، ولا توافق ذوقي في جملتها، لهذا بدأت أحسب الوقت بكلّ بطئ، ومع هذا كان الكرم في الطّائرة السّويسريّة كبيرا، والعصائر والحلويات والقهوة تمر بين فترات ليست بعيدة، وهذا خفف بعض السّأم.
لما وصلتُ إلى مطار شيكاغو مكتوب ممنوع التّصوير واستخدام الهاتف، وكانت الحركة سريعة جدّا، والتّعامل في قمّة التّواضع والأخلاق، وهنا تنهي إجراءاتك بنفسك، حيث توجد آلة تصور الجواز وتصورك وتبصم، وأنا لم أعرف استخدامها، فأشرت إلى أحد العاملات هناك فقامت بالدّور عنّي بكلّ سرعة، ثمّ أخرجت الآلة ورقة صغيرة، فذهبت إلى المنضدة فسألتني لماذا أتيت؟، فأخرجت لها ورقة تسجيل المؤتمر، ورحبت مع ابتسامة، وختمت على الجواز.
وفي الطّائرة أعطيت ورقة زرقاء تكتب فيها بياناتك وأين تسكن، وهل تحمل طعاما أو نقودا أو حيوانات، وشخصيّا لم أعرف تعبئة بعض بنودها، فجلست كالمعلقة لا أدري من أسأل، ومن حسن الطّالع مرت بجنبي طالبتين فعرفت أنّهما من عمان، فطلبت منهما المساعدة، فلم يقصّرا، ومع هذا لم أسأل عن هذه الورقة وهي معي حتى اللّحظة!!!
استلمتُ حقيبتي، ووجدت الأخ من مركز الأديان خارجا، ووفر النّزل سيارة، واسم النّزل Motel 6، وهو قريب من المطار، فوصلنا بسرعة، والإجراءات سريعة، وهنا كان الاستعداد لشراء البطاقة والغداء وزيارة معبد زرادشتيان كما سنرى لاحقا.
زيارة معبد زرادشتيان وتسجيل حلقة عن الزّرادشتيّة
بعدما وصلنا إلى النّزل Motal 6 والّذي كان قريب المطار ذهبت لأداء صلاتي الظّهر والعصر، وهنا لم أهتدِ إلى القبلة، فأخذت بعموم قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة/ 155]، وبعدها ذهبنا إلى المطعم المكسيكيّ، وهنا طلب المرافق سيارة أجرة عن طريق الأوبر، وعندهم بسهولة تطلب سيارة نقل مع الشّركات المختلفة، والدّفع يكون مقدّما، وعندهم عادة البخشيش أيضا، ولكنها بصورة مهذبة، عن طريق البطاقة البنكيّة، وهم لا يكادون جملة يستخدمون النّقود، وجلّ معاملاتهم ولو بسيطة عن طريق البطاقة، ولمّا تحجز يظهر في خريطة الهاتف أين السّيارة الآن، وكم دقيقة حتى تصل، وفي أيّ الطّرق هي الآن، وتشاهدها عن طريق خريطة الهاتف، وممكن تختار غيرها أن تأخرت ولو لدقيقة دون أن تفقد نقودك، ثمّ لما تصل السّيارة لا يسألك أين تريد الذّهاب لأنّك أرسلت له الموقع عن طريق الخريطة، فيحملك إلى تلك النّقطة، وتخرج بكلّ سهولة حيث دفعت سابقا، والسّيارة مزودة بخريطة وأحيانا كامرا، وأسلاك شحن الهواتف، ومنهم من يحمل معه بعض الحلويات كهدية لزبائنه، وعندهم خياران تريد السّيارة لك أو يشاركك أحد، والثّاني أرخص سعرا، وعادة يجلس الزّبائن في الخلف، والسّائق قد يكون رجلا وقد تكون امرأة، ويقابلون زبائنهم بابتسامة وترحيب كبير عادة، وسيارات الأوبر لا يوجد فيها تميز معين خلاف سيارات الأجرة (التّكسي)، وأرخص بكثير من سيارات الأجرة.
وصلنا المطعم المكسيكيّ، وهو منتشر في أمريكا، سمي نسبة إلى المكسيك، وهي جمهوريّة دستوريّة فيدراليّة في شمال أمريكا، والمكسيكيون منتشرون في أمريكا، وبلادهم ليست غنيّة، كما تعاني من العصابات الّتي تؤثر في وضعهم الاقتصاديّ والمعيشيّ والأمنيّ، وهنا في المطعم تطلب الأرز المكسيكيّ واللّحم والدّجاج، وتختار بنفسك من الخضروات والعصائر والمشروبات، والعديد من مطاعمهم تحوي المشروبات الكحوليّة (الخمر) والمشروبات الغازيّة، واللّحوم عادة لحم الخنزير، ويوجد أحيانا لحوم البقر والضّأن، ولحم الدّجاج منتشر بقوة، والأرز له لونان في طبخه الأبيض والبنيّ، وهو قريب من الأرز المصريّ، وتهتم مطاعمهم بالنّباتيين، لكثرة النّباتيين عندهم، ولهم أكلاتهم الخاصّة، مثل بعض الأكلات قريبة من اللّحم ولكنّها نباتيّة، وفيه مطاعم مخصصة كليّا للنّباتيين، وأنا عادة أطلب الدّجاج، وشخصيّا آخذ بعموم قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة/ 5] والآية نزلت في أهل الكتاب في عصر النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم -، ويؤمنون بنفس الكتب الموجودة الآن، ولهم طريقتهم الخاصّة في التّذكية، والمسيحيّة ظاهرة في الغرب، ولهم كنائسهم وصلبانهم ونواقيسهم، والأصل عموم الخطاب ما لم يخصص بمخصص، فلحم الخنزير مخصص بنص واضح يخرج من عموم الجواز، وللشّيخ بيوض [ت 1981م] تأويل جميل لهذا الواقع في فتاويه من أراد المزيد.
بعد هذا ذهبنا إلى شركة الاتصالات، واختار لي صاحبي شركة T. Mobile لكونها الأفضل، (والنّت) عندهم سريع، وتختار الجيجا أو تريده مفتوحا، فأنا اخترت بداية اثنيتن جيجا، إلا أنّه خلّص بسرعة، فاضطررت اذهب ثانية في يوم آخر، ومن حسن الطّالع كان الموظف مصريّا من الإسكندريّة، فأخذنا الحديث عن الإسكندريّة وريا وسكينة ومصر والوضع الحالي، فاختار لي عشرة جيجا، ورفض أخذ مال البطاقة، وقال أنت ضيف عندنا، وبعد إصرار كبير وافق، ورحب بزيارته، إلا أنني اعتذرتُ له لأنّ الجدول مزدحم، ولا أريد إضاعته في زيارات جانبيّة، والحاصل ظلّ الرّصيد باقيا حتّى العودة.
ثمّ ذهبنا إلى النّزل وكان عندنا ساعة فقط، وكنتُ متعبا لأنّ الطّريق أخذ حوالي عشرين ساعة لم أنم فيها إلا غفوات سريعة، ولأنّ الموعد مع المعبد السّاعة الخامسة عصرا، ويبعد عن النّزل حوالي ساعة، ومع هذا حاولت مدافعة النّوم والتّعب قدر المستطاع.
وصلنا إلى المعبد في السّاعة الخامسة، واسمه معبد زرادشتيان، واستقبلنا الأستاذ كيخسرو مؤبد، وهو رجل كبير في السّن، ومحترم ومتواضع، ويقوم بخدمة المعبد، وليس كاهنا، وعامّة من يخدم المعبد كبار السّن، ويوجد من الشّباب، ورأيت من الكهنة شبابا، ومن الحضور أغلبهم كبار السّن، والباقي متفاوتون في أعمارهم، ومنهم صغار السّن، وهم قلّة.
والزّرادشتيّة نسبة إلى زرادشت، وهي من الدّيانات القديمة، جاء في الموسوعة العالميّة ويكبيديا أنّها تأسست منذ أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة، ويعتقدون بالإله الواحد، ويسمونه أهورامزدا أي الإله الحكيم، ومقر الزّرادشتيين إيران، خصوصا في منطقة يزد، إلا أنّه بعد الاضطهاد هاجروا إلى الهند خصوصا، وكتابهم الأفتيسا مختارات من الكتاب المقدّس للزّرادشتيّة، وهو مجموعة من الصّحف، ولغتهم الافستيّة، وهي قريبة من اللغة الهنديّة القديمة (السّنسكريتيّة) ومع هذا لهم لغاتهم حسب البلدان.
ويطلق العرب على الزّرادشتيّة مجوسا، وذكرهم الله تعالى في القرآن بهذه اللّفظ في سورة الحج[آية 17]: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وقد سبق لي أن كتبتُ مقالا بعنوان الشّيعة والمجوس قلتُ فيه: [والمجوسيّة اختلف فيها وكيف دخلت إلى العربيّة، فقيل هي في الأصل مكوس، أي كلمة فارسيّة، ثمّ شاع بأنّ المجوس هم عبدة النّار، إلا أنّ المصادر الأولى مختلفة فقيل المجوسيّ هو الكاهنُ عند الأشوريّين وقُدامَى الفُرس، أي مكوسي مثل الحبر عند اليهود، والرّاهب عند الهندوس، والكاهن عند النّصارى، والعالم عند المسلمين، وقيل هو الكاهن المخصوص بالسّحر، أي بمعنى السّاحر، وقيل هو المشتغل بالنّار في المعبد، وذلك لأنّ الزّرادشتيّة من الأديان التي تؤمن بوجود إله للخير وإله للشّر، فهي لا تنكر وجود إله، وتؤمن باليوم الآخر، وبالثّواب والعقاب، وفق فلسفتهم في ذلك، ويعتبرون أنّ للنّار والماء رمزية، فالنّار والماء رمز الحياة، كما عند بعض الفلاسفة الماء والتّراب والهواء والنّار، والحاصل في نظري لا توجد طائفة في الحقيقة في فارس تعبد النّار، والفرس غالبهم زرادشتيّ، والزّرادشتيّة لا يعبدون النّار كإله، كما أنّ الهندوس لا يعبدون البقر كإله، ومن الفرس مندائيون أو يزيديون، وهم موحدون أيضا، وانتشار فكرة أنّ المجوس هم عبدة النّار حرفيّا لا أدري من أين مصدرها، ولعلّها من الأخبار الّتي تناقلها النّاس ثمّ أخذها الفقهاء والمؤرخون على علّاتها، كباقي الأخبار] انتهى.
في البداية حضرنا طقس المقتاد وهو يتوافق مع نهاية العام معهم، ويستمر خمسة أيام متواصلة، حيث يتحلّق رهبانهم على النّار ويتلون من كتابهم المقدّس، ويدعون للأموات، ولم أفهم شيئا لأنّه بلغتهم القديمة، ويحضرون صحنا فيه بعض الخضروات، وصحنا فيه زهور وورود، والباقي يستمع بخشوع.
وعندهم في المعبد غرفة يتحلّق فيها أربعة من الرّهبان وقوفا الظّاهر يأتون بالأذكار والأدعيّة، والحضور يستقبلونهم في خشوع، منهم من يتلو، ومنهم من يبكي.
وفي المعبد ينزعون أحذيتهم، ويلبسون غطاء صغيرا في الرّأس، ألبسنا إياه لمّا دخلنا، وهذه العادة وجدتها عند الهنود المسلمين أيضا، ونفس الغطاء أو قريب منه تقريبا.
ولمّا انتهى الطّقس والّذي كان تقريبا أقل من ساعة، جلسنا مع الأستاذ كيخسرو مؤبد في مكتبة المعبد، وتحدّثنا معه في نصف ساعة عن كتبهم المقدّسة، وعن النّار والعناصر الأربعة، وحدّثنا لمّا هاجر ألكسندر المقدونيّ بلاد فارس أحرقوا كتبهم ومكتباتهم فلم يبق سوى القليل من كتبهم، وأنّ أعياد الزّرادشتيين الإيرانيين يختلف عن أعياد الزّرادشتيين البارسيين الّذين يعيشون في الهند، وتحدّثنا عن منطقة يزد في إيران، وقال لا يوجد عندهم أماكن مقدّسة، ولكن لهذه المنطقة قيمتها عندهم، ولمّا حدث الاضطهاد أخذوا النّار معهم إلى الهند، وهي لا زالت مشتعلة إلى اليوم، وأنّهم لا يبشرون بدينهم، والدّخول في دينهم ليس سهلا.
ولمّا طلبنا منه تسجيل الحلقة اعتذر لعدم تمكنه، واقترح لنا الأستاذ هوشدار، وقبل هذا أصروا على تناول العشاء معهم، وكان خفيفا من الأرز واللّحم فيما أحفظ والدّنجو وبعض الخضروات البسيطة، وتبرعت لطبخه زرادشتيّة، والظّاهر أنّها تتطوع بذلك سنويّا في هذه المناسبة، ونساؤهم يختلطن بالرّجال في المعبد، ويضعن ساترا خفيفا على رؤوسهنّ، والكبار منهنّ يلبسن ملابس واسعة عدا الصّغار فيلبسن حسب الثّقافة الغربيّة.
والأستاذ هوشدار من التّجار الأغنياء، وله شركة كبيرة أخذنا لرؤيتها من الخارج لمّا رجعنا، وهو في أمريكا منذ أكثر من أربعين سنة، ويأمل أن يرجع إلى الهند بعد خمس سنوات للتّفرغ في مساعدة النّاس والفقراء في الهند وخدمة وطنه الأم، وهو رجل متدين بشكل كبير جدّا، وعموما يظهر سيما التّدين والتّواضع وخدمة الآخر في نفوسهم، وتشعر مباشرة من خلال ترحيبهم بك لمّا تزور معبدهم.
سجلنا حلقة يوتيوبيّة مع هوشدار عن الدّيانة الزّرادشتيّة في برنامج حوارات الحلقة السّادسة والعشرين، ونشرت في 15 أغسطس 2018م، وتحدّث بداية أنّ الزّرادشتيّة هي طريقة التّعامل مع الحياة من خلال ثلاثة عناصر: التّفكير الطّاهر، والكلام الطّاهر، والعمل الطّاهر.
ثمّ تحدّث أنّ النّار هي رمز للنّور، والنّور قبلة لهم، ففي الظّهر مثلا يستقبلون الشّمس، وفي اللّيل يستقبلون الإضاءة أو النّار، ولهم مكان له قدّسيته في الهند بعد هجرتهم من إيران قبل ألف وثلاثمائة سنة تقريبا، والمكان اسمه آتاش بهرام (نار الرّوح القدس) وهو موجود في مدينة أودفادا بولاية كوجورات الهنديّة، والنّار مشتعلة في هذا المكان منذ تلك الفترة، ولم تنطفئ، ولهم مكان آخر في الهند أيضا مقدّس اسمه آتاش أدران، وفي الجملة أي مكان تشعل فيه النّار في المعبد أو في البيت يعتبر مكانا مقدّسا، وأمّا منطقة يزد في إيران فهي منطقتهم الأولى والّتي نشأت فيها ديانتهم.
ثمّ تحدّث أنّ النّاس قبل زرادشت كانوا يعبدون النّار والتّربة والزّلازل ونحوها، فجاء زرادشت ونقلهم إلى عبادة الإله الواحد، وأنّ العناصر الأربعة [الماء والهواء والنّار والتّربة] جزء من الطّبيعة لا يستغني عنها الإنسان، لذا يجب احترامها وتوقيرها والمحافظة عليها، لهذا يجعلون من هذه العناصر الأربعة رمزيّة في دعواتهم.
ثمّ قال إنّ أهم الكتب عند الزّرادشتيّة كتاب أبستاق، جاء به زرادشت، وهو كتاب شعري يصعب تحريفه، ثمّ من جاء بعده جاءوا بكتب وأهمها كتاب أفنستا، كتبه مجموعة من العلماء، وهناك كتب تصل إلى اثنين وسبعين كتبا منها مقدّسة، ومنها في الطّب والأحكام، فقدت مع مرور الزّمن، ولما تعرضوا من اضطهاد وتهجير.
وأمّا الطّقوس قال عندهم خمسة أوقات في اليوم، يذكرون الخالق في هذه الأوقات الخمسة، بيد أنّه لا توجد صلاة مخصوصة في هذه الأوقات، وعندهم خمس مراحل عمريّة يمر بها الإنسان، ويتوقف عند كلّ مرحلة بالدّعاء، ولا يوجد عندهم صيام؛ لأنّ في فلسفتهم مطالب الإنسان أن يحافظ على صحة جسده طول العام، وفي نهاية كلّ عام زرادشتيّ عندهم أيام خمسة يسمونها المقتاد، فيها يدعون للأموات؛ لأنّهم يؤمنون بنظريّة الحلول والتّجسد، إلا أنّهم لا يؤمنون بتناسخ الأرواح، ويستخدمون الورود في الأدعية، وهي رمزية للتّجسد، والجسد عبارة عن لباس لا أكثر، لهذا أمواتهم لا يحرقونهم تكريما للنّار، ولا يدفنونهم تكريما للتّربة، ولا يرمونهم في البحر تكريما للماء، ولهذا في السّابق يجعلونه في مكان مرتفع تأكله الطّير، وأمّا الآن فعادة يتبرعون بأجزاء جسمهم للمؤسسات المهتمة بهذا.
وبيّن أنّ الإنسان لمّا يعمل صالحا سوف يتّسع صراط جسر المرور في اليوم الآخر ليوصله إلى النّعيم، خلافا لو عمل السّيئات سوف يضيق حتى يسقطه في النّار، وهي ليست أبديّة.
وذكر أهم الأعياد عندهم عيد النّيروز، وهو مرتبط بالزّهور والورود، وعندهم عيد الجمبار، ويستمر خمسة أيام، وهذا العيد مرتبط بالزّراعة والتّربة والأرض، فيجتمع العديد من الأهل والعشيرة في هذه الأعياد لتناول ما أنبتته الأرض.
ثمّ أشار إلى أنّ الزّرادشتيّة لا يزيدون عن مائتي ألفا، وينتشرون في الهند وإيران، وحاليا في كندا والولايات المتحدة الأمريكيّة والصّين، وهم جملة يحترمون الأديان الأخرى؛ لأنّ زرادشت ذكر أنّه ستأتي أديان ورسل من بعده، ويشبه الأديان بالجبل، حيث غاية الجميع وإن اختلفت أديانهم الوصول إلى قمّة الجبل، والكلّ في النّهاية سيصل.
ثمّ لمّا انتهينا من تسجيل الحلقة ذهبنا إلى المنصة ليشرح لنا اللّوحة في مسرح الذّكر حول النّار، وفيها مرسوم شخص له جناحان كبيران رافعا يده إلى الأعلى، وكلّ جناح مقسّم إلى خمسة أقسام، ويحمل حلقة دائريّة صغيرة في يده، وفي وسطة حلقة دائريّة كبيرة، ويتدلى من هذه الحلقة عمودان [ميزانان] أفقيان يمينا ويسارا، وتحت العمود يتدلى ثلاث طبقات من الرّيش، فالرّأس دلالة على الحكمة والعقل والفكر، والجناحان الكبيران إشارة إلى الرّقي والسّمو، وانقسامها خمسة أقسام إشارة إلى المراحل الخمسة اليوميّة والعمريّة الّتي يمر بها الإنسان، والطّبقات الثّلاثة في الأسفل إشارة إلى التّفكير الطّاهر، والكلام الطّاهر، والعمل الطّاهر، والعمودان عبارة عن ميزانين: الخير والشّر، فإذا انسجمت الثّلاثة مع العقل والفكر توازن معه الخير والشّر، والدّائرة الواسعة هي حياته واستمرارها في التّجسد، ورفع يديه إشارة إلى التّبتل والدّعاء.
وبعد هذا أصر على توصيلنا بنفسه عن طريق سيارته، ومع كونه رجلا غنيّا وصاحب شركة؛ إلا أنّ سيارته متواضعة جدّا، ونُزُلنا [الفندق] يبعد حوالي ساعة، وهنا أخذنا كما أسلفت لرؤية شركته وبيته، وفي الحقيقة لم أستطع بسبب مدافعة النّوم فلم أشعر إلا وقد وصلنا، ونزل لتوديعنا، وقال إنّه بالخدمة متى ما أردنا، وهنا رجعنا إلى النّزل لنستعد ليوم جديد ومع زيارة المعبد البوذيّ.
زيارة معبد ميدوست وتسجيل حلقة عن البوذيّة
لمّا رجعنا إلى النّزل كما رأينا سلفا، والسّاعة الحادية عشرة ليلا أخذني النّوم بسرعة إلا أنني استيقظت الثّالثة فجرا لكي أعمل دبلجة بسيطة في هاتفي لتسجيل حلقة الزّرادشتيّة مع الزّرادشتي هوشدار، حيث أستخدم برنامج KineMaster ثمّ أرفعها إلى اليوتيوب، وأقوم بنشره في وسائل التّواصل لتعمّ الفائدة لمحبي المعرفة والثّقافة واكتشاف الآخر.
وممّا ساعدني على النّشاط وجود القهوة الأمريكيّة في النّزل لمدة أربع وعشرين ساعة، وكنتُ قبل فترة لا أستسيغ شربها، مع أنّها أخف من القهوة التّركيّة أو المغربيّة التّقليديّة، ومع هذا لمّا ابتعدت عن الاكثار من القهوة العمانيّة حيث سببت لي بعض الضّغط رأيتُ في القهوة السّعوديّة والكويتيّة خير بديل؛ لأنّها خفيفة فأصبحت لي عادة أن اشتري منها لمدّة عام، إلا أنّها لا تنشط الذّهن، وفي الوقت نفسه لا يضرّ كثرتها، ومع هذا وجدت القهوة الأمريكيّة منشطة للذّهن وليست ثقيلة كالتّركيّة، ويكفي أن تشرب منها قليلا.
المهم استطعت أن أنهي الدّبلجة والرّفع والنّشر مبكرا، وفي بداية صباح الأربعاء الرّابع عشر من أغسطس ذهبنا إلى منطقة مينوموني في شيكاغو، وهي منطقة في قمّة الجمال والنّظافة والنّظام والإبداع الإنسانيّ، البيوت في أشكال هندسيّة رائعة، وطرق المشاة نظيفة ومرتبة ومشجرة، والكلّ يسير في نظام بديع، حتى الأطفال وهم يذهبون إلى المدرسة، فلا تسمع صراخا، فسبحان من أبدع العقول لتفلسف الحياة نظاما وإبداعا.
وأصل هذه المنطقة يقطنها اليابانيون كما أخبرنا، ولمّا قامت الحرب العالميّة الثّانية 1939م تمّ تهجيرهم والزّج بالعديد منهم في المنافي والسّجون، وأمّا الآن فهي خليط من أجناس متنوعة.
ذهبنا بداية إلى مطعم SUBWAY، وهو مطعم أمريكيّ للوجبات السّريعة تأسس عام 1965م على يدي فريد ديلوكا وزميله بيتر بوك، ويحمل نفس الفكرة في العالم أجمع، ثمّ ذهبنا إلى معبد ميدوست، في الموعد المحدد، وهنا التقينا بالرّاهب جيسي زفالا، وهو قائم بالمعبد وتنظيفه وإدارته، وفي البداية لما أخبرناه برغبتنا في تسجيل حلقة يوتيوبيّة معه قال لكم عشرون دقيقة لأنّي مرتبط بتنظيف المعبد، وقبلها نزلنا إلى الأسفل ليرينا بعض الصّور من عيد الأرز والرّقص على الأموات، ثمّ ذهبنا إلى مكان الصّلاة ودخلنا بالحذاء وتوجد كراسي، وقال هذا من التّأثر بالحضارة الغربيّة؛ لأنّ الأصل عدم الدّخول بالحذاء، وكذا الجلوس على الأرض، ويوجد في مكان المعبد محراب مرتفع فيه تمثال بوذا، وبمقدمته آنية فيها بعض التّراب، فأمرنا أن نسجل الحلقة في المحراب المرتفع والقريب من التّمثال.
وكانت الحلقة رقم سبعة وعشرين، وبثت في السّادس عشر من أغسطس، وبيّن في البداية أنّ البوذيّة نشأت في الهند قبل ألفين وستمائة سنة، حيث نشأت على يد سيدهارتا بوذا، وكان صاحب سلطة وغنى، فترك ذلك واهتمّ بالأمور البشريّة، وانتشرت هذه الدّيانة في كوريا واليابان والصّين، وهي تنتشر في الولايات المتحدة الأمريكيّة، وعددهم كثير جدّا، فالصّين منتشرة فيها البوذيّة بقوّة رغم الاضطهادات.
وبيّن أنّ البوذيّة منبثقة من الهندوسيّة، وجاء بوذا لإصلاح الهندوسيّة، لذا أنكر من البداية تعدد الآلهة، وأنكر فلسفة أنّ الآلهة تتحكم في تصرفات الإنسان، فالإنسان هو من يتحكّم في نفسه، وهو مسؤول عن تصرفاته، وبوذا إنسان طبيعيّ ليس نبيا، فهو إنسان ترك السّلطة والمال، واختلى بتربية نفسه حتى وصل إلى درجة كبيرة من الكمال الإنسانيّ، وقد تخلّص من الكراهيّة والأنانيّة والحقد، وأصبح قلبه مليئا بالحبّ للآخر، وبالأخلاق الفاضة، فالبوذيّة هي تربية للنّفس الإنسانيّة، والنّفس طبيعتها الخطيئة وليس الكمال لذا نحن نحاول تقيلد بوذا في الارتقاء بهذه النّفس البشريّة، وشيئا فشيئا ترتفع إلى درجة الكمال.
كذلك بيّن أنّ بوذا لم يأت بكتاب كالتّوراة والإنجيل والقرآن، فالبوذيّة عبارة عن قوانين يتخلّق بها الإنسان، وليست عبارة عن كتاب ما، والجواهر الثّلاثة في البوذيّة: الجوهر الأول بوذا ويسمونه أيضا الأرض المقدّسة أو الأرض الطّيبة، وهذه الأرض الطّيبة لا تبدأ بعد الموت وإنّما من الحياه، فهنا البوذيّ يحاول أن يتخلّق بالصّفات الحسنة كالتّواضع والحبّ والمعاملة الحسنة، والبعد عن الصّفات السّلبيّة كالكبر والغرور، والجوهر الثّاني الدّاراما أي القوانين الّتي جاء بها بوذا لتنظيم المجتمع، وهذه القوانين كتبت بعد وفاته بثلاثمائة سنة عن طريق القصّة كتبها الرّواة، والّتي وصلت إلى أربعة وثمانين قصة، لهذا البعض يرفض العديد من هذه القصص، فمثلا مذهبهم الجديد جديد لا يقرّ إلا بثلاث قصص فقط، والجوهر الثّالث السّانغا أي المجتمع البوذيّ، ويرون الرّهبنة ليست مخصوصة في أشخاص معينين؛ فمن حق أي بوذي أن يكون راهبا من خلال التّخلق بأخلاق وتعاليم بوذا.
ثمّ تحدّث عن اليوجا، والأصل هي شعيرة دينيّة عبارة عن دعاء لمدة ساعة أو ساعتين، والآن أصبحت رياضة يمارسها البعض، وهم يركزون على الدّعاء في كلّ ساعة ووقت، خصوصا عند الطّعام والنّوم مثلا، ومع هذا يأتون إلى المعبد أحيانا ويقرأون القصص الثّلاثة ممّا صح نسبته إلى بوذا، وفي مذهبهم يقرأونها باليابانيّة، وأحيانا يصاحبها بعض الحركة كالانحناء.
أمّا الصّيام فالإنسان عندما يموت يصوم أهله تسعا وأربعين يوما، إلا أنّ هذا التّقليد حاليا شبه اختفى، ومع هذا الصّيام عندهم عن اللّحوم، ومن أراد أن يصم فليصم بنفسه، ولا يذكر ذلك لأحد.
وفكرة الآلهة غير حاضرة في البوذيّة، فبوذا هو أعظم شخصيّة في الوجود، فقد وصل إلى درجة الكمال الإنسانيّ، والدّار الآخرة أيضا غير حاضرة في فكرهم، فهم يعتقدون بفكرة التّناسخ.
ثم أوضح أنّ البوذيين يعتمدون كثيرا على السّماع أكثر من الحديث، وينقسمون إلى قسمين: التّيرافادا أو العربة الصّغيرة يعني الكهنة الّذين يعذّبون أنفسهم، ويجسّدون بوذا الّذي نام على مسامير، وعلّق من الأعلى، وامتنع عن الأكل حتى ضعف ونحل جسمه، وهؤلاء الرّهبان يحلقون رؤوسهم ولا يتزوجون ويعذّبون أنفسهم، والقسم الثّاني الماهايانا أو العربة الكبيرة فهم الّذين يطّبقون تعاليم بوذا، ويستمعون إليها، ويمتثلون بها.
والبوذيون لا يؤمنون بكتاب الجيتا عند الهندوس، ولكن يمكن الاستفادة من بعض الحكم فيه، ويمكن أن ينتقد أيضا، ويؤمنون بوحدة الوجود أي أنّ الذّات البشريّة واحدة، فهي جوهرة واحدة أي بوذا، ولهذا لمّا يموت يعود إلى الحياة من جديد، ويحرقون الأموات لأنّ هؤلاء الأشخاص لن يذكروا بعد وفاتهم إلا في المعابد باستثناء المشاهير، فروحه لم تمت في الحقيقة وإنّما تنتقل إلى شخص آخر.
وبعد هذا تحدّث عن عيد الأرز، وبيّن أنّه ليس طقسا دينيّا في حقيقته، وإنّما هو اعتراف بنعمة الأرز، وأنّه سبب لحياة العديد من البشر، يحتفلون به في ديسمبر من كلّ عام، ويصنعون من الأرز كعكا يدّخرونه إلى اليوم المحتفى فيه، فيأكلونه مع الأصدقاء والأهل، وأمّا عيد الرّقص فيرقصون مع الأموات لاعتقادهم بموت الإنسان يرجع إلى تكوينه الأول في وحدة الوجود أي بوذا.
وقبل الأخير كان الحديث حول المذهب اليابانيّ البوذيّ الجديد الّذي أسّسه يابانيّ اسمه شن رن يوشن، وهذا الرّجل كان قبل ثمانمائة سنة عاديّا، نزل من الجبال، ونقد بعض القضايا في البوذيّة التّقليديّة كرؤيتهم بعدم طهارة المرأة، ولا يمكن أن تكون راهبة، وكذا الصّياد الّذي يصيد الحيوانات فلا يعطونه حق الرّهبنة، وأيضا الصّياد الّذي يصيد السّمك لأنّهم يرونه غير نباتي، فقام بنقض مثل هذه الأمور ليفتح الرّهبنة لأكبر عدد من النّاس، ولهم حاليا حوالي خمسة وثلاثون معبدا في العالم خصوصا في اليابان، وفي أمريكا لهم ما يقارب ثلاثة وأربعين معبدا.
وأخيرا بيّن أنّ البوذيّة ليست دعوة تبشيريّة في الأصل، ويرحبون بالانضمام إليهم، وشعار البوذيّة دائرة تنقسم إلى ثمانية أقسام وهي عبارة عن القوانين الّتي يسير عليها النّاس، من صفات حسنة كالفهم والدّعاء والحياة وهكذا.
والأصل نأخذ من عنده عشرين دقيقة فأخذنا أكثر من ساعة لأنّه كان يسهب في الحديث، وبعد زيارتنا للمعبد توجهنا إلى مطعم نباتيّ، ولهم مأكولات نباتيّة تشبه اللّحم، والمطاعم النّباتيّة في أمريكا مزدحمة، ولها إقبال كبير، وقبل الغداء وبعده اتّجهنا إلى معبد إيسكان للفيدس (الهندوسيّة) كما سنرى لاحقا.
زيارة معبد إيسكان وتسجيل حلقة عن الفيدس من الهندوس
بعد تناول الغداء في المطعم النّباتيّ ذهبنا إلى النّزل Motal 6 القريب من المطار لننتقل إلى نزل يحمل نفس الاسم في منطقة Milwaukee Ave لكونه أقرب من موقع المؤتمر الّذي سنتحدث عنه لاحقا.
ثمّ ذهبنا إلى معبد إيسكان للفيدس (الهندوس) في منطقة W Lunt Ave، وكان الجوّ مطيرا، حيث وصلنا العصر، وهنا كان عندهم طقس الذّكر، حيث يقومون بالّذكر مع الموسيقى والطّبل والرّقص، ويجلس الرّجال في جهة والنّساء في جهة، إلا أنّ النّساء لا يرقصن.
ولمّا تدخل المعبد تخلع الحذاء، ورأيت البعض يسجد، وسجودهم أن ينام على الأرض على بطنة ووجهه، وجعلوا لمؤسس المعبد تمثالا، وهو من الهند، واسمه برابوباد، وعن طريقه انتشر هذا المذهب من الفيدس في أمريكا، وفي المعبد تمثال كريشنا وزوجته وفيشنو، ويفتحون السّتارة عندهم وقت الصّلاة في أول الصّباح وأول اللّيل، وتوجد لوائح فيها عبارات الذّكر على جوانب المعبد.
وفي البداية استقبلنا الرّاهب أتشاريا، وأصله أمريكيّ مسيحيّ، إلا أنّه وجد الرّوح في الفيدس، وأصبح راهبا مع حبّه للمسيح، وهو متحمس كثيرا للفيدس، ويرفض أن نسميها بالهندوسيّة؛ لأنّ الهندوسيّة نسبة إلى هندو، وأطلقها خصومهم الفرس، والفيدس نسبة إلى الفيدا، وهو من كتبهم المقدّسة.
وأتشاريا رجل في مقتبل العمر، ومتواضع جدّا لا تفارقه ابتسامته، ولمّا فرغوا من الصّلاة والذّكر أخذنا إلى غرفة في أعلى المعبد، وهنا سجلنا اللّقاء في قناتي اليوتيوبيّة عن الفيدس في برنامج حوارات الحلقة الثّامنة والعشرين، وذلك يوم الأربعاء 15 أغسطس في السّاعة الثّامنة مساء، وتمّ بثه يوم السّبت 18 أغسطس.
والهندوسيّة عموما من أقدّم الدّيانات، وفلسفتها معقدة لتعدد مذاهبها ورؤيتها، وهي ذات انتشار في الغرب؛ لكونها قليلة التّكاليف الدّينيّة، ولملئها الفراغ الرّوحي عن طريق الموسيقى والرّقص مع الذّكر، وهذا لا يتعارض مع ثقافة الغرب، ولاهتمامها بالأسرة والأخلاق والقيم الكبرى.
في البداية بيّن أنّ الفيدس أقدم ديانة وهي الخلاص الّتي تحتاجها البشريّة إلى الأبد، وهي لا تختصر في كتاب؛ لأنّها عبارة عن الحياة والحكمة والفلسفة، وهذه لا يمكن اختصارها في كتاب، إلا أنّه يوجد لديهم كتاب مقدّس وهو كتاب الجيتا.
ثمّ بيّن أنّه لا يوجد فرق بين الفيدس والبراهمان، فالبراهمان هو الإله، والنّاس أرواح بحاجة إلى الإله المقدّس أي البراهمان ويسمى أيضا الكريشنا، والنّاس يجسّدون الإله في هذه الحياة، فالإله روح، والبشر يجسّدون هذه الرّوح، فالعلاقة بين البشر والخالق هي علاقة حبّ، ففي البداية العلاقة بينهما علاقة الأبناء بالأب، ثمّ علاقة الصّداقة، بعدها يصلون إلى علاقة الحبّ، والعلاقة سوف تتكامل وتتجسّد في الدّار الآخرة.
وفي أواخر عام 1800م بدأت الفيدس تدخل إلى الغرب وأروبا خصوصا، ثمّ أمريكا، وتقبلّها النّاس، فتصوّرا أنّ في الفيدس الآلهة متعددة، ولكن في الحقيقة لا يوجد تعدد آلهة في الفيدس، وإنّما هو إله واحد، أي الكريشنا، والباقي عبارة عن ملائكة كباقي الأديان يسمّون الدّيفس، وهم الواسطة بين الإله والبشر، فالخطأ تصور البعض أنّ الواسطة آلهة، فنسبوا إليهم تعدد الآلهة.
وأمّا البقرة فهي شيء مقدّس في كتابهم، بيد أنّها ليست واسطة ولا آلهة، والبقرة والإنسان متناغمان في الطّبيعة، فالحياة تبنى على البساطة، وهذا يكون إذا تعايش مع البقر، فالثّور يخدمه في مزرعته، والبقرة تعطيه الحليب، ومنه يصنع الألبان والجبن والزّبد، فلهذا لا تقتل حتى لا نفقد هذه المشتقات، واحترام جميع الحيوانات واجب، إلا أنّه في الفيدس لا تقتل البقرة.
وهم يركزون على الحبّ الإلهيّ، وهو موجود في التّوراة والإنجيل والقرآن، إلا أنّهم يتميزون أنّهم يحاولون تجسيد هذا الحبّ الإلهيّ من خلال تسع مراحل متشددة، ففي المرحلة الأولى مثلا عليه أن يذكر اسم الله مع التّسبيح حوال خمس وعشرين ألف مرة في اليوم فيقول: هاري كريشنا هاري راما، حتى يصل إلى المرحلة الثّانية فيقول فيها ثلاثمائة ألف مرة في اليوم، حتى يصل إلى المرحلة التّاسعة.
وتوجد مزارات مقدّسة لهم في الهند، وفيها يسبّحون مع الألحان والتّراتيل، واليوجا حركات رياضيّة وهم يركزون على الرّوح كثيرا.
والصّيام عندهم حسب الاستطاعة، صام أسبوعين في الشّهر أو بعض الأيام، وحتى نصف يوم، ويتوقفون في اليوم لمدّة أربع وعشرين ساعة عن الطّعام.
وأمّا الفرق بين البوذيّة والفيدس يتمثل في نقطتين: الأولى أنّ البوذيّة فلسفة لا تؤمن بالإله، بينما الفيدس يؤمنون بالإله، والبوذيّة يعملون للتّخلص من العذاب الّذي بداخلهم أمّا الفيدس فيتقربون بذلك إلى الله.
والكارما نوع من العدل الإلهيّ أو ردّة الفعل، فإن فعلت خيرا تجد خيرا، وإن فعلت شرا تجد شرا.
والرّوح موجودة في الحيوانات والإنسان، وهذه الرّوح تعود وتتطور، من عالم الحشرات فالنّباتات فالأسماك، ثمّ روح الحيوانات حيث تتطور إلى روح الإنسان، وروح الإنسان إذا عمل صالحا روحه تتطور لتصل إلى الدّيفس وهي مرتبة بين الإله والإنسان، والعكس إذا عمل سيئا فروحه ترجع إلى عالم الحيوانات كالكلب مثلا، والرّوح شيء مقدّس وأبدي لم تولد، بينما الجسد يفنى.
وأمّا وحدة الوجود فهي محلّ خلاف عند الفيدس، بعضهم يرفض، والبعض يتقبلّها بشكلها الفلسفيّ المعقد، والبعض الآخر يتقبلّها في شكلها البسيط، فيرفضون أن يجعل الكلّ في ذات واحدة، فهذه يرفضها العقل، وخلافا للعدل، فكيف لو ارتكب أحد خطيئة فهل يتحدّ الكلّ في الاشتراك بضررها، ولكن ممكن نقبلها من باب وحدة الخالق؛ لأنّه قسّم عطاياه بين الجميع من بشر وحيوانات وغيرهم.
ويرى الرّاهب أتشاريا أنّ الأديان جميعا تريد الوصول إلى الخالق، ولكن الطّرق والوسائل تختلف، فمن الخطأ أن نقول هذا على حق وذاك على باطل، وهذا قريب وذاك بعيد، والصّواب الجميع يريد الوصول إلى الإله الخالق.
والشّيطان أسوأ ما يواجه الإنسان في الحياة، وهو متعلّق بالجسد، لهذا يحاول الإنسان تلبية متطلبات شهوات الجسد، فلمّا تخرج الرّوح يبقى الجسد بمتعلقاته، فهنا يتخلصون منه عن طريق حرقه، وفي الوقت نفسه عبرة لأن يرتبط الإنسان بالرّوح ولا يهتم أكثر بجسده.
والمرأة خلقت لخدمة زوجها وكريشنا، والزّوج عليه أن يخدم كريشنا، فإذا مات الزّوج تكون خادمة له حتى بعد وفاته، فحدث في فترة بالهند أنّ بعض النّساء طالبن أن يحرقن مع أزواجهنّ بعد وفاته، حتى تحوّلت إلى ثقافة تجبر المرأة أن تحرق مع زوجها المتوفى، إلا أنّه منع هذا القرار في الفترة الأخيرة، فانتهت هذه الثّقافة، وفي مذهبه هاري كريشنا يحرّمون ذلك.
والإله واحد وإن اختلفت المسميات، وهناك فرق بين البراهما والبراهمان، فالبراهمان هو كريشنا، أمّا البراهما وفيشنو وشيفا هم ملائكة، فالبراهما متعلّق بالوجود، وفيشنو يحفظ الوجود، وشيفا يدمّر هذا الوجود في آخر الزّمان.
والفيدس تنتشر في الهند وبنجلاديش ونيبال وسيرلانكا والآن في أوربا وأمريكا، وجاءت إلى أمريكا في القرن التّاسع عشر، وجاء من الهند برابوباد ونشر مذهبه هاري كريشنا في أمريكا، وهذا المذهب لم يتأثر بالحضارة الغربيّة، بل أثّر فيها.
وعموما الّذي لاحظته أنّ الفلسفة الهندوسيّة معقدّة لتداخل الفلسفات فيها، وتعدد النّظرة العقديّة والمذهبيّة داخلها، وهذا ما سنلحظه عندما نتحدث عن زيارة المعبد الهندوسيّ في شيكاغو نفسها في هذه الرّحلة لاحقا.
وبعد الانتهاء من التّسجيل أصر الرّاهب أن نشاركهم العشاء، حيث يوجد بالمعبد مطعم يقدّم الوجبات للنّاس بدون مقابل، وهذا ما لحظته في المعبد الزّرادشتيّ والسّيخيّ أيضا، إلا أنني أخذت شيئا بسيطا لكوني لم أعتد كثيرا على الطّبخ الهنديّ التّقليديّ خاصّة النّباتيّ.
ثمّ ودّعنا إلى خارج المعبد، وهنا ذهبنا إلى النّزل ووصلنا قرب الحادية عشرة ليلا لنستعدّ ليوم آخر من الزّيارات وافتتاح المؤتمر .
افتتاح المؤتمر (الوحدة في التّنوع)
كما رأينا سلفا أننا انتقلنا إلى النّزل Motal 6، ومع كونه يحمل نفس النّزل السّابق لذات الشّركة، إلا أنّ هذا النّزل لا تتوفر فيه القهوة المجانيّة إلا من السّاعة الثّالثة ليلا وحتى الظّهر، خلاف للنّزل السابق حيث متوفرة طول الوقت متى ما شئت، ثمّ شبكة الانترنت في هذا النّزل ضعيفة جدّا، وقد سجلت حلقة مع البوذيّة والفيدس (الهندوس) كما رأينا في الحلقتين الماضيتين، وأريد رفعهما؛ لأنّي أقوم بالتّسجيل عن طريق الهاتف، والهاتف ذاكرته محدودة، ثمّ أخاف من فقدهما، لهذا أول الصّباح ذهبنا إلى كوستا، فرفعت الحلقات بسرعة لكون الشّبكة جيدة جدّا.
ثمّ ذهبنا إلى زيارة بعض المؤسسات الأهليّة، فوجدنا لديهم اهتماما كبيرا بالإنسان والمشردين خصوصا، فزرنا أحد المجمعات لمؤسسة خيريّة فوجدت فيها قاعة للطّعام حيث يوفرون ثلاث وجبات، وقاعة كبيرة لفحص الدّم والجانب الصّحيّ، وقاعة للرّياضة، كما توجد قاعة للموسيقى والرّقص، وقاعة للنّدوات التّثقيفيّة والمسرح، وقاعة كبيرة للتّعارف واستخدام الأجهزة (اللّاب توب) والقراءة، مع إعداد الشّباب علميّا وعمليا، وهذا خلاف أماكن المشردين في بعض الدّول العربيّة للأسف، فتجد الوضع غير الإنسانيّ، مع استغلال حاجة هؤلاء لمصالح فئويّة ومذهبيّة باسم الإعانة والإغاثة.
ورأيت عندهم الاستقبال الكبير لمن يزورهم، مع التّنظيم، ويعملون بدون أجرة، فقط لأجل إعانة الآخر، فالمدرس والطّبيب والمدرب والإخصائيّ والمشرف والمنظف والإداريّ الكلّ يعمل متطوّعا بدون مقابل حسبما فهمت، مع النّظافة الكبيرة، والتّعقيم المستمر للمبنى، والطّابق الأعلى والظّاهر أنّه الثّالث أو الرّابع مؤجر، واستأجرته طائفة من اليهود لتعليم النّاشئة عندهم، ويوجد مول كبير مفتوح على هذه المؤسسة الخيريّة، فلا أدري هل هو وقف لها أم لا؟!!
ثمّ ذهبنا لممارسة رياضة المشي ثمّ الغداء، وبعدها رجعنا إلى السّكن لنستعد للذّهاب إلى افتتاح المؤتمر، والّذي تلقيتُ دعوة لحضوره، وعنوانه: الوحدة في التّنوع، وهو المؤتمر السّنويّ السّابع الّذي ينظمه العرب الأمريكيون، ومع أنّه يشرف عليه البهائيون، لكنّه مفتوحا للجميع من جميع الأديان، لهذا العديد من المسلمين أيضا يشارك فيه كحضور أو مشارك بورقة عمل.
وقد عقد هذا العام في 16 أغسطس 2018م، ويستمر حتى 19 من الشّهر نفسه، حيث عقد في فندق Double Tree Hilton في منطقة Skokie Blvd، ويفتتح السّاعة السّابعة إلى التّاسعة مساء، وسيأتي الحديث عن أوراقه وبعض فعالياته بصورة عامّة.
وممّا يعجبني في المؤتمرات ورشات العمل المصاحبة، والّتي تستهدف الشّباب بصورة كبيرة، وهذا رأيته في مؤتمرات مؤسسة مؤمنون بلا حدود، كما يعجبني عندما تكون الأوراق قليلة، والرّؤية واضحة للبرنامج، والأهداف محددة، فليست العبرة أن يشارك ستون أو سبعون أو حتى مائة بلا برنامج واضح، مع أوراق عمل متناثرة، فهذا ضياع للوقت والمال، فإن يشارك عشرون في موضوع محدد يُقتل بحثا، ويحقق أهدافه، مع ترك فترة كافية للتّداول والنّقاش، خير من أن تقدّم مائة ورقة عمل تقرأ وكأنّها جريدة الصّباح، ثمّ يخرجون بتوصيات عموميّة تنتهي بانتهاء المؤتمر!!!
ومن سوء الطّالع نقص عليّ الضّغط قبل الذّهاب إلى المؤتمر، وهذا يسبب لي الغثيان الكبير مع الصّداع الشّديد الّذي غالبا لا يذهب إلا بإبرة أو سقاية، فاضطررت للذّهاب إلى أقرب مستشفى؛ لأنّ حضور الطّبيب مكلف، كما أنّي قمت بعمليّة التّأمين الصّحي قبل السّفر.
وقد تعلّمت من أسفاري أنّي لا أسافر حتّى ولو كانت الدّولة قريبة أو فقيرة إلا بـتأمين، فأن تدفع عشرين ريالا أفضل من دفع العشرات، فالمرء لا يعرف ما يصيبه في سفره، وهذا حدث لي في أحد الدّول العربيّة حيث أصابني هذا الأمر، فاضطررت لأخذ سقاية، وكلفتني ما يقارب مائة وستين ريالا عمانيّا، في حين تكلفتها عندنا لا تصل عشرة ريالات في المراكز الخاصّة.
والعلاج في أمريكا مرتفع جدّا، والمشكلة أنّهم لا يعالجون مباشرة، فلابدّ أن تدخل في فحوصات أوليّة ليعرفوا سبب المرض، فليس عندهم صرف الدّواء هكذا دون فحص، وهذا مع أهمّيته لكن غير المؤمن سوف يكلّفه الكثير من المال، ولهذا كما أخبرني صاحبي أنّهم أحيانا يخافون من المستشفى أكثر من المرض نفسه، والتّأمينات ترهقهم كثيرا، وإذا لم تؤمّن قد تتحمل أموالا ترهقك طول عمرك إن لم ترحم بفاعل خير أو مؤسسة خيريّة!!
ولهذا نجد أهل الخير عندهم يتبرعون في الفحص الطّبي المجاني والإبر الوقائيّة والتّطعيمات الصّحيّة، ونجدها أحيانا في الطّرقات، وأذكر لمّا كنا في مطعم المؤتمر أحد العاملات سقط عنها أحد الصّحون وانكسر، وكان المشرف أصله سودانيّ، فسألته إذا أمكن مساعدتها في تحمّل قيمته، فضحك، وقال هنا ليست المشكلة في المادّة، فهذا سقط دون تعمّد منها لهذا لا تحاسب، ولكن لو أصاب شخصا جرح ولو بسيط بسببها سوف يكلفها علاجه كثيرا إن كانت لم تقم بالتّأمين، ومن الطّرافة بعد الحديث مع هذا السّوداني تبين لي أنّه كاتب صحفي، وقريبا ينشر كتابه الأول، وبسبب الظّروف السّيئة في بلده، ولأنّ الكتابة لا تؤكل عيش كما يُقال؛ جرّه الوضع أن يهاجر إلى أمريكا، ويعمل في مطعم!!، وهو رجل مثقف ومطلع جدّا.
الحاصل الأمور مرت بسلام والحمد لله، وكان الغيث يهطل في الخارج، فقلنا نعمل رياضة المشي قليلا مع هذا الجوّ الجميل؛ ولأنّ افتتاح المؤتمر انتهى، ولم نتمكن للأسف من مشاركتهم، والحمد لله على كلّ حال، ولهذا رجعنا إلى النّزل لنستعد لحضور أول جلسات المؤتمر في الصّباح الباكر.
اليوم الأول للمؤتمر [1-2]
في أول صباح يوم الجمعة 17 أغسطس 2018م انطلقنا إلى فندق Double Tree Hilton في منطقة Skokie Blvd لحضور أول أيام المؤتمر، وذكرتُ سابقا سبب عدم حضورنا للافتتاح.
وصلنا السّاعة الثّامنة، وحضرتُ الفطور معهم، وهنا التقيتُ بصديقي القديم الأستاذ الجليل بيان النّوريّ، وهو من الطّائفة البهائيّة، وكان يعمل في عمان في محل النّظارات، ثمّ الآن هو في أمريكا في ولاية تكساس يعمل في محل نظارات أيضا، وكان بيننا في عمان حوار ونقاش كبير حول البهائيّة في العديد من جوانبها، نتفق أحيانا ونختلف كثيرا، ويبقى الودّ الإنسانيّ يجمع بيننا، والرّجل خلوق ومتواضع جدّا.
ذهبت لتسجيل الحضور ثمّ ذهبت إلى القاعة ثمّ التّعارف، وهنا تعرفت على العديد ممّن حضر من أماكن مختلفة من الخليج والعراق واليمن ومصر وإيران وكندا وبريطانيا وأمريكا وغيرها، منهم من حفظت اسمه ومنهم من نسيت، ومنهم المشارك وأغلبهم المستمع!!
افتتحت السّيدة فاتن أردكاني المؤتمر ورحبت بالجميع، ثمّ كانت كلمة المؤتمر للدّكتورة سنا روحانيّ، وتحدّثت أنّه لا تناقض بين العلم والدّين، وأنّ التّنوع بين البشر طريق الوحدة، فالوحدة تقوم على القيم والمبادئ الإنسانيّة، ولكننا نختلف في التّعبير عن ثقافاتنا، والوصول إلى هذه الوحدة يحتاج إلى تضحيات ومثابرة، فلابدّ من وضع رؤية عالميّة لتحقيقها تحت ظلّ الأخوة الإنسانيّة.
وتعقيبا مني على هذه الكلمة؛ فإن كنت اتّفق على جملة الكلام إلا أنّ قضية التّناقض بين العلم والدّين صراع قديم، وبينهما توافق وتضادّ، فلا يمكن أن ندّعي لا يوجد تناقض بينهما؛ لأنّ الدّين كما هو مبادئ سماوية، دخل فيه الاستنتاج العقليّ المتطور، والرّواية البشريّة المتراكمة، فشكلت في جزئياتها جزءا من الدّين بمرور الزّمن، خاصّة في مجال الكون والعلم، فيظهر ما يضادّه ويناقضه بحثا، لهذا تكون الكلمة للعلم؛ لأنّ جوهر الأديان الدّعوة إلى السّير والبحث والنّظر، ولا تدعو إلى شيء ينقضها ويبطلها بقدر ما يثبت صحة ما دخل وتراكم على مرور الزّمن، كذلك الوحدة والتّنوع، فأنا أرى أنّ الأصل بين البشر التّنوع وليس الوحدة كما يقول سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الرّوم/ 22] إلا أنّ الوحدة تتثمل في الإقرار بالتّنوع وأهميته، ثمّ في استثمار هذا التّنوع في خدمة الجنس البشريّ، فتتمثل الوحدة أي في وحدته كجنس له كرامته وحريته، وهذا لا يكون إلا من خلال الاستفادة من التّنوع الّذي جبل عليه، لهذا الدّول الّتي تتنوع فيها الأديان واللّغات والمذاهب والأجناس والعادات والثّقافات هذا عنصر قوي لها اقتصاديّا وسياحيّا إذا أحسنت استثماره، لا أن يكون عنصر صراع وخراب لأسباب مصالحيّة وسياسيّة في الأصل!!!
بعدها كانت كلمة السّيد سمندريّ هنداويّ استشاري تنمية إداريّة وتطوير الأعمال، وهو باحث وخبير في العلوم والتّكلنوجيا والاقتصاد والتّعليم والمنظمات غير الحكوميّة من جمهورية مصر العربيّة، وطرح بداية الأسئلة الفلسفيّة كقولهم: لماذا خلقنا؟ ومن خلقنا؟ وهل يوجد إله؟ ومن أين أنت؟ وهل نحن مخيرون أم مسيرون؟ ولماذا يعاني الأبرياء من الأمراض والكوارث؟ وللإجابة عن هذا وغيرها ظهرت مدارس فلسفيّة حاولت أن تجيب، وهكذا تظهر مدرسة لتنقض السّابق أو بعضه، حتى ظهرت مدارس تنكر الحقائق الدّينيّة، وتختزل التّجربة الرّوحانيّة في الخوف، فظهر في القرن العشرين التّحول من التّفكير الرّوحانيّ إلى التّفكير الماديّ، وبهذا نرجع إلى العصر الحجريّ.
ثمّ بين السّيد سمندريّ هنداويّ أنّ الوطن فكرة، وكثيرا من قرارات الإنسان تنبع عن عواطف لا أفكار، ومع هذا الإنسان يسعى إلى التّغيير، ولو حاول البعض رفض التّغيير إلا أنّه لن يتوقف؛ لأنّه طبيعة البشر، وهنا ذكر نماذج معاصرة أغلبها مصريّة، كطه حسين [ت 1973هـ]، ومحمّد عبده [ت 1905م]، والزّهاويّ [ت 1936م]، ومي زيادة [ت 1941م]، وسلامة موسى [ت 1958م]، ولطيفة الزّيات [ت 1996م]، وأمّ كلثوم [ت 1975م]، ونجيب محفوظ [ت 2006م]، وفرج فودة [1992م]، وعلي الورديّ [1995م].
ثمّ دخل السّيد سمندريّ في موضوع التّعصب وعوامله، فللإنسان الحق في الحصول على المعرفة، إلا أنّ قمعه ومنعه يؤدي إلى ولادة التّعصب في داخله، والتّعصب ينتج عنه صراع وتمرد، كما يولد عنه أيضا جمود وتطرف، فلكلّ شيء ردة فعل!!
وبطبيعة الحال أوافق السّيد سمندريّ هنداويّ في الكثير ممّا طرحه، إلا أنّ الجسد يشمل الرّوح والمادّة، فالتّركيز على المادّة مع الإخلال بالرّوح يولّد خللا، والعكس صحيح، فكلاهما جزء تكوينيّ في الإنسان، وعليه ملأ فراغ الرّوح بأي شيء قد نراه مناقضا للأديان شيء طبيعيّ إذا أهملت الأديان رسالتها، أو أهملت الجانب التّكوينيّ في الجسد فيحدث ردّة فعل!!
ثمّ جاءت ورقة السّيدة نهى كرمستجي من مملكة البحرين، وهي مدربة معتمدة، وفنانة تشكيليّة، مهتمة بالتّعايش وخدمة وتطوير المجتمع، وعضوة في جمعيّة البحرين للتّدريب وتنمية المجتمع، وتنمية الموارد البشريّة والنّادي العلميّ للتّواصل الاجتماعيّ، وانطلقت في البداية من الحوار وأنّه قادر على علاج الخلاف، حيث يتعامل الحوار مع مجتمع له خيوط: الخيوط الطّوليّة المتمثلة في الأفكار والقيم، والخيوط العرضيّة المتمثلة في الأفراد واختلافاتهم.
وبينت أنّ الحوار في السّابق في جملته مقصور على كبار السّن والقوم، وأمّا الآن فالكل يشارك في الحوار؛ لأنّ مرحلة النّضج تقدّمت.
ثمّ طرحت كرمستجي جدليّة: هل نجد أولا حلّا للخلافات أم نحقق أولا الوحدة والاتّحاد، أم العكس، وقالت الفكر المعاصر يرى الأول أي نجد حلّا للخلافات.
وفي الحقيقة أوافق السّيدة كرمستجي في العديد من جوانب الورقة بيد أنّه بعضهم يفرق بين الخلاف والاختلاف وبعضهم يراهما مترادفين، ومنهم يرى الأول تكوينيّا والثّاني مذموما، فالخلاف طبيعيّ بين البشر، والاختلاف قائم على التّعصب وعدم الاعتراف بالآخر، وهذا هو المذموم.
عموما كانت جلسة المناقشة بعد هاتين الورقتين، ثمّ كان وقت الغداء بعدها مواصلة الورقات وورشات العمل كما سنرى لاحقا.
اليوم الأول للمؤتمر [2-2]
بعد تناول الغداء، وأخذ راحة، كانت الجلسة الثّانية من المؤتمر في اليوم الأول، وبدأت مع السّيد مريوان النّقشبنديّ عن تجربة كوردستان العراق في التّنوع والحريّات الدّينيّة: أسباب النّجاح والتّحديات، والنّقشبنديّ ناشط إعلاميّ، باحث في مجال التّعايش السّلميّ، والحريات الدّينيّة، وهو مدير العلاقات والتّعايش في وزارة الأوقاف والشّؤون الدّينيّة بإقليم كردستان.
وأقليم كردستان العراق يقع في شمال العراق، نشأ – كما في الموسوعة العالميّة ويكبيديا – في مارس 1970م عقب سنوات من القتال والمعارك، ويتمتع بحكم ديمقراطيّ برلمانيّ، وله مائة وأحد عشر مقعدا.
في البداية تحدّث النّقشبنديّ عن الأكراد وانتشارهم في سوريا والعراق وإيران وتركيا، أغلبهم مسلمون سنّة يغلب عليهم الطّرق الصّوفيّة، وتعيش معهم بعض الأطياف كاليزيديين والمسيحيين، وهم متسامحون ومتعايشون، وضرب ثلاث أمثلة من نماذج التّعايش بينهم، الأولى سمع عنها، والثّانية والثّالثة عايشها.
أمّا الأولى فتعود إلى عام 1932م، حيث كان يوجد العديد من اليهود في كردستان العراق، وهم ممّن حافظوا على التّقاليد اليهوديّة بعد السّبيّ البابليّ، وعاشوا حياة قاسية على التّجارة والرّعي والزّراعة، ففي مدينة حلبجة ضغطت الحكومة آنذاك بعدم التّعامل مع اليهود، وفي أحد أيام 1932م حاول أغنياؤهم من اليهود عمل معبدا (كنيس) كبيرا لهم، ولضغوط من الحكومة لم يعطوا مواد البناء، فذهبوا يشتكون حينها إلى قطب النّقشبنديّة إحسان النّقشبنديّ، فقام القطب بنفسه بتقطيع الأخشاب وأعطاهم إياه، ولتأثيره في المجتمع رضخ النّاس، وبني المعبد رغم اعتراضات الحكومة، وقد كان اليهود متعايشين مع السّكان حتى قيام إسرائيل [الكيان المحتل]، فخرج الكثير بأنفسهم ولم يجبرهم أحد على الخروج.
والنّموذج الثّاني يعود إلى عام 1988م لمّا كنت في المرحلة الإعداديّة في مدينة حلبجة، حيث كان يوجد قصف بين العراق وإيران، بسبب استيلاء الإيرانيين عليها، وأثناء وجود الجنود العراقيين فيها؛ قصفت الطّائرات العراقيّة المكتوب عليها “الله أكبر” وقتلت بالكيماوي حوالي خمسة آلاف شخصا بما فيهم والدي، ويوجد حتّى الآن عشرة آلاف معوق نتيجة هذه الحرب، والشّاهد أنّ هناك عشرات الجنود العراقيين كانوا تائهين لا يعرفون الذّهاب، وقام الأهالي بمرافقتهم وإعانتهم رغم القصف والألم!!
والنّموذج الثّالث في حرب داعش لليزيديين أو الإيزديين في بلدة سنجار بكردستان العراق، واليزيديون من الطّوائف الموحدة، الّتي تتخذ من الطّاووس رمزا لها، وهي أقليّة تنشر خصوصا في العراق وسوريّة، ولهم طقوسهم الخاصّة، فلمّا حدث اضطهاد لليزيديين من قبل داعش؛ كان من كردستان جنديّ مسلم طلعت قرعته للحج، وقد دفع أربعة آلاف دولارا للحج، وقبل أربعة أيام من ذهابه؛ هاجمت داعش بلدة اليزيديين، فترك الحج، وذهب لنصرة اليزيديين حتى استشهد في المعركة!!
ومع أنّه في السّابق كانت الحكومة تدفع منحة ماليّة لكلّ من يدخل في الدّين الإسلاميّ السّنيّ، إلا أنّ الطّريقة النّقشبنديّة مقرة للحريّات الدّينيّة، والتّعايش بين الطوائف جميعا.
وكانت وزارتنا تسمى بوزارة الأوقاف والشّؤون الإسلاميّة، فأقنعتهم إلى إبدالها بوزارة الأوقاف والشّؤون الدّينيّة، وصوّت لذلك بالإجماع في عام 2007م، لتضمّ أيضا المسيحيين واليزيديين مع إخوانهم المسلمين.
وفي عام 2015م أنجزنا قانون حق المكونات، فأيّ شخص ظلم بسبب دينه يرجع إليه حقّه، ومن حقّ أيّ شخص أن يغير دينه، على أنّ القانون يشترط أن لا يتعارض مع حق الطّوائف الأخرى، فاعترض البعض أنّ الشّريعة الإسلاميّة المصدر الرّئيسي للقانون، وتغيير الدّين يعتبر ردّة، فذهبت إلى بغداد والنّجف للنّظر في القانون، ومراعاة الأديان الأخرى كاليهوديّة والبهائيّة، على أنّه في عهد صدام [ت 2006م] أيّ شخص يكتشف أنّه بهائيّ يعدم!!
وطلبت أن يكون لجميع الأديان ممثل رسمي، بما فيها المسلمون واليهود والمسيحيون والزّرادشتيون واليزيديون والبهائيون وغيرهم.
قلتُ – أي كاتب هذه المذكرات -: العراق تضمّ أجناسا مختلفة، فهناك العرب وهم الأغلب، والأكراد، والأشوريون، والتّركمانيون، والشّبك، والأرمن، والشّركس، وأغلب أهل العراق مسلمون، فالأغلب منهم شيعة إماميون جعفريون، ثمّ يأتي بنسبة كبيرة السّنة، وأغلبهم أشاعرة وماتريديّة، ومنهم سلفيون، ويغلب فيهم الطّرق الصّوفيّة، وأشهر هذه الطّرق القادريّة، ومن القادريّة الكسنزانيّة، ثمّ الطّريقة الرّفاعيّة، والنّقشبنديّة، والخضريّة، والنّبهانيّة، والخالديّة، والسّنة في العراق فقها إمّا أحناف أو شافعيّة أو حنابلة، ثمّ يأتي بعد المسلمين المسيحيون، وأغلبهم كلدانيون كاثوليك، ثمّ يليهم السّريانيون الأرذوكس، ثمّ الإنجيليون، وبعد المسيحيين اليهود الصّابئة المندائيون، ثمّ اليزيديون والبهائيون، ثمّ الكاكائيون والشّبكيون، إلى غير ذلك من المذاهب المعاصرة على شكل فرديّ، فضلا عن التّوجهات السّياسيّة والفكريّة والأدبيّة كالعلمانيّة والرّبوبيّة والبعثيّة واللّبرالبية والعقلانيّة والحداثة والقرآنيين، وحركات الإخوان وحزب الدّعوة وغيرها.
ونأتي مرة أخرى إلى السّيد مريوان النّقشبنديّ حيث يقول – حسب ما فهمتُ من كلامه –: عملنا نحن الأديان الثّمانية في كردستان العراق ضمن فريق واحد، وكوّنا مديريّة بعنوان التّعايش الدّينيّ بالتّعاون مع هيئة الأمم، وطلب الملحدون المشاركة والانضمام وأن يكون لهم ممثل في وزارة الأوقاف، إلا أنّه لم يوافق لكونهم ليسوا من هذه الأديان.
ويختم حديثه بالإسلام الكرديّ، وهو إسلام متعايش منذ القدم مع غيره، وساعد على ذلك الطّرق الصّوفيّة المنفتحة كالنّقشبنديّة والخالديّة، وهم لا يتوقفون عند ظواهر النّصوص، كما أنّ قوانين وزارة الأوقاف في كردستان العراق ساعدت في تحقيق التّعايش، ومحاربة دعوات التّطرف، وكذلك ألغيت المناهج والكتب الّتي تدعو إلى التّطرف، حيث يوجد عشرون ألف طالب يدرسون في الكليات الدّينيّة، فهنا يحدث تأهيل المدرس والمرشد والإمام بعيدا عن خطاب الكراهيّة وإلغاء الآخر.
ثمّ ألقت الدّكتورة هدى محموديّ الأستاذة الجامعيّة، وعميدة كليّة الفنون في جامعة نورث وسترن في ولاية الينويّ سابقا ورقة بعنوان: السّلام العالميّ في عالم متنوع، والبحث عن حلول، وتحدّثت فيها بداية عن التّفرقة بين الشّرق والغرب في عقولنا فقط وليس في الأمر الواقع، بيد أنّ التّأثر بين الشّرق والغرب قديم جدّا، ونحن بجاجة إلى تحدّيين: الأول تحدّي الوحدة في التّنوع، بحيث أنّ التّنوع في الحقيقة وحدة، والتّحدّي الثّاني المتمكن في السّلام، فكيف ممكن أن نرسي السّلام في ظلّ هذا التّنوع؟.
ثمّ تطرقت إلى العنف ضدّ النّساء والأطفال، وقضيّة اضطهاد بعض الجماعات للجماعات الأخرى، ورفض التّعامل معها، وبينت أنّ الإرث الثّقافيّ يساهم في الوحدة دون حصر، ولا يصح إسقاط الإرث لبعض الجوانب والتّطبيقات السّلبيّة.
وعموما أتّفق مع الدّكتورة في قضيّة التّفريق بين الشّرق والغرب كناحية إنسانيّة، فلا فرق بين الشّرق والغرب في هذا، لكن الاختلاف الجغرافيّ، وأثر ذلك على الإنسان الشّرقيّ أو الغربيّ لا يمكن بحال تجاهله، بيد أنّ الاختلاف في هذا عنصر ثراء في الحقيقة إذا أدركنا الذّات الإنسانيّة الواحدة.
وسبق أن أشرت إلى قضيّة الوحدة والتّنوع، وأسلفت أنّ التّنوع هو الأصل، شريطة أن يسخر لخدمة الذّات الواحدة أي الإنسان.
بعد نهاية الجلسة أعدّ المؤتمر ورشتي عمل: أحدهما حول تنمية الذّكاء العاطفي لدى الأطفال للدّكتورة ناديا بو هناد من دولة الإمارات العربيّة المتحدة، وسيأتي الحديث عن الباحثة، والثّانية حول تصميم الحوار المجتمعيّ مع السّيدة نهى كرمستجي من مملكة البحرين، وتحدّثتُ عن الأستاذة سابقا.
وعموما قلتُ اختار الورشة الثّانية؛ لارتباط موضوعها بعملي الاجتماعيّ، وفي البداية تحدّثت عن الحوار المجتمعيّ، وطلبت منا ضرب بعض النّماذج العمليّة الّتي ممكن أن يكون حولها حوار مجتمعيّ، ثمّ وزعت قصّاصات وطلبت منّا تجميعها، ومن هذه القصّاصات يتكوّن لنا في النّهاية تصميم الحوار المجتمعيّ.
والتّصميم بداية يبدأ من تحليل إطار النّزاع، بحيث يؤطر ليكون واضحا وضيّقا في الوقت ذاته، حتى لا يتشتت موضوع النّزاع، ثمّ يأتي التّخطيط الاستراتيجيّ عقب التّأطير، فلمّا يؤطر النّزاع؛ يأتي التّخطيط ووضع الاسترتيجيات لننتقل إلى اختيار الأطراف الفاعلة حسب القضيّة، كعضو مجلس الشّورى، أو شيخ المنطقة، أو البائع الّذي له قابلية في المجتمع، أو الكاتب المؤثر في المنطقة، وهكذا، فهذا يختلف حسب النّزاع، وحسب المنطقة، والحلقة الّتي يدور حول النّزاع، ومن يتضمنهم النّزاع، فلمّا نختار الأطراف الفاعلة يأتي اختيار الموقع والجدول الزّمنيّ، بحيث لابدّ من تحديد الموقع الّذي تشمله القضيّة المتنازع حولها، والفترة الزّمنيّة الممكنة للعمل فيها، فلمّا يتحدد الموقع والزّمان يأتي تحديد البيئة الآمنة وحساسية النّزاع، بحيث نختار بيئة آمنة تضيّق النّزاع، كأن يكون مجلس البلدة أو مجلس من يرتضيه الجميع، ثمّ يكون التّرويج للمبادرة، واستغلال الطّاقات الفاعلة في ذلك للمشاركة في التّرويج، وأخيرا يأتي دور المتابعة والتّقييم.
وعموما أثناء الحديث ضربتُ لها تجربة سلطنة عمان في التّوفيق والمصالحة فيما يتعلّق خصوصا بالجوانب الأسريّة والاجتماعيّة، وأعجبت بها.
وكان اليوم الأول من الورشة عن الجانب النّظري، أمّا الجانب التّطبيقيّ فيكون في اليوم الثّاني كما سنرى.
وفي ختام اليوم الأول من المؤتمر كانت سهرة فنيّة مع فرقة الشّام والفنانة لبنى القنطار، إلا أنني لم أحضر؛ لتعب اليوم، ولنستعدّ ليوم جديد، فذهبنا إلى المطعم للعشاء ثمّ رجعنا السّكن؛ لنستعد لليوم الثّاني من المؤتمر.
اليوم الثّاني للمؤتمر [زيارة مشرق الأذكار في شيكاغو] [1-2]
بعد يوم كامل ومزدحم بالعمل من خلال اليوم الأول من المؤتمر؛ لنبدأ صباح يوم السّبت 18 أغسطس 2018م بجدول أعمال اليوم الثّاني للمؤتمر، فخرجنا من النّزل مبكرين لسببين: الأول إدراك الفطور مع الجماعة، والثّاني أخذ أكثر الوقت للتّعارف والنّقاش العلميّ والمعرفيّ.
كان أول أعمال المؤتمر زيارة المعبد البهائيّ (مشرق الأذكار) في ويلمت، ويسمي البهائيون معابدهم بمشرق الأذكار، ومعبد شيكاغو الأقدم من حيث الإنشاء كأول معبد بهائيّ في العالم، وكما جاء في الموسوعة العالميّة ويكبيديا عدد المشارق حاليا سبعة بجانب معبد شيكاغو يوجد أيضا: “مشرق الأذكار في مدينة نيودلهي بالهند، وفي مدينة سيدني باستراليا، وفي جزيرة سموا الغربيّة، وفي مدينة كمبالا في يوغندا، وفي مدينة بنما بدولة بنما، وفي مدينة لانغنهاين قرب مدينة فرانكفورت في ألمانيا، ولهم معبد جديد قيد الإتمام في أمريكا الجنوبيّة”.
أمّا معبد الأذكار في شيكاغوا فقد بدأت هندسته في مفتتح القرن العشرين في عهد عبد البهاء عباس أفنديّ [ت 1921م]، إذ قام بهندسته الكنديّ من أصول فرنسيّة Louis Bourgeois عام 1907م، وتمّت الموافقة عام 1920م، ووضع حجر الأساس عباس أفنديّ، ولعلّه وضع حجر الأساس قبل الموافقة لأنّ عبد البهاء زار أمريكا 1912م، ضمن رحلته الّتي انطلق بها من مصر، والتقى بشخصيات دينيّة في مصر كمحمّد رشيد رضا [ت 1935م]، وسلّم عباس أفنديّ المهمّة لامرأة، ممّا أثار غضب العديد من الرّجال الذّكور.
وافتتح مشرق الأذكار سنة 1951م، في عهد شوقيّ أفندي ربانيّ خليفة عباس أفنديّ وابن بنته المتوفى سنة: 1957م، فقد تأخر بناؤه بسبب الحربين العالميتين الأولى والثّانية، وما ترتب على ذلك من أوضاع ماديّة سيئة، وقد حضر الافتتاح خمسة آلاف شخص تقريبا.
والبناء فخم جدا، يتضمن جوانب تعليميّة وترفيهيّة، بجانب مكتبة للبيع، وقاعة العرض المرئيّ، ومتحف في الأسفل، وقاعة للمخطوطات والوثائق، مع قاعة مخصصة للعبادة، وممشى كبير للرّياضة والمشيّ، وفيه تسعة أبواب، وتسع حدائق، والبهائيون كما سيأتي يقدّسون الرّقم تسعة، لاعتقادهم أنّ الأديان المقدّسة تسعة، وهي: الهندوسيّة، والبوذيّة، والزّرادشتيّة، والصّابئة، واليهوديّة، والمسيحيّة، والإسلام، والبابيّة، والبهائيّة، كما أنّ كلمة بهاء مجموع حروفها بالعدد تسعة.
ووضعوا جميعا شعارات الأديان في المنارات، بجانب أنّهم أضافوا شعار الدّيانة القديمة للهنود الحمر الأمريكيين، وشعارهم قريب من الصّليب.
ومحلّ العبادة لا يسمح فيه بالصّلاة حتّى للبهائيين، وهو محلّ الدّعاء والتّأمل والتّفكر فقط، وإذا أردت أن تصلّي فاذهب إلى الحديقة، واختر لك مكانا، وفيها كراسي تشبه كراسي الكنائس ومعابد بعض البوذيين، واذكر أنني أردت أن أصلّي الظّهر والعصر، فقيل لي صلّ في أيّ مكان من الحديقة، فصلّيت فيها!!
عموما كان موعد الانطلاقة من النّزل السّاعة التّاسعة صباحا، وتأخرنا فقط أربع دقائق، واعتذروا لنا لسبب عارض، أمّا نحن للأسف فشيء طبيعي إن كان موعدنا التّاسعة ننطلق ونصف أو حتى بعد ساعة، والغريب مع أنّ العديد من هؤلاء عرب، إلا أنّهم يتقيدون بالثّانية في الجدول، فإذا كان موعد الرّجوع العاشرة مثلا؛ تجدهم قد تجّمعوا قبل الموعد، وقد رأيت في المؤتمر التّقيد الحرفيّ بالوقت، والتّأخر لا يكاد يذكر رأسا!!
وصلنا إلى مشرق الأذكار، وفي البداية استقبلنا السّيد كريس، وهذا سجّلنا معه حلقة يوتيوبيّة عن البهائيّة سيأتي الحديث حولها، ثمّ دخلنا إلى المبنى الجديد، وفيه معرض للصّور والخرائط، ثمّ نزلنا إلى قاعة في الأسفل للعرض تشبه قاعات السّينما، وفيها عُرِضَ لنا فلم باللّغة الإنجليزيّة عن تأريخ مشرق الأذكار وعمله وأهدافه، وعن الجامعة البهائيّة، ثمّ ترجم بصورة مختصرة إلى العربيّ، وأذكر من قام بالتّرجمة السّيدة فاتن أردكانيّ، ثمّ فتح المجال للأسئلة، وبعد هذا ذهبنا إلى المكتبة المعدّة للبيع، واشترينا مجموعة من الكتب، إلا أنّ العديد منها موجود في مكتبتي من السّابق.
وبعد هذا ذهبنا إلى مكان العبادة في المبنى القديم، مكتوب في قبتها من الدّاخل باللّغة العربيّة والنّقش الفارسيّ: يا أبهى البهاء، وهنا أول ما تدخل تعطى كتيبا صغيرا للدّعاء والمناجاة ثم ترجعه عند الخروج، والكتيب حسب لغتك، ولا يسمح لك بالحديث مع أحد، أو استخدام الهاتف، وبين الفترات يدعو شخص بصوت مرتل، وأغلب أدعيتهم عن تحقيق الوحدة بين الجنس البشريّ، وإرساء السّلام في العالم، وقيل لي هنا يسمح مثلا عندهم بقراءة أدعية ما جاء عن البهاء في الأقدس أو الإيقان أو عبد البهاء في خطبه ومؤلفاته أو شوقي أفنديّ، ولا يسمح بغيرها بالنّسبة لهم، والمكان عموما تشعر فيه بالسّكينة والهدوء الكبير؛ لأنّ الهدف منه المناجاة والتّفكر والتّأمل الذّاتيّ.
وفي الحديقة تجد النّاس من مختلف الأديان، فذاك يقرأ، وآخر يصلي، وثالث يمارس الرّياضة، ورابع مع عروسته في يوم زواجه، إذا يأتي المتزوجون إلى هذا المكان للتّصوير والذّكرى.
ثمّ أخذنا صورة جماعيّة، وبعدها رجعنا إلى الحافلة، فالنّزل المعدّ للمؤتمر لتناول وجبة الغداء، وبعده ورقات وأعمال اليوم الثّاني للمؤتمر كما سنرى.
اليوم الثّاني للمؤتمر : الجلسات [2-2]
تحدّثنا في الجزء الأول من اليوم الثّاني من المؤتمر عن زيارة مشرق الأذكار في ويلمت، ثمّ رجعنا إلى فندق المؤتمر للغداء، وكان يوجد وقت حتّى موعد الجلسة الأولى في الثّالثة والرّبع ظهرا، قضيناها في النّقاشات الفكريّة والعلميّة المنفردة والجانبيّة، خصوصا ما يتعلّق بالإسلام، والتّهم الموجهة إليه كالإرهاب والتّكفير والجمود والرّجعيّة، والإسلام بريء من ذلك في الحقيقة براءة الذّئب من يوسف – عليه الصّلاة والسّلام -، والنّاس لا يفرقون بين سلوك الأتباع وبين أصول دينهم، وقلّ من يكلف نفسه عناء البحث عن أصل هذا التّصرف، وبعضهم يفرح لذلك لما في قلبه من حقد وكراهية للغير، مع تصعب مقيت للذّات.
بدأت الجلسة بورقة للدّكتورة ناديا بو هناد بعنوان: دور الأسرة في حماية الأطفال من التّطرف، والدّكتورة مديرة مؤسسة ناديا بو هناد للتّطوير والتّوجيه، والمديرة السّابقة لجمعيّة الإمارات النّفسيّة، والعميدة المساعدة السّابقة، وأستاذة في كليّة علم النّفس في جامعة الإمارات العربيّة المتحدة، وقدّمت الجلسة السّيدة سارة أحمدي.
وقد تحدّثت في ورقتها على ضرورة حماية الطّفل من التّطرف، وأنّه مستهدف من قبل جماعات متطرفة، خصوصا في الشّبكات المعاصرة، فأي أسرة لا يوجد فيها قوانين يعني لا يوجد فيها نظام، ولهذا تميل الدّكتورة إلى تسمية وزارة التّربية والتّعليم بوزارة التّعليم؛ لأنّ التّربية للأسرة، ولابدّ من وجود هيئة تتعاون مع الأسرة في ذلك، والوعي الأسريّ لا يعتمد على الشّهادات، فبعض الآباء لديهم ماجستير ودكتوراه ولكن يفتقدون الوعي في التّربية الأسريّة.
وفي عام 2012م أطلق سمو الشّيخ محمّد بن زايد في الإمارات مبادرة تدعم الجانب التّعليميّ سماها التّربية الأخلاقيّة، وهي تعتمد على مبادئ منها التّسامح والاحترام والمشاركة وروح المبادرة.
وتطرقت إلى تنمية الحبّ في الأطفال غير المشروط، بحيث يربط بالإنسان وليس لدين أو مذهب أو توجه، وعليه الأسرة تقوم على الحبّ ليسقط على الطّفل.
ثمّ تطرقت إلى جوانب تهدد الأسرة كالتّنظيمات السّريّة والإرهاب وداعش والفهم السّلبيّ للثّورات، وفي المقابل أشارت إلى ضرورة فهم الإسلام وفق الحريّة والعدالة والمسؤوليّة، مع تنمية تقدير الذّات.
وبعد الورقة كانت جلسة المناقشة تبعها جلسة حواريّة عن تجارب الشّباب في التّعايش والتّعدديّة من أرض الواقع، واختاروا شابين من اليمن، أولاهما عن طريق الاتصال المرئيّ مع شاب اسمه عمر، يدرس في الولايات المتحدة الأمريكيّة، ولم يتمكن من الحضور إلى المؤتمر، والثّاني مع ندى، وهي تدرس أيضا في أمريكا، شاركت حضوريّا في المؤتمر، وأدارت الجلسة السّيدة هند التّميميّ.
وكما أسلفتُ سلفا أنّ الورشات الشّبابيّة المصاحبة للمؤتمرات أو المستقلة، وكذا الحوارات لها أهميتها الكبيرة، بحيث يعطى الشّباب مساحة واسعة من القرب والحوار.
وبعد هذه الحلقة الحواريّة كانت ورشتان في السّاعة الخامسة والرّبع عصرا تكملان ورشة اليوم الأول في المؤتمر، الأولى – كما أشرنا سابقا – بعنوان: تيسير الحوار المجتمعي للسّيدة نهى كرمستجيّ، والثّانية حول دورة التّعصب للسّيد سمندريّ هنداويّ، وشاركت سابقا في الأولى، وكانت جلسة حواريّة، وأمّا اليوم الثّاني فكانت تطبيقيّة، حيث طلب منا أن نكوّن فريقا يحوي رئيس البلديّة، وعضو المجلس البلديّ، ومحافظ المدينة، وشيخ القبيلة، وبعض رؤساء المجتمع المدنيّ، والمواطنين وهكذا، وطلب أن نختار موضوعا نناقشه، فاختاروا قضيّة استخدام مولدات الكهرباء عند ساحل البحر، وهي تحدث ضوضاء، وكذا قضيّة النّظافة عند السّاحل، ومن يتحمل ذلك، وكيف يمكن علاج هذا الأمر، حيث بعضهم يحمّل رئيس البلديّة ذلك، وبعضهم يحمّل المجلس البلديّ في عدم القيام بدوره، وتمّ النّقاش لأجل الوصول إلى حلول من خلال المناظرة والرّأي الآخر، مع احترم جوّ المناظرة، والانطلاق من الخطوات في الحوار الّتي أشرنا إليها في اليوم الأول، وأعطيت دور عضو المجلس البلديّ، وترأس مجلس الحوار السّيدة فاتن أردكانيّ.
وبعد هذه الجلسة الأصل نحضر جلسة فنّية لفرقة الشّام مع الفنانة لبنا القطار، لكن لم نحضر كاليوم الأول لسبب التّعب، وللرّغبة في ممارسة المشيّ، خاصّة والجوّ كان رذاذا ممتعا، وبعدها رجعنا إلى النّزل بعد تناول العشاء؛ لنستعدّ لليوم الختامي في المؤتمر وزيارة بعض الأماكن السّياحيّة.
اليوم الأخير للمؤتمر وسياحة سريعة مع زيارة لشهود يهوه
في السّاعة السّابعة والنّصف يوم الأحد 19 أغسطس ذهبنا إلى نزل المؤتمر لتناول وجبة الفطور مع المشاركين بداية، ثمّ لحضور اليوم الأخير، حيث كانت الجلسة في التّاسعة والنّصف صباحا، وأدار الجلسة السّيد عمرو حسني، وافتتحها بمحاضرة أخته الدّكتورة سوسن حسني الهاديّ، مديرة مؤسسة بديع، ورئيسة قسم اللّغات الشّرقيّة سابقا في جامعة كانتبري في نيوزيلاندا.
“والدّكتورة سوسن خريجة الدّفعة الأولى من الفتيات من جامعة الأزهر، بعدها حصلت على الماجستير [والدّكتوراه] في اللّغة العربيّة، ودرّست هذه اللّغة لمدة أربعة عقود في مصر والإمارات والسّودان والصّين ونيوزيلندا، وأخيرا في بريطانيا”[7]. [موقع هس بريس على الشّبكة العالميّة].
“تحدّثت عن كتابها الصّادر عن دار زحمة كتاب للثّقافة والنّشر، والّذي بعنوان: رحلتي من الإيمان إلى الإيقان، تحكي قصّة أسرة بهائيّة مصريّة تعرضت للاعتقال هي وزوجها في فبراير 1985م، مع تسعة وأربعين بهائيّا، وإحدى عشر امرأة، وضُبِطَت كتب دينيّة بهائيّة لديها اعتبر دليل إدانة، وتمّ ترحيل النّساء إلى سجن القناطر، والرّجال إلى سجن الاستئناف، ووجهت إليهم تهمة قلب نظام الحكم، وبينت أنّ الحكومة المصريّة قبل عام 1952م أعطت الحريّة للبهائيين في مصر، فكان لهم دار نشر لمطبوعاتهم، وخصّصت لهم مدافن خاصّة، وكان يرسل الملك مبعوثا خاصّا لحضور الاحتفالات البهائيّة في حيّ العباسيّة بالقاهرة، لكن تغيّر الحال بعد ثورة اثنين وخمسين، ووصول جمال عبد النّاصر [ت 1970م] إلى الحكم، فصدر قرار 1960م بحلّ المحافل البهائيّة ومراكزها ومصادرة أملاكها، وحظر ممارسة الطّقوس”. [للمزيد ينظر: كتاب رحلتي من الإيمان إلى الإيقان، وموقع مجتمع على الشّبكة العالميّة].
وبطبيعة الحال الدّكتورة أرّخت لمعاناتها ومعاناة جماعتها من البهائيين، واستمعنا لطرفها ولم نستمع إلى الطّرف الآخر، وسبب الاعتقالات والتّهميش، فيبقى في دائرة الخبر[8].
وأنا عقّبت على قضيتين: الأولى العنوان، وهو رحلتي من الإيمان إلى الإيقان، فهل الإيقان هنا اليقين، أم الإيقان كتاب الإيقان للبهاء حسين عليّ النّوريّ [ت 1892م]، وهو الكتاب الثّاني بعد الأقدس من حيث رتبة المقدّس عند البهائيين، فإن كان الأول فلا يستقيم المعنى؛ لأنّ الإيمان تصديق، وهو من ثمرة اليقين، إلا إذا يقصد بالإيمان الإسلام، وإن كان الثّانيّ فكذلك غير منضبط أيضا، إلا إذا كان الأمر درجات الإيمان بهذه الدّيانة، بداية من التّصديق وصولا إلى درجة اليقين والاطمئنان.
والتّعقيب الثّاني وهو قضيّة التّبشير، حيث أنّ غالب الدّول العربيّة والعديد من الدّول الأخرى ترى أنّ التّبشير بدين جديد أو مذهب أو فكر مخالف لما عليه المجتمع؛ تراه تهديدا للسّياج المجتمعيّ، وهو بذاته تهديد للأمن القوميّ، فضلا إذا ارتبطت الدّيانة أو المذهب بولاءات خارجيّة، أمّا الممارسة الفرديّة بدون تبشير من حيث أصل الإيمان والاقتناع بدين أو فكر أو مذهب فهذا غير مجرّم، وهو حريّة شخصيّة، إلا إذا اقترن بالدّعوة والتّبشير، فهنا – حسب علميّ – تكون المسائلة، وقد يكون التّجريم، من باب حفظ السّياج المجتمعيّ العام الّذي استقر عليه هذا المجتمع.
أمّا التّعقيب الأول فقد طرح، والتّعقيب الثّاني لم يطرح؛ لأنّ التّعقيب في المؤتمر يكون مكتوبا في ورقة صغيرة لا تحدّثا!!
عموما كانت بعدها استراحة لربع ساعة، وهنا استثمرت الوقت في توقيع كتابين للدّكتورة، الأول الكتاب المذكور، والثّاني كتاب جنّة الكلمة الإلهيّة، دراسة في الكتب المقدّسة، والثّاني بالاشتراك مع عبد العزيز الهاديّ، من طبع دار السّاقيّ، وكان توقيعها: “أدعو الله أن يجمعنا في ظلّ الكلمة الإلهيّة يوم لا ظلّ إلا ظلّه”.
ثمّ بدأت الجلسة الثّانية في السّاعة الحادية عشرة، وكانت حلقة نقاش بعنوان الوحدة في التّنوع، بإدارة السّيد عمرو حسنيّ، حيث كانت كلمة أخيرة عن الموضوع للمحاضرين: السّيد سمندريّ هنداويّ، والسّيدة نهى كرمستجيّ، والسّيد مريوان النّقشبنديّ، والدّكتورة ناديا بو هناد، والدّكتورة سوسن حسنيّ.
وختاما كانت كلمة الشّكر وتأملات المشاركين، وختام المؤتمر، ثمّ ودعنا الجميع، وهنا كنت مع أسرة عراقيّة، الأستاذة ثريا وأخوها الأستاذ سمير، جاءت إلى أمريكيا منذ فترة طويلة، ولا يعرفون العربيّة، وهم كبار في السّن، ولما تشاهد الرّجل في لباسه كأنّك ترى الهنود الحمر في الأفلام، وهو رجل لطيف جدّا، فتحدّثنا طويلا عن الهنود الحمر، فقال ما شاهدته في الأفلام ليس صحيحا في أغلبه، حيث يقومون بتشويه صورتهم، وتصويرهم بالسّذج والبربريّة الّذين لا يبالون بقانون، مع سفكهم للدّم، وأصر أكثر من مرة أن أذهب معه إلى ولاية أريزونا، وهي تبعد عن شيكاغو بالسّيارة حوالي اثنتي عشرة ساعة، ووعدته يوما ما سأزوركم، وسوف أوثق بنفسي ما أرى بإذن الله تعالى، فعسى أن يكون ذلك قريبا[9].
بعد المؤتمر ذهبنا إلى الغداء والنّزل للّراحة قليلا، ثمّ ذهبنا إلى منطقة Downtown Chicago وهنا رأيتُ عظمة المدينة، ورأيت ناطحات السّحاب، والجسور والمحلات، وعظمة البناء لم أر مثله في حياتي إلا في الأفلام، خاصّة شارع Magnificent Mile والنّاس كلّ في فلك يسبحون، والمدينة منظمة جدّا ونظيفة ولا تسمع ضوضاء أو صخبا، وممرنا على ماكدونالدز، فقيل لنا هذه أكبر فرع لها في العالم، وشركة ماكدونالدز تأسست في عام 1940م، ثمّ ذهبنا إلى حديقة Millennium Park أو الحديقة الألفيّة، جاء في الموسوعة العالميّة ويكبيديا أنّها افتتحت عام 2004م، وكلّفت ما يقارب خمسمائة مليون دولارا، وهي من أهم الأماكن التّرفيهيّة في شيكاغو.
والدّخول إلى الحديقة بالمجان، تمر بداية بمرحلة تفتيش، يتكرر أكثر من مرة في أجزاء الحديقة، مررنا بداية بمسرح Jay Pritzker Pavilion والّذي صمّمه المعماريّ فرانك غيري، وكانت فيه أمسيّة موسيقيّة، والجلوس فيه مجانا.
بعدها ذهبنا إلى بوابة السّحاب، وهو بناء مبنيّ من الفولاذ المصقول والعاكس كالمرآة، والمكان مزدحم بالكثير، ويعكس جميع الصّور في الأعلى، وهنا الكلّ يلتقط صورة تذكاريّة، ونحن كذلك قمنا بالأمر نفسه.
كذلك يوجد في الحديقة نافورة كبيرة، كما يوجد العديد من المبادرات الشّبابيّة في الخدمات المجتمعيّة الأهليّة.
ثمّ ذهبنا إلى بحيرة Lake Michigan، حيث حولها ممشى كبير، وحديقة كبيرة أيضا خصصت للمشيّ، ومطاعم ومقاهي جلسنا في أحدها، وفي نهاية الممشى تشاهد ناطحة سحاب باسم الرّئيس الأمريكيّ الحاليّ Trump، يقال هو شريك كبير فيها، ولها فروع في أمريكا، وظهر في أحد الأفلام الأمريكيّة بعنوان: وحدي في المنزل، عندما أرادوا التّصوير في فندقه، فتطوّع بالظّهور مع طفلة، وانتشر المقطع بعد رئاسته كثيرا.
بعدها ذهبنا إلى السّوق، وهنا مررنا بمتشردين، بعضهم لا يملك نزلا، فيطلب مالا لليلة واحدة، فيكتب لوحة تشير إلى ذلك، وبعضهم يطلب المال، ولكن بطريقة مرتبة، فلا يأتيك للطّلب، وإنّما يجلس في مكان، ويضع بعض الصّور، مع صندوق أو كبّعة أو إناء بسيط، إن شئت أعطيته أو لا.
كذلك وجدنا طفلا يضرب على آلة موسيقيّة كما نراه صغارا في الأفلام الكرتونيّة، كما في المسلسل الكرتونيّ الشّهير دروب ريميّ، عندما انضمت إلى فرقة فيتالس الغنائيّة، بعد هروبها من زوج أمّها الّذي أراد أن يبيعها، وكما شاهدناه في بعض الأعمال السّينمائيّة، وهنا يقدّم هذا الطّفل مقطوعات، مع وضع صندوق الآلة الموسيقيّة مفتوحا لمن أراد أن يتصدّق له.
وعلى قرب من هذا الطّفل وجدنا جماعة شهود يهوه، تأسست على يدي تاز راسل [ت 1916م] في ولاية بنسلفانيا الأمريكيّة في سبعينات القرن التّاسع عشر الميلاديّ، ويسمّون أنفسهم بتلاميذ الكتاب المقدّس، وسمو بشهود بمعنى خدام أي القائمين بخدمة الرّب، ويهوه أي الله، وأصبح هذا الاسم لقبا رسميّا لهم عام 1931م، ويرون أنّ المترجمين حرّفوا يهوه إلى ربّ، وهم يرفضون عقيدة التّثليث، ويرون الخالق فقط يهوه، والمسيح ليس إلها، ولا ابنا للرّب، وهو أعظم شخصيّة في التّأريخ، والرّوح القدس عبارة عن طاقة كالطّاقة الشّمسيّة، ويرفضون الاحتفالات بعيد الميلاد، ولا يخدمون في الجيش، ولا يشاركون في الحروب، ولا يحملون السّلاح، ولا يتدخلون في السّياسة، ويحرّمون التّدخين، ويهتمون بالأسرة، ويعتبرون تحيّة العلم نوعا من عبادة الأصنام، مع أنّهم يشددون في احترام قوانين أيّ دولة يعيشون فيها، ويحرّمون التّبرع بالدّم؛ لأنّ كلّ إنسان يمتلك حياته في دمه، ولا يجوز أن تنتقل تلك الحياة لإنسان آخر إلا من خلال دم المسيح، بيد أنّهم يقبلون البدائل الطّبيّة للدّم، ويرون أنّ المسيح لم يمت على صليب؛ بل على خشبة لذا يرفضون وضع الصّليب في البيوت والأجساد، ويرفضون استخدام التّصاوير والتّماثيل أثناء العبادة. [للمزيد ينظر موقع ويكبيديا على الشّبكة العالميّة وكتاب حوار على الباب مع شهود يهوه لجون يونان].
وهم يهتمون بالتّبليغ، وتعتبر من أكثر الجماعات تبليغا حيث وصل عددهم إلى أثر من ثمانية ملايين في العالم، ويذهبون إلى البيوت، ولهم نشرات [كتب وكتيبات ومطويات ومجلات وأفلام ومقاطع بجميع اللّغات]، ومن مجلاتهم الشّهيرة برج المراقبة، ويدّقون أبواب البيوت، وهم لا يناقشون، فقط أستمع إليهم، ويهتمون كثيرا بالأناقة والمظهر الخارجيّ للرّجال والنّساء، ويرون أنّهم يخدمون يهوه، ويتمثلون شخص المسيح، لذا يرون أنفسهم مسيحيين، ويفترقون عن باقي المسيحيين في المعتقد أنّهم لا يؤمنون كما أسلفنا بألوهيّة المسيح، ولا يعتبرونه ابنا لله، وليس أقنوما في الثّالوث، بيد أنّه نزل من السّماء كإنسان كامل فدية عن البشر، وهو يحكم الآن كملك لحكومة الله السّماويّة الّتي ستحقق قريبا السّلام في جميع أرجاء الأرض، ولا يقدّمون العبادة له بل ليهوه وحده، ولا يؤمنون بخلود الرّوح أو النّفس، أو أنّ إلها يعذّب النّاس في جهنّم إلى الأبد، ولا يحصرون الخلاص لشهود يهوه، بل لكلّ خدام الرّب، والمسيح هو الّذي يقرر من يخلّص وحده، وليس عندهم قساوسة أو بابوات، ولا يعطون من يعمل في النّشاط الدّيني ألقابا ترفعهم فوق الآخرين، ولهم ترجمتهم الخاصّة للكتاب المقدّس، ولا يرون خلق الكون في ستة أيام كما جاء في سفر التّكوين من العهد القديم حرفيا، بل إشارة للمراحل الزّمنيّة وليس بالمعنى المعهود لليوم أي أربعا وعشرين ساعة، فلا تناقض بين العلم والكتاب المقدّس، ولا يسمون مكان اجتماعهم وعبادتهم كنيسة، وإنّما يسمونها قاعة ملكوت.
كذلك يرون الزّواج رباطا دائما، والمواعدة على الزّواج محصور في سنّ مناسبة للزّواج، عندما تكون الشّهوة قويّة جدّا، وفيه إرادة جادّة للزّواج، ويحرّمون العلاقات الجنسيّة قبل الزّواج، لهذا تكون المواعدة وسيلة للزّواج وليس لأجل الممارسة الجنسيّة، ويحرّمون أن يجتمع المتواعدان أي الشّاب والشّابة لوحدهما، فلابدّ مع جماعة، أو وجود شخص ثالث، ويستثنون المراسلات الهاتفيّة شريطة أن تكون وسيلة للزّواج، والمطلق لا يتزوج ثانية؛ لأنّ الرّباط بين الرّجل والمرأة مقدّس لا ينفك إلا حال العهر، أو مع حالات استثنائيّة ضيقة كالإساءة الجسديّة البالغة، أو تعرض أحد الزّوجين لضغوطات التّخلي عن وصايا يهوه، والزّواج يكون بين المؤمنين المعمدين أي في مذهبهم.
ويوجبون على الأولاد طاعة والديهم، ويرون احترام جميع النّاس بصرف النّظر عن معتقداتهم الدّينيّة، وينهون عن التّكلف والتّزين في المآتم، لذا يحاربون قضيّة السّهر على جثة الميت، أو التّكلف في المأتم، أو ذبح الحيوانات لإرضائه، وهم يقومون بذكر خيرات الميت، وما يناسب ذلك دون أخذ أجر ماديّ، ويفتحون قاعة الملكوت أو أي مكان ليكون مأتما.
والصّلاة عندهم دعاء، ولا تكون تحت وضعيّة معينة، فيمكن أن تصليّ وأنت واقف أو جالس أو ساجد أو نائم، وتكون ليهوه وحده، وتكون نابعة من القلب قصرت أم طالت، وفي أيّ وقت وظرف، ويختمون صلاتهم بآمين، ويرون الصّيام اختياريّا، ويعترفون بصيام الأربعين عند المسيح، وصيام الكفارة، إلا أنّهم يرونه اختياريّا، ولا يعرّف الآخرين بصيامه، ومرتبط بالتّوبة.
وهم لا يؤيدون الصّهيونيّة، ولا يرفعون شعبا على آخر، ولا يؤيدون حكومة بشريّة دون سواها، إلا أنّهم يرون أنّ عودة اليهود إلى فلسطين وتجمّعهم له علاقة بنبوات إلهيّة. [للمزيد ينظر: موقع شهود يهوه على الشّبكة العالميّة].
وعموما ذهبنا إلى جماعة شهود يهوه، وهو عبارة عن كشك بسيط تعمل فيه فتاتان من السّود، والظّريف أنّ أصولهما من تنزانيا، وتعرفان بشكل بسيط عن عُمان وسلاطينها في زنجبار، ولديهم منشورات منها بالعربيّة، وطلبت تسجيل حلقة يوتيوبيّة معهم، أو يرشدوني إلى أحد منهم فرفضوا، وقالوا نأتيك الفندق للتّدارس والموعظة، وعلمت أنّهم لا يناقشون ويجادلون، وهذا يشبه الّذي عندنا جماعة التّبليغ أو جماعة الخروج والدّعوة، فأنت تسمع لهم، ومع هذا وافقت وحددنا موعدا العاشرة صباحا من اليوم التّالي لأنّ ظهرا عندنا موعد مع السّيد كريس في مشرق الأذكار لتسجيل حلقة يوتيوبيّة معه عن البهائيّة، ومع هذا لم يأتوا، وتواصلت معهم في موقعهم لمّا رجعت عمان، ولم يصلني ردّ حتى السّاعة!!
بعد هذا اللّقاء السّريع ذهبنا إلى تناول العشاء، ثمّ الرّجوع إلى النّزل لنستعدّ ليوم جديد!!!
تسجيل حلقة مع السّيد كريس حول البهائيّة
أخذنا صباح اليوم الاثنين 20 أغسطس راحة في الصّباح، وهذا اليوم يوافق عيد الأضحى المبارك في معظم العالم الإسلاميّ ومنها سلطنة عمان، والعيد في أمريكا يوافق الثّلاثاء، والأصل لنا موعد مع شهود يهوه والّذين تحدّثنا عنهم سلفا، والموعد السّاعة العاشرة صباحا، حيث يأتون إلى النّزل، فانتظرنا إلى قبيل الظّهر، ولم يأت أحد، ولنا موعد مع السّيد كريس في مشرق الأذكار السّاعة الثّانية ظهرا، فخرجنا وكان الجوّ ممطرا ورائعا إلى مطعم تركي يقدّم المأكولات العربيّة والتّركيّة، والقائمون بالمطعم في قمّة التّواضع والابتسامة وحسن الاستقبال.
وفي الحقيقة أرسلت للبهائيين من فترة أريد أعمل مقابلة حول الطّائفة البهائيّة، وجاءني الرّد عن طريق أحد الأخوة بترشيح بيت العدل أو المحفل للسّيد كريس، وهو رجل يجمع بين البسمة والشّدة، وكان متواضعا، وسبق الحديث عن مشرق الأذكار في شيكاغو.
وصلنا قبيل الثّانية ظهرا، وذهبنا إلى مكتبه، ثمّ أخذنا إلى مكتب صغير متواضع ملحق بمكتبه، وفي مكتبه توجد كتب بهائيّة باللّغة الإنجليزيّة، وسجلّت الحلقة في 20 أغسطس ضمن برنامج حوارات الحلقة التّاسعة والعشرين، وبثّت في 23 أغسطس، ولقت قبولا طيبا والحمد لله تعالى.
في البداية تحدّث عن الشّيخيّة [أي نسبة إلى الشّيخ أحمد بن زين الدّين الإحسائيّ ت 1241هـ/ 1826م من الإحساء، مؤسس مدرسة في الفلسفة والحكمة والكشف، وهي ضمن الخطّ الأخباريّ في الشّيعة الإماميّة، ولها أنصار إلى اليوم خصوصا في الإحساء والكويت، وتأثر بها فيما يبدو المدرسة الشّيرازيّة]؛ أنّها ظهرت – أي الشّيخيّة – لتفسير الآيات والأحاديث، وبشّرت بظهور المهديّ قريبا، فتحقق الأمر لدى الباب عليّ محمّد الشّيرازيّ [ت 1850م]، وأعدم من قبل السّاسة خوفا على مكانتهم، فجاء بعده بهاء الله الميرزا حسين عليّ [ت 1892م] فهو بهاء الله وظهوره، ونادى بوحدة الأديان، وجاء لإرجاع النّاس إلى الشّريعة، وظهر في عام 1863م.
وقال إنّ حضرة الباب أتى بمائة مجلّد من الكتب السّماويّة، وكذا بهاء الله أتى بمائة كتاب سماويّ، وكان تدوين الكتب السّماويّة سابقا عن طريق الحواريين، فعيسى – عليه السّلام – دوّن الإنجيل بعده من قبل الحواريين بعد ستين سنة من وفاته، والقرآن الكريم نزل خلال ثلاث وعشرين سنة، وأمّا البهائيّة فكان الرّسل يكتبون، وأحيانا يحرر غيرهم فيأذن لهم الرّسل، ومن أهم الكتب المقدّسة لديهم كتاب الأقدس، ثمّ الإيقان، وهو عبارة عن إجابة عن أسئلة في يومين أو ثلاثة، في حوالي مائتين صفحة، ثمّ جاء بعد ذلك عباس أفنديّ [ت 1921م] وله رسائل مقدّسة، ثمّ شوقي أفنديّ [ت 1957م] وكان له أيضا العديد من الإلهامات والرّسائل المقدّسة.
وقال إنّ منهج الله منذ الأزل وحدة البشريّة، لذا الرّسل جميعا جاءوا بمنهج واحد وفق طرق مختلفة، فحقيقة الرّسل واحدة لأنّ الغاية واحدة، والبهائيّة جاءت بدين جديد بعد الإسلام، وجاءت لتحقيق وحدة الجنس البشريّ أيضا.
وبيّن أنّ بهاء الله أسّس من البداية الجامعة البهائيّة، وجاءت لتأسيس الفرد والمجتمع والإنسان، ولا يوجد عندهم رجال دين، وإنّما مؤسسات تحمي الجامعة البهائيّة، ويقصد بها المجتمع البهائيّ، وتنقسم إلى ثلاثة أقسام: المجتمع البهائيّ العالميّ أي في العالم كلّه، والمجتمع البهائيّ الوطنيّ أي على مستوى الدّولة الواحدة، والمجتمع البهائيّ المحلّيّ أي في المدينة أو القرية الواحدة.
ثمّ تطرق إلى مشرق الأذكار، وقال مشرق كلمة عربيّة من الشّروق، والأذكار من ذكر الله تعالى، وهو مثل المعبد والمسجد، ولا يشترطون أن يكون الدّعاء في مشرق الأذكار، كما أنّهم لا يشترطون أن يكون مشرق الأذكار محدودا في بناية معينة، وممكن أن يجعل مشرق أذكاره في بيته أو تحت الشّجرة، وهم لا يصلّون في مشرق الأذكار، فقط للأدعية والابتهالات، مع آيات حضرة الباب وبهاء الله، ومن القرآن الكريم، ومن التّوراة والإنجيل، أي العهدين القديم والحديث، وكذا من الجيتا، وبعض صحف البوذيّة، وكذا أحيانا يقرأون بعض آثار عبد البهاء عباس أفنديّ، وأمّا ولي الله شوقي أفنديّ لا يقرأون له، وعباس وشوقي ليسوا من الرّسل، وإنّما هم من الأتباع والمناصرين، ويقرأون أحيانا مع الألحان، ولكن لا يستخدمون الموسيقى في مشرق الأذكار، ويمكن استخدامها في البيوت.
وأمّا بيت العدل فقال هو أعلى مؤسسة بهائيّة تشرف على الجامعة البهائيّة بشكل عام في العالم، وينوب عنها المحافل الموجودة في كلّ أقليم، وهي منتخبة بشكل سريّ، ولا يرشح البهائيّ نفسه، ويتكوّن من تسعة أشخاص، ويتم انتخابهم في حيفا، وبيت العدل المؤهل الوحيد للإجابة عن أسئلة البهائيين، بما فيها المسائل المستجدة.
وبيّن أنّ الله تعالى هو الغيب المطلق الّذي لا يُدرك، وأمّا أسماء الإله كالله أو يهوه أو جود أو كريشنا جميعها ترجع إلى الحقيقة الواحدة، وتدخل في وحدة الإله.
وبيّن أيضا أنّ الكلّ يذهب إلى نفس المكان بعد الموت، ولكن تختلف درجاتهم حسب الصّفات الّتي اكتسبوها في الدّنيا، وأهمّها التّواضع والحكمة والعدل والمحبة، والجنّة والنّار هما النّور والظّلام، وهذه الصّفات تؤدي إلى النّور، وأمّا انعدامها فيؤدي إلى الظّلام أي البعد عن الله سبحانه وتعالى.
كذاك بيّن أنّه لا يوجد لديهم فلسفة ختم النّبوات، فسيأتي رسل بعد بهاء الله، وعندهم ثلاث صلوات: الصّغرى والوسطى والكبرى، أمّا الصّغرى من الظّهر إلى المغرب، وهي عبارة عن دعاء، والوسطى تصلى في الصّباح والظّهر والمغرب، وهي أيضا دعاء أطول من الصّغرى، وفيها ركوع وقعود، ولكن لا يوجد فيها سجود، وأمّا الكبرى فهي أطول من الاثنتين وفيها ركوع وسجود وقيام وقعود، والبهائيّ مخير أن يختار من هذه الصّلوات الثّلاثة.
وأمّا الصّيام عندهم تسعة عشر يوما، فعندهم السّنة تنقسم إلى تسعة عشر يوما في تسعة عشر شهرا، وعدد أيام السّنة عندهم أقل من ثلاثمائة وخمس وستين يوما، وعندهم سنة كبيسة أربعة أيام، ويمتنعون في الصّيام عن الطّعام والشّراب من شروق الشّمس وحتى غروبها.
وهم يحجون إلى قبر بهاء الله في حيفا، ويحج البهائيّ مرّة واحدة في العمر.
وأمّا الزّكاة يسمونها بالصّدقة أو حقوق الله، والصّدقة بالاختيار، ويعطيها أمين الصّندوق بالسّريّة، ولا يخبر أحدا، وأمّا حق الله فهو الصّافي من المال على القادر، فيطّهر ماله فيخرج منه تسعة عشر بالمائة، من المال المتبقي، وإذا زاد المال لا يخرج عنه لأنّه طُهِّرَ، وإنّما يخرج من الزّائد، ويكون أيضا سرّيا.
وقال إنّ الرّقم تسعة عشر عندهم مقدّس؛ لأنّ حواري الباب تسعة عشر، وكذا أيضا حواري البهاء، ورقم تسعة أيضا مقدّس لأنّه من الآحاد، ويدل على الوحدة، وكذا كلمة بهاء بأرقام الحرف العربيّ يساوي تسعة.
وأمّا الأعياد والأيام عموما في البهائيّة مرتبطة بحياة الرّسل كيوم الولادة، ويوم الوفاة، ويوم إعلان الدّعوة في بغداد قبل النّفي إلى اسطنبول، وعددها اثني عشر يوما، ويحتفلون في اليوم الأول والتّاسع واليوم الثّاني عشر، وعندهم عيد الرّضوان في أبريل، وعيد النّيروز بعد الصّيام وهذا في العشرين أو الواحد والعشرين من مارس .[جاء في تعقيبات حلقة اليوتيوب من قبل Asd Ads: ليس شرط الإفطار عند البهائيّة يوم 21 مارس؛ بل بمجرد دخول الشّمس في برج الحمل، حتى وإن كان في منتصف الشّهر، ولو كان قبل الغروب الّذي هو الإفطار بدقيقة فعلى كلّ بهائيّ أن يفطر]، ويبدأ التّاريخ عندهم بداية بالبديع، والبديع هو أحد أصحاب بهاء الله.
ثمّ تحدّث أنّ جميع الأديان انقسمت إلى مذاهب، وحاول البعض أن يفعل ذلك في البهائيّة، ولكن كما يقول البهاء إنّ هذا الدّين لا يأتيه اللّيل، ففشلوا في ذلك، فهو كغصن الشّجرة إذا حاول البعض جعله مذهبا يبس فانكسر، [وقد جاء في موقع ويكبيديا على الشّبكة العالميّة أنّهم انقسموا إلى أربعة فرق: البهائيون العباسيون، وهم الغالبيّة، ويرون عبد البهاء عبّاس المفسّر الوحيد لتعاليم أبيه، ولمركز العهد والميثاق، ومن بعده ولي الله شوقي أفنديّ؛ والثّانية البهائيّة الموحدون، التّابعة للميرزا محمّد عليّ ت 1937م، ويعتبرونه الغصن الأعظم، وولي أمر الله؛ والثّالثة البهائيون الأرثوذكس، ويرفضون أن تكون الولاية بعد شوقي أفنديّ لبيت العدل الأعظم، وإنّما لسكرتيره تشارلز ميسون ريمي ت 1974م المسمى أيادي أمر الله؛ والرّابعة فرقة التّربيّة البهائيّة، أو فرقة ريكس كينغ، ويرون أنّ تشارلز ميسون ريمي لم يكن وليّ الأمر وإنّما وصي مؤقت حتى يتقدّم أحد أحفاد بهاء الله الحقيقيين لتولي أمر الدّين البهائيّ، واعتبر ريكس كينغ أيضا نفسه وصيا مؤقتا وأفراد عائلته].
ثمّ تطرق إلى أهم المبادئ عندهم وهي المساواة بين الذّكر والأنثى، وترك التّعصب بجميع أشكاله سواء كان سياسيّا أم دينيّا أم اجتماعيّا أم عرقيّا، وتعديل المعيشة بحيث لا تكون فاحشة ولا تصل إلى درجة الفقر، وأنّ الاقتصاد العالميّ يبنى على الثّقة ووحدة الجنس البشريّ، والمطابقة بين العلم والدّين، مع تحري الحقيقة والبحث عنها، وعدم تقليد الآباء والأجداد، والخطوات الأربعة الّتي تقوم عليها البهائيّة: مجالس الدّعاء، وتدريس الأطفال، والاهتمام بالنّاشئة والشّباب، ودراسة كلمات بهاء الله، وبيّن أنّ المشاركة فيها لا يشترط أن يكون من البهائيّة؛ لأنّ الهدف وحدة الجنس البشريّ، وتحقيق السّلام العالميّ.
وأمّا العهد والميثاق فمعناه أنّ الله تعالى يوفي بوعده، فلن يترك البشريّة، وإنّما يقوم بهدايتها عن طريق إرسال الرّسل، ونحن كذلك علينا أن نفي بهذا العهد والميثاق عن طريق الاستجابة، والبشريّة اليوم تعاني من الحروب والفقر وخطاب الكراهيّة والمخدّرات بجانب الأنانيّة والتّعصب، فنحن بحاجة أن نسعى لخدمتهم من خلال تحقيق السّلام العالميّ.
وختم حديثه أنّ مركزهم حيفا، وعددهم خمسة ملايين بشكل رسمي، وأعلى نسبة في إيران أي حوالي ثلاثمائة ألفا، وينتشرون أيضا في الهند وأفريقيا وفي شمال وجنوب أمريكا [وكأفراد في العديد من دول العالم].
وبعد التّسجيل ذهبنا إلى الأسفل في المبنى القديم، ويوجد متحف، وفيه الصّخرة الّتي وضع بها الأساس عبّاس أفندي في زيارته لشيكاغو 1912م، وأشرنا إلى ذلك سابقا، بعدها ذهبنا إلى قاعة لمخطوطات البهائيين، وفيها رسائل عبد البهاء وغيرها، ثمّ ذهبت إلى صلاتي الظّهر والعصر في الحديقة جمع تأخير، بعدها ذهبنا إلى التّنزه في السّوق والعشاء، وأخيرا رجعنا إلى النّزل للرّاحة والاستعداد للذّهاب إلى صلاة عيد الأضحى المبارك.
صلاة عيد الأضحى المبارك وزيارة المعبد الهندوسيّ الأكبر في شيكاغو
يوم الثّلاثاء 21 أغسطس وافق عيد الأضحى المبارك لعام 1439ه في الولايات المتحدة الأمريكيّة، وكانت أغلب الدّول الإسلاميّة عيّدت يوم الاثنين، وبطبيعة الحال وافق العيد في أمريكا الثّلاثاء لاختلاف التّوقيت، ولأنّهم فيما يبدو يقولون بالولادة ويعتمدون على الحساب الفلكيّ[10]، وقد حدث لغط في بلدنا عمان بسبب أنّ الدّولة اتّبعت باقي الدّول العربيّة والخليجيّة، ومعظم الدّول الإسلاميّة، ليوافق عرفة الأحد 19 أغسطس، فوقع جدل كبير؛ لأنّ شهر ذي القعدة أصبح ثمانية وعشرين يوما، وكتبت مقالا في هذا، وبينت أنّ السّبب عندما لا يُبنى الحساب الفلكيّ عندنا على الولادة قبل الغروب فحسب؛ بل يشترط إمكانيّة الرّؤية البصريّة لدرجة معينة في الأفق، فيحدث بذلك الاضطراب[11].
وعلى العموم بحثنا عن مكان تقام فيه الصّلاة، فأخبرنا عن أقرب مكان لنا، وهو عبارة عن قاعة استأجرها مركز الجاليات العربيّة ICCI، وهو لا يبعد عنّا كثيرا، فلبستُ اللّباس العمانيّ، فلمّا نزلت إلى الأسفل قيل لي يفضل عدم لبسه، بسبب تنامي النّظرة السّلبيّة إلى العرب، ولكي لا نتعرض لأيّ إيذاء، وذلك لوجود متطرفين عند الجميع!!!
فأخذتُ بنصيحتهم، وذهبت إلى القاعة مبكرا، حيث وصلنا تقريبا السّاعة السّابعة صباحا، فلم نجد في البداية أحدا، ثمّ بعد فترة بسيطة جاء أحد الشّاميين، وأصله فلسطينيّ أردنيّ، فقال نصلّي العاشرة والنّصف، وكان يحمل اللّاصق الورقيّ ليضعه على السّجاد لكي تتساوى الصّفوف، فقال هل تساعدونيّ في تخطيط الصّفوف؟ فسعدنا بطلبه ومساعدته، وكانت القاعة كبيرة جدّا، ووضعوا في المدخل طاولات للشّاي والقهوة والماء، مع أكياس تضع فيها الأحذية.
بدأ النّاس يأتون وأغلبهم من بلاد الشّام، والنّساء والرّجال يتجمّعون في مكان واحد، وكعادة أطفال الشّاميين يلعبون ويمرحون، وعندهم طاقة حركيّة هم وأبناء مصر، وعلى حرارة دم رجالهم لكن في هذا لا يغضبون، ووجدت هذا في لبنان وفي مساجدهم، بينما عندنا ولو حركة بسيطة لثار كبار السّن – خصوصا – غضبا، أيضا وجدتهم في تكبيرات العيد يفتحون المجال للأطفال بصورة واسعة، والكلّ يردد خلفهم، ويقولون: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ومن المشاهد الجميلة رأيتُ سعوديّا هو وابنه يقدّمون الحلويات مع القهوة السّعوديّة، وذكرني هذا بالمسجد النّبويّ الشّريف، خصوصا في رمضان، عندما يتسابق الجميع لجذبك ليتشرف بأن تفطر على سفرته، وتجد الأطفال والكبار يتسابقون في إكرام النّاس بالقهوة والشّاي واللّبن والماء والتّمر.
عموما صلّينا صلاة العيد ركعتان باثنتي عشرة تكبيرة، وقبلها قام الإمام وهو مصريّ، ويبدو أنّه في بداية الثّلاثين من عمره، قام بحث النّاس على التّبرع للمركز، وما يقوم به من خدمات جليلة في التّعليم خصوصا، لكني وجدتُ عادة لم أحبذها فيقولون مثلا: من يتبرع بخمسة آلاف دولار، من … من، فإذا رفع أحدهم يده يعلن اسمه، فإن لم يرفع يخفضون المبلغ قليلا، ويحثّونهم بصورة كبيرة، وهكذا حتى ينزلوا إلى مائة دولار، ويوّزعون ظروفا تكتب فيها اسمك والمبلغ المتبرع، كما يأتون بصناديق تضع فيها المبلغ إن لم تحب ذكر اسمك، وفي نظري يمكن تذكير النّاس بالدّعم والتّبرع دون هذه الصّورة، مع إعطائهم الحريّة، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، وما يحدث هنا أقرب إلى السّمسرة في البيوع، وعموما لكلّ أمّة عاداتها، فما لا تستسيغه لا يعني أنّه سيئا!!!
في البداية تحدّث الخطيب عن مقصدية الحج، وأنّ الحجيج استجابوا لنداء الخليل إبراهيم – عليه الصّلاة والسّلام -، حيث جاءوا من كلّ فج عميق، جاءوا لعبادة رب واحد، في هتاف وتلبية واحدة.
ثمّ تطرق إلى سنّة الاستجابة، بداية من إبراهيم، حيث استجاب لربّه في رفع قواعد البيت الحرام، واستجاب أن يضع زوجه وابنه في أرض قاحلة جرداء، لا زرع فيها ولا ماء، وكذا استجاب لربه في أن يؤذن للنّاس بالحج، ثمّ استجاب النّاس لدعوة خليل الرّحمن من قبل ربه قائلين: لبيك اللّهمّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنّعمة، لك والملك، لا شريك لك.
ثمّ تطرّق إلى مصاديق الاستجابة مناديا الشّباب عن استجابتهم لله سبحانه وتعالى، هل استجبتم في جوارحكم لله سبحانه، خاصّة وأنّهم في بلد الغربة، فينبغي استغلال هذه الفرصة بطلب العلم وفعل الخير، فهؤلاء – أي الغربيين – أتوا يوما إلينا، فأخذوا العلم والمعرفة من حضارتنا، فتفوّقوا علينا، فصاروا هم الأعلى ونحن الأسفل.
ثمّ خصّص الخطاب للنّساء بتقوى الله سبحانه وتعالى، وعليها بالعفة وطاعة الزّوج وإقام الصّلاة، والمرأة ليست نصف المجتمع؛ بل هي المجتمع كلّه، فإذا صلحت صلح المجتمع بأكمله، فهي مصنع الرّجال.
ثمّ تطرّق إلى انشراح الصّدر، وهذا يكون بتقوية العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، لذا حث أن يكون للمرء حظّه من بيوت الله تعالى، فلابدّ من الاهتمام بالمساجد، ولابدّ أن تلصق به مدارس التّعليم، لتجمع هذه المساجد بين تعليم الإسلام من قرآن وسنّة وشريعة، وبين الجانب التّعبديّ الّذي يمارسه الإنسان فيها.
ثمّ جلس جلسة خفيفة في ثواني، ثمّ قام للخطبة الثّانية وتحدّث فيها عن أيام التّشريق وفضلها، وإلى قضيّة الأضاحي وشروطها وسننها ومستحباتها، وكيفية الذّبح وسننه.
وختم الخطبة بسورة الكوثر والتّلبية ودعاء بسيط والصّلاة على النّبيّ محمّد وآله.
وعموما سجلّتُ الخطبة ونشرتها في قناتي اليوتيوبيّة في اليوم نفسه، وهي خطبة جيدة، وإن كنت أتصور سوف تتطرق إلى الوضع في الغرب بصورة أعمق، خاصة ما يعانيه ويلامسه المجتمع هناك، كما لاحظت صورة لم تعجبني وهي بعد الصّلاة نسبة كبيرة من المصلين اشتغلوا عن الخطبة وسماعها بالتّسليم والحديث الجانبيّ، وهذا يؤثر على الخطيب لأنّه يشعر بعدم الرّغبة في السّماع له، كما يؤثر في بقيّة المستمعين نتيجة الضّوضاء!!
وبعد الخطبة كان الجو ممطرا ورائعا، فذهبنا إلى أكبر معبد للهندوس في شيكاغو، وسابقا زرنا معبد إيسكان وهو لمذهب من مذاهب الهندوسيّة، وهذا المعبد يوجد فيه مبنيان، الأول قديم والثّاني حديث، وبني من الرّخام الإيطاليّ بأيدي بشريّة، ويبلغ وزن الرّخام ثمانية آلاف طنّ، وبينهما رابط حوّل إلى متحف فيه صور لعلماء هنود، ويبدو من الصّور أنّهم من الهندوس خدموا العلم في الطّب والتّكلنوجيا والرّياضيات والهندسة وغيرها، فمثلا اكتشفوا الرّقم صفر، ولولاه لم يخترع الكمبيوتر.
وفي بداية المعبد بوابة كبيرة عن يمينها فيلان أحدهما كبير والثّاني أصغر، وكذا عن يسار البوابة، حيث يعتقدون أنّ خرطوم الفيل يدل على التّرحيب والاحترام.
ولمّا وصلنا إلى المبنى القديم وفيه قاعة قديمة للمعبد وسعت بقاعة جديدة، أمرنا بخلع الأحذية، وهنا استقبلنا رجل كبير في السّن، يبدو عليه سيما التّعبد والكهانة، نسيت اسمه، مررنا معه بداية بالقاعة القديمة، وبعدها دخلنا القاعة الجديدة، وعلى حواليها تماثيل في مقدمتها تمثال أتصور كريشنا وزوجته، وقال الآن عندهم طقس الصّلاة، فجلسنا في الأرض، وهم عادة لمّا يدخلون يسجدون نوما على بطونهم، ويفسّرون الحركة أنّها نوع من السّجود، وهو دلالة على الفناء، فبدأ الطّقس، وفتح مكان الآلهة المجسّد بالتّماثيل، وكانت موسيقى رائعة تضفي للسّامع هيبة وخشوعا مع المكان، ويمررون البخور، وشيئا ما يشرب منه أو يؤكل لا يحضرني الآن.
والطّقس لم يستمر طويلا، وأخذنا الرّجل يشرح لنا المعبد، وسألناه في البداية عن إطلاق لفظة الهندوسيّة عليهم؛ لأنّه في معبد إيسكان رفضوا الإطلاق وقال نحن فيدس، والّذين سمونا بالهندوس هم الفرس، وأشرنا إلى هذا سابقا، فقال الهندوسيّة ظهرت منذ خمسة آلاف سنة، ومذهبنا نشأ منذ ثمان وأربعين ومائتين سنة، وعندهم خمس شخصيات مقدّسة، أحدهم ظهر قبل ثمان وأربعين ومائتين سنة، وآخرهم توفي قبل عامين، وفي مذهبنا لا نجد حرجا من إطلاق الهندوسيّة علينا، وسيفتتح لهم معبد كبير في أبو ظبي عام 2021م، وقد أعطاهم الشّيخ محّمد بن زايد أذنا بذلك.
ثمّ تطرق إلى أنّ الله جاء إلى الأرض باسم راما، والله واحد؛ لكنّه ظهر على هيئة أشخاص خلال فترات مختلفة ليوصل رسالته إلى البشريّة، وتتجسّد في تماثيل، ويرون عدم جواز لمسها لأننا لا نتصف بالطّهارة، ويستثنى من هذا الأولياء، ومن أهم مبادئهم: اللّاعنف، والسّلام، والابتعاد عن الأنانيّة والكراهيّة، ويقدّسون خمسة عناصر: النّار، والهواء، والماء، والتّراب، والمكان؛ وهم نباتيون، ويقدّسون البقرة لكونها تعطي الحليب فلا يجوز ذبحها.
وكرّر صاحبنا أكثر من مرة في أهمية التّربيّة، واحترام الوالدين، وخدمة البشر، والبعد عن العلاقات الجنسيّة خارج أطر الزّواج، وطلبنا منهم تسجيل حلقة لكن رفضوا واكتفوا بالحوار الشّفهيّ.
وبعدها رجعنا إلى النّزل فالغداء لنستعدّ للذّهاب إلى معبد جورد زيلاجس سو سني، وتسجيل حلقة حول الدّيانة السّيخيّة.
زيارة معبد جورد زيلاجس سو سني وتسجيل حلقة حول الدّيانة السّيخيّة
في السّاعة الرّابعة عصرا بتوقيت شيكاغو توجهنا إلى معبد جورد زيلاجس سو سني للدّيانة السّيخيّة، ويسمى عندهم المعبد أو الهيكل الذّهبيّ، وفي بدايته شعار باللّون الّذهبيّ يحتوي على سيف أفقيّ، يتداخل عن يمينه ويساره سيفان كبيران، مع حلقة دائريّة في الأعلى، والمعبد أنشأ في منطقة ريفيّة ذات معالم هادئة وساكنة، مع العشب الأخضر، والسّيخيّة جمع سيخ بمعنى التّلميذ.
والمعابد عموما بما فيها المساجد في شيكاغو أكبر من كونها مكان عبادة، فهي مراكز خدميّة تضمّ مكانا للعبادة، وهذا ما رأيناه في هذا المعبد، ففيه مكاتب ومجالس اجتماع، وقاعات لأغراض متعددة، مع مطعم يقدّمون الطّعام يوميّا بالمجان، بما فيهم المشردون والفقراء، دون تمييز لدين أو جنس، وهنا وجدنا الّذي يقوم بالطّهي خصوصا من النّساء يقوم بذلك تبرعا بدون مقابل، وفي الأعلى توجد قاعة كبيرة للعبادة تشبه قاعة صلاة المسلمين، بما فيها السّجاد المخطط للصّلاة، وفي المكان هيبة وخشوع، ولا توجد تصاوير أو تماثيل، وفي الوسط مكان مرتفع على شكل كرسيّ، يجلس فيه من يقوم بالذّكر أو الموعظة.
وفي البداية تؤخذ إلى مكان مخصص لتخلع الحذاء، ومن في المعبد يغطّون رؤوسهم بعمامة طويلة، ويطلقون لحاهم وشعورهم، وأمّا النّساء فمحجبات لا يظهرن زينتهنّ إلا ما ظهر منها، ويلبسن كعادة اللّباس الهنديّ والكشميريّ والباكستانيّ في الزّيّ النسائيّ بلا تكلف، وأطفالهم يلعبون بكلّ حريّة، ويضيفون جوّا مرحا للمعبد، مع السّكينة والوقار.
وهنا استقبلنا الأستاذ كونت ستج، وكان رجلا متواضعا بشوشا مبتسما، ورّحب بنا بحرارة، ثمّ أخذنا إلى قاعة الاجتماعات، وناقشنا لفترة العديد من القضايا، ويحترم الإسلام والأديان عموما، فطلبنا منه تسجيل حلقة، فقال أريد أعرف بداية الأسئلة، فلما اطّلع عليها ارتاح وتشجع، وعلم أنّها أسئلة تعارفيّة، فقال أين ستسجلون؟ فقلنا له في هذا المكان، فسجلنا معه حلقة مع برنامج حوارات على قناتي اليوتيوبيّة، وكانت الحلقة الثّلاثين، وبثت في الخامس والعشرين من شهر أغسطس.
في البداية بيّن أنّ السّيخيّة هي طريقة الحياة، وظهرت في عام 1469م، وتنادي بوحدة الخالق، أي الله واحد، مع وحدة الجنس الإنسانيّ، والغورو ناناك [ت 1539م] ولد هندوسيّا، وتلقى العديد من التّعاليم الهندوسيّة، إلا أنّه آمن بقضيّة الوحدة بين البشر، لهذا سعى إلى تحقيق الوحدة بين الهندوس والمسلمين، ونادى بوحدة الإله ووحدة البشر، فلا فرق بين الله أو واحي كروا، فهي أسماء لإله واحد، ولا يوجد صور أو تماثيل تصوّر الإله عند السّيخيّة؛ لأنّ الخالق لا يمكن تصويره أو تجسيده بتمثال.
كذلك يؤمنون بالكارما، أي رجوع الأرواح من جديد، ومع وصولهم إلى درجة كبيرة من الرّوحانيّة سيتحدون مع الله سبحانه وتعالى.
وبين أنّهم يحرقون الأموات بعد الوفاة، ويؤمنون بوحدة الوجود، فالله كالشّمس الّتي تتجلى، ونحن البشر مظاهر لهذا التّجليّ، فنخن نتحد مع هذه الشّمس.
ويؤمنون بالجنّة والنّار، وليس لهما حدود جغرافيّة، فوصول الإنسان إلى درجة من الرّاحة والاطمئنان الرّوحيّ فهو يعيش في الجنّة، والعكس إذا عاش في الضّيق والنّكد فهو في النّار، ويمكن لكلّ إنسان أن يكون ملائكيّا من خلال رقيّه روحيّا.
ثمّ تحدّث أنّه يوجد لديهم كتاب مقدّس لهم وهو كتاب السّيليّ جرو ساحب، كَتَبه ستة وثلاثون شخصا منهما اثنان من المسلمين، وهما بابا فريد[12] [ت 1265م]، وبابا كبير [ت 1643م]، ويرون كتب الآخرين مقدّسة كلّما ساعدتهم في الرّقي الرّوحيّ.
ولا يوجد رهبان عندهم، وإنّما على كلّ فرد أن يصل إلى درجة الكمال، وهناك من وصل إليها فيكونون موجهين أو مرشدين، ولكن لا يكونوا رهبانا.
ثمّ تطرق إلى الخمس كافات أي الّتي تبدأ بالكاف حسب لغتهم، وهي حمل المشط ليسرح شعره، ويحافظ على هيئته، والثّانية: إطالة الشّعر، والثّالثة: لبس صروال متسع ليحافظ على العفّة، والرّابعة: يلبس شيئا من الفولاذ في يده اليسرى، والخامسة: حمل خنجر صغير، وهذه الخمسة الكافات مطلقة للذّكور والإناث، وبين أنّ الغورو لم يحلق شعره، ولا التّسعة الّذين أتوا من بعده، والأنبياء يطيلون لحاهم، والشّعر هدية من الله، ونحن نحترم هذه الهديّة، واللّحية والشّارب عند الذّكر للتّميز بين الذّكر والأنثى، ولبس حلقة من الفولاذ في اليد اليسرى هدية من الغورو، فهي حلقة فارغة لا نهاية لها فكذلك الحياة لا يوجد لها نهاية، وفي السّابق كانت كبيرة، ويضعون فيها السّيف للدّفاع عن النّفس، وهي من الإستيل أو الفولاذ الصّلب للإشارة إلى القوة والصّلابة، والخنجر يستخدم للدّفاع عن النّفس وليس للاعتداء.
وبين أنّهم يصلّون في اليوم خمس مرات، وعليهم أن يحافظوا على جميع أيام الأسبوع السّبعة، ولا يوجد عندهم صيام رأسا، ولا يوجد معهم يوجا إلا إذا كانت وسيلة إلى ذكر الله تعالى، ويحجّون إلى منطقة أمريتسار في ولاية البنجاب، وهي مقدّسة لأنّ الغورو ظهر فيها، والإنسان عموما عندهم أقدس من المكان، وعليه أن يتواصل مع الله في كلّ مكان.
وأهم الأعياد عندهم مولد الغورو، ومولد الغورو العاشر – أي جوفيند سينج [ت 1708م] -، وفي 5 أبريل عندهم عيد البيساكي لمدة ستة أيام، وهو عيد رأس السّنة السّيخيّة عندهم، والغورو أتى بقضيّة الخلاص، وقداسة البشر جميعا، وعليه الاحتفاء ضدّ الكراهيّة والتّعصب، ويرون البشر أبناء الله جميعا، وهم متساوون لا فرق بينهم، وعليه لا فرق بين الأديان والألوان والأجناس والمكانة الماليّة والرّتبيّة، فالكل سواسيّة.
كذلك بيّن أنّه لا يوجد عندهم تعدد في الزّواج، بيد أنّ المرأة إذا مات زوجها ممكن تتزوج شخصا آخر، ولا يوجد طلاق؛ لأنّ الزّواج شيء مقدّس فلا ينفصل، ولكن لظروف الحياة يحدث أحيانا بنسبة قليلة جدّا.
وهم يحرّمون المخدّرات والخمور والتّدخين، وقضيّة اللّحوم عندهم قضيّة هامشيّة، والمهم نهتم بالرّوح، فلمّا يرقى المرء هو من يقرر هل يأكل اللّحوم أم لا؟
والمعبد أو الهيكل الذّهبيّ له عظمته وقدسيته عندهم، وأول من بناه عالم مسلم صوفيّ اسمه بابا ساي مي أمير، والمعبد رمز الوحدة بين البشريّة، ويسعى إلى الرّقي الرّوحانيّ، والشّعار الذّهبيّ يشير إلى نقطتين مهمتين: الأولى الوحدة، أي الله يتجلى في مخلوقاته على اختلافهم وتعددهم، والثّانية القوّة، لهذا يتجلى في الشّعار سيفان من الدّاخل ومن الخارج، يسمونه بالكندا.
وختم أنّ عددهم حوالي خمسة وعشرون مليون نسمة، ومركزهم البنجاب في أقصى الهند على حدود باكستان، وأهم مراكزهم منطقة أمريتسار وأكار، ولهم وجود في نيوزلاند وكندا واستراليا وأمريكيا وأفريقيا وغيرها.
وبعد اللّقاء قال لي ممازحا لماذا لم تسألني عن العمامة؟ وقال: مذكور في التّوراة أنّ الشّخص الّذي سيلتقي بالمسيح يلبس عمامة، ومعظم رجال الدّين في العالم يلبسون عمامة، والأحمديون يلبسون العمامة الخضراء لأنّهم مسلمون، والصّوفيّة يلبسون العمامة، والعمامة البيضاء دليل على الطّهارة والصّفاء، والملوك والسّلاطين في السّابق كانوا يلبسون العمامة وهذا دليل على العظمة.
وبعد التّسجيل أخذنا إلى المطعم، وشربنا الشّاي مع البسكويت، وعندهم طعام معيّن قريب من الحلويات نسيت اسمه، ثمّ قام بتعريفنا بالمعبد، وأخذنا إلى مكان العبادة، ووجدنا رجلا يقرأ الأذكار في الكرسيّ، وآخرون على الجوانب يذكرون الله تعالى حسب طقوسهم.
وعموما ودّعنا الأستاذ الجليل، وقال أريد الحلقة بعد النّشر، وكان المطر بدأ ينزل في جو بديع، ورجعنا إلى النّزل لنستعد للّرحيل والرّجوع إلى الوطن.
الرّجوع إلى الوطن ومن فوائد الرّحلة
بعدما أنهينا زيارة معبد جورد زيلاجس سو سني وتسجيل حلقة حول الدّيانة السّيخيّة رجعنا إلى النّزل، وكان الجوّ ماطرا، ولم نتمكن من الخروج ليلا، ولأنّ هذه اللّيلة ليلة السّفر؛ فلابدّ أن آخذ قسطا من الرّاحة، ورحلتنا في اليوم التّالي أي الأربعاء 22 أغسطس الرّابعة عصرا، وكان لدينا والحمد لله متسع من الوقت لشراء بعض الهدايا، وكانت نيتنا ختم الغداء كما بدأنا بالمطعم المكسيكيّ، وتحدّثنا عنه في الحلقة الأولى؛ إلا أننا قررنا التّعجيل إلى المطار.
وبعدما صلّيت الظّهر والعصر في النّزل خرجنا إلى المطار، وبوابتنا رقم (1)، إلا أنّ الّذي أخذنا من سيارة النّزل المجانيّة إلى المطار، وهو أفريقيّ تصرف للأسف تصرفا سيئا، وهذه أول مرة يحدث لنا في هذه السّفرة، إذا أخذنا إلى البوابة الرّابعة، وأخبرناه قال: المسافة قريبة، ومع هذا مشينا مسافة، وهي وإن كانت ليست بعيدة بالمعنى الطّبيعيّ، ولكن حال كونك تحمل أغراضا وأمتعة، والمشي يكون خارج المبنى فليست بالقريبة!!
عموما وصلنا البوابة، وكان المطار مزدحما، وسفرنا هذه المرة سيكون على الطّائرة الألمانيّة، فذهبنا إلى المكان المعدّ لتخليص إجراءات السّفر، وكان مزدحما جدّا، وضيقا في الوقت نفسه، ووقعت معي إشكاليّة، إذ أنّ الوزن المعدّ في الحقيبة الواحدة محدد ولو أقل من الوزن المسموح، لتستخدم حقيبة أخرى، ولعلّ هذا رحمة بالعمال الّذين يقومون برفع وإنزال الحقائب، وهنا الأصل تدفع مبلغا، ولكن تساهلت، وقالت: لا تعدّ مرة ثانية إلى هذا، وجزاها الله خيرا.
ودعت صاحبي، وذهبتُ إلى البوابة المعدة، وأقلعت الطّائرة من شيكاغو السّاعة الرّابعة عصرا، ووصلنا إلى فرانكفورت في ألمانيا السّاعة السّابعة والرّبع صباحا، حيث استغرقت الرّحلة خمس ساعة وخمس عشرة دقيقة، ومطار فرانكفورت مطار كبير جدّا، ومنظم، ويعتبر ثاني أكبر مطار في أوربا، ومع أنّ التّرانزيت ثلاث ساعات، إلا أنّها لا تكفي، لكي تنتقل من مكان إلى آخر، وتستخدم أحيانا المترو، ولمّا وصلت إلى القاعة كان الوقت قريب الإقلاع، وهنا سنسافر على الطّيران العمانيّ، وتعرفت في هذه اللّحظة من الانتظار السّريعة على أسرة ألمانيّة صغيرة ذاهبة إلى تايلند للسّياحة، فمن فرانكفورت إلى مسقط ترانزيت فتايلند، وجرى بعض الحديث السّريع، والمهم أقلعت الطّائرة السّاعة العاشرة وخمس وثلاثين دقيقة، ووصلنا مسقط السّاعة السّابعة وخمس عشرة دقيقة، حيث استغرقت الرّحلة ست ساعات وأربعين دقيقة.
وبعد هذه الرّحلة يمكن أن نجمل بعض الفوائد في زيارتي الأولى لولاية من الولايات الأمريكيّة، حيث أدركت تماما ما وصلوا إليه لم يكن إلا أنّهم أخذوا بسنن التّقدّم، فكان لهم ذلك، حيث يقوم على بناء الإنسان والحريّة والعدل، فهناك تشعر بقيمة الإنسان، وله كرامته، وتشعر بالحريّة، ولكلّ شأنه، كما تدرك قيمة العدل في استقرار النّاس، وشيكاغو تحوي العصابات المتطرفة، ولكن لا تشعر بذلك، بل تشعر بالأمان والاطمئنان.
ومن خلال زيارتي للمعابد تدرك أنّ الجميع يريد الوصول إلى الله، والكلّ يحبّ الله، ولكن كلّ يستخدم وسيلته للوصول إليه، وكلّ يعبر عن حبّه لخالقه حسب طقسه وما ورثه، ولكن صقلوا بالمحبّة لبعض، فالله قبل أن يكون إلها هو رمز المحبّة والجمال، فالله محبّة، والأديان طرق لهذه المحبّة، ودور العبادة كانت معبدا أو كنسا أو كنيسة أو مسجدا هي تجسيد لهذه المحبّة، فتحويل هذه المحبّة إلى بغضاء وشقاق؛ بل إلى تفجيرات وقتل إنّما هو كفر برمز المحبّة الّذي جسّد محبّته في قلوب عباده، وهو أعلم بهم وبحالهم.
تعلّمت أيضا من هذه الرّحلة القصيرة أنّ التّعدد بناء، والأحدية بالنّسبة للبشر فساد، والوحدة في التّعدد إذا أدركنا قيمة التّعدديّة، فسيعود نفعها على الجميع، وتعطي جمالا وحلاوة كالصّورة المتعددة الألوان مع أنّ الّذي رسمها يد واحدة، فسبحان يد الصّانع الخالق الّذي رسم هذا الكون العظيم، ولله المثل الأعلى.
تعلّمت أيضا أننا لما نتصارع في بلدنا نتصارع على وهم، فلمّا تخرج من حدود بلدك ودينك ومذهبك وأعرافك وتقاليدك تدرك سعة العالم والفضاء، وتبدأ في ترتيب أوراقك من جديد، فلا تضيّع وقتك وعمرك في صراعات وخلافات وهميّة، العالم أكبر منها بكثير جدّا، فأرض الله واسعة للهجرة، وليس القصد من الهجرة ترك البلد الّذي تعيش فيه، وإنّما توّسع مداركك لتسبح في فضاء واسع من المعارف والمدارك والحريات وقيمة الإنسان.
تعلمت أيضا أنّ في أمريكا من يقدّر قيمة المعرفة والبحث بلا توجس أو انتظار ثناء من الباحث أو الكاتب، فلمّا تواصلت معهم رأيت التّشجيع والدّعم، فهناك خذ حريتك وانقد وتحدّث، فمدحك لا يزيدهم درجه، ونقدك لن يجعلك في درجة المغضوب عليه والضّالين!!
عموما الحديث ذو شجون، ونحن بحاجة في منطقتنا عموما أن نقترب من الإنسان وحرياته، ونشجعه على البحث والنّظر والكشف، فلا نعمل ذلك لمدحنا، وإن نقد جعلناه في أسفل سافلين.
والقارئ لهذه الرّحلة يدرك ذلك، وفيها يتعرف على الزّرادشتيّة والفيدس والهندوس والبوذيّة والسّيخيّة والمورمن وشهود يهوه والبهائيّة، وبعض ثقافة المجتمع المسلم، كما سيطّلع على بعض الجوانب التّأريخيّة والحضاريّة لشيكاغو، حيث أنهيت كتابة الرّحلة في فجر الاثنين 23 من شعبان 1440هـ يوافقه 29 أبريل 2019م في مدينة الغبرة بولاية بوشر، والحمد لله ربّ العالمين.
[1] نشرت في كتاب إضاءة قلم (الحلقة الأولى) التّعايش تأملات ومذكرات، ط الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء، ودار مسعى، الطّبعة الأولى 2018م، ص: 65 – 101.
[2] نشرت أيضا في كتاب إضاءة قلم (الحلقة الأولى) التّعايش تأملات ومذكرات، مصدر سابق، ص: 103 – 146.
[3] سيأتي الحديث عن المورمون بشكل أوسع في الرّحلة التّكساسيّة من خلال اللّقاء مع الأسقف الدّكتور تيد آساي من المورمون في دالاس.
[4] أقمنا لقاء عن الموارنة مع الدّكتور الأب الماروني حنّا أسكندر من لبنان، سنضيف اللّقاء في ملاحق الكتاب.
[5] كما عملت معهم أيضا جلسة معرفيّة حول شهود يهوة نذكرها في الرّحلة التّكساسيّة.
[6] تمّ تسجيل ذلك مع الحاخام رابي دايفيد في دالاس في الرّحلة التّكساسيّة.
[7] لنا حلقة خاصّة مع الدّكتورة سوسن حسني حول اللّغة العربيّة وتحدّياتها في الغرب، وفي الحلقة شيء من ذكرياتها، نشير إليه في الرّحلة التّكساسيّة.
[8] ممّن أرّخ الاتّجاه الآخر الدّكتورة عائشة بنت عبد الرّحمن المعروفة ببنت الشّاطئ [ت 1998م] في كتابها قراءة في الوثائق البهائيّة، طبع سنة 1986م.
[9] الأصل موعدنا معهم صيف 2020م، ولكن كورونا حالت دون ذلك، والحمد لله على كلّ حال.
[10] كان لنا في هذا حلقة في الرّحلة التّكساسيّة مع فضيلة الشّيخ سامر الطّباع حول الواقع الافتائي في الولايات المتحدّة الأمريكيّة، وتطرقنا كما سنرى حول جدليّة الهلال القمري في أمريكا.
[11] يمكن الرّجوع إلى مقالي: جدليّة هلال [ذو الحجة] 1439هـ، موجود في الأعمال الكاملة، ج: 23، مرقون، وإلى كتابي أيام رمضان، ط مكتبة مسقط، سلطنة عمان، الطّبعة الأولى 2019م، باب فمن شهد منكم الشّهر فليصمه.
[12] لم يلتق الغورو ناناك ببابا فريد؛ لأنّه متوفى قبله بسنوات طويلة، ولكن تأثر به، واقتبس بعض آثاره وأشعاره، وضمنها في كتابهم المقدّس، كما سنرى في الرّحلة التّكساسيّة، ولكنه التقى ببابا كبير.