جريدة عُمان 1443هـ/ 2022م
لكل أمّة من الأمم، عرقيّة قوميّة أو دينيّة، لها وقفات في عامها تحتفي بيها، ولهذا سمّي عيدا؛ لأنّه يعود في كلّ عام، منهم من يتوسع من حيث المصطلح والمناسبات، ومنهم من يضيّق حسب الوارد والمتفق عليه، لذا بعضهم يمايز بين اليوم والعيد، فيسمي غير المألوف دينيّا باليوم كيوم الشّجرة والنّيروز واليوم الوطنيّ، ومنهم من لا يرى مشاحة في الاصطلاح، حيث يعم لغة، ويضيق تشريعا دينيّا، لارتباط الثّاني بطقوس معينة.
لهذا سنجد في الأديان عموما ارتباط العيد إمّا لأحداث لها ارتباط بنشأة الدّين تأريخيّا، أو النّبيّ أو الرّسول المرتبط بالدّيانة، كعيد الفصح عند اليهوديّة، والّذي يتمثل في نجاة بني إسرائيل من فرعون، وعيد القيامة عند المسيحيين في ذكرى قيامة المسيح من بين الأموات بعد ثلاثة أيام من حادثة الصّلب كما يرون، ويأتي في أيام عيد الفصح؛ لأنّ الحادثة وقعت في فترة عيد الفصح كما في الأناجيل، كما أنّه به ينتهي الصّوم الكبير أي أربعين يوما، وعيد البياسكي عند السّيخ له ارتباط قوميّ في بداية السّنة السّيخيّة، وارتباط تأريخيّ في تأسيس جمعيّة المحاربين “الخالصا بانث”، وعيد الرّضوان عند البهائيين تمثلا بإعلان حضرة بهاء الله أنّه أحد مظاهر الله أي رسله.
ويصعب بطبيعة الحال الإسهاب في ذكر نماذج لذلك في مقالة قصيرة كهذه، ولكن الّذي يهمنا هنا الأعياد في الإسلام، حيث أننا على مشرف انتهاء شهر الصّيام من السّنة الهجريّة 1443هـ، واستقبال عيد الفطر من العام الهجريّ ذاته، ولهذا نجد المسلمين يجمعون على عيدين، عيد الفطر وعيد الأضحى، عدا الشّيعة الإماميّة يزيدون عيدا آخر وهو عيد الغدير، أو غدير خم في 18 من ذي الحجة، ويسمّونه أيضا عيد الولاية، أي ولاية الإمام عليّ بن أبي طالب [ت 40هـ]، وهو عيد تأريخيّ لمناسبة تأريخيّة أكبر منه مناسبة دينيّة خالصة.
ونجد العيدين في الإسلام نشأتهما طقسيّة دينيّة خالصة من الارتباطات التّأريخيّة من حيث الأصالة، حتّى من حيث النّبيّ محمّد – صلّى الله عليه وسلّم -، فلا يوجد في الإسلام في قرن التّأسيس أو البعثة عيد ارتبط بولادته أو إعلانه للدّعوة أو شيء من انتصاراته أو هجرته أو وفاته، فهذه حدثت لاحقا بعد وفاة الرّسول – عليه السّلام -، وأغلبها بعد قرون، وفي فترة التّميز المذهبيّ، لهذا أغلب المذاهب التّقليديّة رفضت التّوسع في الأعياد حتّى من حيث المصطلح؛ لأنّهم يرون للعيد جانب تعبديّ شعائريّ لا يجوز الابتداع فيه نقيصة ولا زيادة، ولاتّفاقهم على رواية قدم النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنّا نلعب فيهما في الجاهليّة، فقال النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم -: “قد أبدلكم الله بهما خيرا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر”.
ولمّا انتشر الإسلام في أجزاء عديدة من العالم دخل النّاس وفق ثقافتهم وأعيادهم القوميّة، أو الّذي لها أصل دينيّ، ومنهم من تخلى عنها إمّا لأسباب مضادّة تقليديّة رأت بدعتها، وتبنت الرّؤية التّقليديّة السّلطاتُ السّياسيّة فسارع في اندثارها، ومنها ما بقت أقوام عليها كعيد النّيروز، ومنها تقمصت في مناسبات دينيّة لها ارتباط تأريخيّ بالجانب الرّساليّ، كالمولد النّبويّ المماثل بالموالد في الأديان والثّقافات الأخرى، وعلى رأسها مولد السّيد المسيح، ومنها ارتبط بالصّراعات السّياسيّة والمذهبيّة كالاحتفال بعاشوراء مثلا، ومنها ارتبط لاحقا بوقفات رأس السّنة، حيث غالب الأديان لها رأس السّنة، فكان للمسلمين أيضا رأس السّنة الهجريّة.
وبعيدا عن الخلاف الشّعائريّ من جهة، وتعميم مصطلح “العيد” من جهة ثانية؛ يجمع المسلمون قاطبة على عيدين: عيد الفطر وعيد الأضحى، وكلاهما من حيث الأصالة مرتبطان بشعيرتين: الصّيام في عيد الفطر، والحج والقربان في عيد الأضحى، فارتباطهما طقسيّ شعائريّ بالخالق سبحانه وتعالى وحده، فهنا نجد الخصوصيّة الإسلاميّة أنّها تجعل المدار هو الله وحده، وترفض ما دونه من شريك بشريّ أو ملائكيّ أو أيّ مخلوق آخر.
لهذا كان الصّيام مرتبطا بالله من حيث الابتداء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، ومن حيث الإكمال {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]، ومن حيث الحدّ والغاية {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187]، ولهذا ينقضى شهر الصّيام بتكبير الله وتهليله من حيث الأثر، ويفتتح العيد بصلاة مربوطة بالله والتّذكير به وحده سبحانه.
وهذا ذاته ما يتعلّق بعيد الأضحى أو عيد القربان، وهذا مع حضور اسم إبراهيم مع ابنه إسماعيل أو إسحاق، إلا أنّ المدار هو الحج والقربان، وكلاهما ربطا بالخالق وحده {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج/ 26]، وكذا القربان {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج/ 34]، لهذا نجد القرآن يربط جميع الطّقوس والشّعائر بالله وحده سبحانه، ولا يدخل فيها شريكا بشريّا ولو كان رسولا أو نبيّا، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 – 163].
هذا الاتّجاه لاحقا توسّع نتيجة صراعات مذهبيّة وسياسيّة، لشخوص متصارع حولها تأريخيّا، أو لحركات عرفانيّة صوفيّة بالغت في إضفاء القدسيّة الشّعائريّة للنبيّ محمّد – صلّى الله عليه وسلّم -، أو أزواجه، أو آل بيته، أو بعض صحابته عند آخرين، بينما في الخطّ التّقليدي يرفضون التّوسع، إلا لسبب الرّواية توسّع فيها آخرون، لكن بقي المدار شبه متفق عليه، وهو مدار الوحدانيّة والخالقيّة الّتي تدور حولها طقوس الأعياد في نزعتها اللّاهوتيّة.
أمّا العيد من حيث النّصّ الأول أي القرآن، فلا توجد آية صريحة لعيديّ الفطر أو الأضحى، فهذا من المسكوت عنه في القرآن، ومع أنّه فصّل الصّيام والحج، إلا أنّه لم يتحدّث عن العيدين صراحة تشريعا ولا تهذيبا، وجاء ذكر العيد صراحة في غير هذين الموضعين، أي في سياق المسيح مع قومه: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة: 114].
وعليه ارتباط العيدين في الإسلام لا يخرج عن بُعدين: تهذيب التّقابس مع الأديان الأخرى، أو كونه تشريعا تأريخيّا مستقلا من خلال النّصّ التّأريخيّ [العمل والرّواية]، لا من حيث النّص الأول.
أمّا من حيث التّقابس، فالعيد المرتبط بالصّيام موجود عند اليهود، وهو عيد الكفّارة في الشّهر السّابع من السّنة العِبريّة، ويسبقه صوم من الغروب إلى الغروب عن الطّعام والشّراب والجماع، وهو مذكر بعودة موسى من الجبل بعدما عبد قومه العجل، فكان كفّارة وتوبة إلى الله، وأمّا عند المسيحيين فيرتبط بعيد الفصح أو القيامة، بعد صوم أربعين يوما، حيث صام المسيح أربعين يوما في البريّة عن الطّعام والشّراب ليخلّص نفسه من الشّرير أو الشّيطان، ومع ارتباط هذا بعيد الفصح، وعيد الفصح مرتبط باليهود، إلا أنّ الفصح عند اليهود مرتبط بنجاة موسى وقومه من فرعون، ولا يوجد حسب أدبياتهم صيام فيه، وناقشت هذه القضيّة في كتابي “التّعارف” في الرّحلة الظّفاريّة.
وأمّا عيد الأضحى أو القربان فسبق لي أن كتبت مقالة في جريدة عُمان حول “عيد القربان في الأديان الإبراهيميّة”، ونشرت في 18 يوليو 2021م، وقلتُ في المقالة: “لمّا نأتي إلى عيد القربان نجده ملاصقا للدّيانات الإبراهيميّة الأربعة: السّامرية واليهوديّة والمسيحيّة والإسلام”، وأشرت إلى مصاديق ذلك من حيث الحج والقربان والعيد المتمثل في أعياد الفصح والقيامة والأضحى، اكتفي بما ذكر هناك ويمكن الرّجوع إليه.
لهذا أجد العيدين في الإسلام لم تخرج عن خط الأديان الأخرى وتقابسها، إلا أنّه هذّبها لتكون في مدار التّوحيد والخالقيّة والعبوديّة لله وحده سبحانه، وعلى هذا كان الجانب العمليّ والتّأريخيّ، إلا أنّ النّصّ الأول كما أسلفنا لم يتحدّث عنه تصديقا ولا هيمنة، فيدخل في المسكوت عنه.
ومع حضور البعد التّعبديّ والتّوحيديّ في العيدين في الإسلام، إلا أنّ حضور البعد الاجتماعيّ أيضا له حضوره، كسائر الأعياد الدّينيّة والقوميّة، لها ارتباط اجتماعيّ أيضا، ونجد في النّص التّأريخيّ من حيث عيد الفطر الإشارة إلى صدقة أو زكاة الفطر، فهي لم فلم تذكر في القرآن، وبعضهم استأنس بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 – 15]، بيد أنّه تأريحيّا وعمليّا اتّفقت عليها المدارس الإسلاميّة في الجملة، ومدارها رواية: “سنَّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – زكاة الفطر على الحُر والعبد، والذّكر والأنثى، والصّغير والكبير، صاعا من تمر، أو صاعا من زبيب أو بر أو شعير أومن أقِط”.
وأمّا عيد الأضحى فارتباطه بالقربان جاء في سياق ذكر الهدي في الحجّ صراحة في النّصّ الأول، وربط بالبعدين التّوحيدي والاجتماعيّ، {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]، بيد أنّ النّص الأول لم يذكر الأضاحي، وبعضهم استأنس بسورة الكوثر، إلا أنّ الأضاحي ارتبطت أيضا بالنّص التّأريخيّ والجانب العمليّ.
واعتاد من العمانيين الذّبح في عيد الفطر، وهي ابتداع اجتماعيّ على غرار الذّبح في عيد الأضحى، ولكن لا أصل لها تأريخيّا في الجملة، ولا يترتب عليها فقها أحكام الأضاحي، وضررها بسبب التّكلّف والمباهاة أكثر من نفعها.
وعلى العموم البعد الاجتماعي هدفه شيوع الفرحة لدى الجميع، وهذا لا يتحقق إلا ببسط اليد من القادر إلى غير القادر، والثّاني البعد عن التّكلف وإرهاق النّفس والتّميز في الكماليات والسّرف، مع توسعة البعد الاجتماعي إلى زويا التّخلص من الكره والبغض والعجب، والإصلاح بين المتخاصمين، والتّزاور وقطع الجفاء، وتحقيق الصّلة، وطهارة الباطن قبل الظاهر، وجمال القلب قبل جمال البدن.