شاهدت مقطعا منتشرا يناشد فيه صاحبه أن تتدخل دول الجوار في إصلاح بعض القضايا الوطنيّة، وبطبيعة الحال عادة في الفترة الأخيرة لا أتدخل في مثل هذه الهامشيّات، ولكل رأيه ونقده، وبعيدا عن التّهويل الّذي ذكره صاحب المقطع في الشّأن الدّاخليّ، فهناك تحدّيات اقتصاديّة ليست في عُمان فحسب، بل في غالب العالم ومنها العديد من دول الجوار أيضا، وهذا شأن داخليّ لكلّ دولة تعالج فيها قضاياها وفق مؤسّساتها المدنيّة، والتّعاون مع خارج حدود الدّولة تعاون إحيائي استثماريّ، وليس تدخلا في سياسات الدّول الأخرى وقضاياها الوطنيّة، على أن ينطلق هذا التّعاون من مركزيّة الدّولة ذاتها ومن داخلها، بما يقوي الدّولة لا بما يضعفها ويفكّكها، فهناك فارق كبير بين أن تطالب بإصلاحات وطنيّة أيّا كانت، وبين أن تستدعي دولا خارجيّة ضدّ مركزيّة الدّولة ذاتها ولو كان ظاهرها مطالب إصلاحيّة في الجانب الاقتصاديّ، فهذا يقود إلى أمرين خطيرين، ما انتشرا في دولة إلّا وأصبحت بلاقع من التّفرّق والتّخلّف الّذي يقود إلى الصّراع والاحتراب، أولاهما إضعاف الدّولة المركزيّة، وتنامي قوّة انتماءات الهامش لأسباب قبليّة أو مناطقيّة أو مذهبيّة، والثّاني خلق ولاءات خارجيّة للحفاظ على قوّة انتماءات الهامش، هذه الانتماءات لا ترى قوّتها ولائيّا في حدودها الوطنيّة، وإنّما من خلال انتماءاتها الخارجيّة، وإذا حدث هذا يصعب الرّجوع إلى مركزيّة الدّولة الوطنيّة الواحدة، ويحتاج إلى عشرات السّنين، وصعود أجيال جديدة تتهذّب بذلك، وهذا ما نجده اليوم في بعض الدّول العربيّة، عندما ضعفت فيها مركزيّة الدّولة الوطنيّة الواحدة، فلا هي عالجت قضاياها الوطنيّة ومنها الاقتصاديّة، ولا هي حافظت على لحمتها الوطنيّة، بل تراجعت بشكل كبير، وأصبحت ممزقة ومتحاربة، وزادها تمزيقا التّدخلات والولاءات الخارجيّة.
لهذا أردّت أن أعقّب على هذا الموضوع، وإن كنت كتبت حوله أكثر من مقالة، ومنها في كتابي الجديد “أنسنة الدّولة”، فمحاولة الاقتراب من إضعاف مركزيّة الدّولة الوطنيّة، واستدعاء تدخلات خارجيّة، ولو على سبيل الإثارة الهامشيّة، وردّات الفعل العاطفيّة غير المدروسة، وغير المتعقّلة، هذا الأمر إذا تقبل جمعيّا، وتمدّد بشكل أكبر؛ سيرجعنا إلى الوراء بشكل كبير، لهذا إثارته اليوم وعدم نقده وحدّه والمصارحة حوله قد يتمدّد أفقيّا غدا، خصوصا في عُمان، فهي تحمل مكونات هامشيّة وانتمائيّة متباينة، كما لها تجارب تأريخيّة في هذا، قادها إلى الاحتراب والتّمزق الدّاخليّ، واحتاجت إلى سنوات أحيانا تتجاوز القرن للرّجوع إلى مركزيّتها وقوّتها الوطنيّة، وبناء مؤسّساتها المدنيّة، وعلاج قضاياها من داخلها لا من خارجها.
وأمّا المكونات الهامشيّة والانتمائيّة المتباينة في عُمان فهي عديدة مناطقيّا وقبليّا ومذهبيّا وثقافيّا، فانتقال الولاءات من مركزيّة الدّولة إلى المركزيّات خارج حدود الدّولة، هذا يقودنا بشكل طبيعيّ إلى تشكّل ولاءات قبليّة وطائفيّة متباينة، كما هو الحال في اليمن ولبنان قبليّا وطائفيّا، وأهليّا بشكل أكبر في ليبيا والسّودان، فإذا ضعفت مركزيّة الدّولة يتراجع معها بشكل طبيعي وحدة الدّولة الوطنيّة، والّذي في الخارج وإن كان جارا قريبا لا يهمّه هذه الوحدة بقدر ما يهمّه مصالحه الذّاتيّة، مستثمرا تفكير المجتمع لأغراض قبليّة أو طائفيّة لا لأجل مصلحة الوطن ذاته، ووحدة أراضيه واستقرار ونمو مجتمعه داخليّا.
وأمّا تجربة عُمان التّأريخيّة فلا أريد الحديث عن الماضي البعيد، فالماضي القريب خير شاهد، ولا زال النّاس أحياء يدركون حال عُمان قبل 1970م، فكانوا ممزقين في الولاءات، ولا يوجد دولة مركزيّة تجمعهم، ومن استعانوا بهم في الخارج لم يحقّقوا لهم نموا واستقرارا داخليّا، بل كانوا طرفا مباشرا في صراعهم وتسليحهم، والّذي قادهم إلى الاحتراب والخراب، وعمّ فيهم الفقر والجهل والمرض، لهذا عندما قامت الدّولة المركزيّة الوطنيّة الواحدة، وأدرك الجميع صدق ذلك، وتوحدوا لأجلها؛ نجني اليوم ثمرة ذلك والحمد لله، فأصبح اسم عُمان يجمعنا ونفتخر به، وليس الّذي يجمعنا هوامشنا الانتمائيّة، فلا ينبغي بعد هذا الإحياء أن نرجع إلى الوراء، ولا ينبغي ترك مثل الدّعوات أن تتمدّد أفقيّا، فما عمّت إلّا وعمّ معها الخراب والفوضى.
لا يعني هذا عدم وجود تحدّيات داخليّة، وعلى رأسها التّحديات الاقتصاديّة، منها الأزمات الثّلاثة، أي أزمة الباحثين عن عمل والمسرحين والأجور المنخفضة، علاج هذا لا يأتي أبدا من خلال الاستدعاءات الخارجيّة، وإنّما يأتي من داخل الدّولة الوطنيّة ذاتها، وهذا ليس في عُمان فحسب، فغالب دول المنطقة تعاني من ذلك وفق نسبة وتناسب، وهذا لا يعني استغلالها لخلق ولاءات خارجيّة، هنا لن تصبح أزمات ثلاث، بل ستتحول إلى أزمة وطن، يفقد أهمّ ما يجمعه سياديّا وأمنيّا واستقرارا، فإذا فقد هذا فقد كلّ شيء فيما دونه.
يحتاج هذا إلى شيء من الإنصاف والتّعقل، فهناك مراجعات إيجابيّة، وعلاج جذريّ في العديد من الجوانب، كتبتُ عنها في مقالة مطولة في جريدة عُمان بعنوان: “عُمان بعد خمس سنين من حكم السّلطان هيثم”، كما يحتاج إلى شيء من الاحتواء والمراجعات المحكمة السّريعة، وتحريك المؤسّسات المدنيّة، ومؤسّسات المجتمع المدنيّ، ونحتاج أيضا إلى مراكز بحثيّة واستراتيجيّة تقيس الوضع وتقرأه بعقلانيّة ومصداقيّة وشفافيّة، وأن ندرك كليّا أنّ هذا لا يمكن تحقّقه من خارج مركزيّة الدّولة الوطنيّة، فهذا حدّ جامع لا مساس له، ولا نقاش حوله، وإلّا سنؤكل كما أكل الثّور الأبيض، حينها لن نبحث عن علاج لهذه الأزمات، بل سنبحث عن شيء اسمه وطن يجمعنا، فلا نكون ممّن يخربون استقرار بيوتهم وأوطانهم بأيديهم.