الحوارات

الدّيْن وأثره على الشّباب

لقاء مع جريدة الوطن العمانيّة 1435هـ/ 2015م

الوطن: ممكن افتتاحيّة عامّة عن الدّين؟

العبريّ: الدّيْن عند الفقهاء هو مال حكمي يثبت بالذمة ببيع أو استهلاك أو غيرهما، فيدخل فيه البيوع والإجارة والمزارعة والمساقاة والمهور ونحوها، فكلّ ما ثبت في الذّمة فهو دين كان بأي وسيلة ما كالقرض أو البيع أو المنفعة.

وأكثر ما ينتشر عند الناس في مفهوم الدّيْن أنّه قرين القرض، والأول أعم، والثاني صورة من صوره، فالقرض أو السلف يعرّفه بعض الفقهاء تمليك الشيء على أن يرد بدله، فهو بهذا صورة من صور الدّيْن، والدّيْن أعم.

وفي اللغة الدّيْن عام، فهو يطلق على كلّ شيء غير حاضر، ويجمع على ديون، وأديُن مثل أعيُن، والفعل منه دان، يقال: دنت وأنا أدين، إذا أخذت ديناً، ودنت الرجل: أقرضته فهو مَدين ومديون، ودان هو أخذ الدّيْن، ولذا الدّيْن لغة لا يقتصر عند جانب العوض أو العين أو المنفعة، بل هو أعم حتى في المعنويات، واللوازم الخارجية كالوعود مثلا، وكقولهم دين علي زيارتك، وهي خارجة عن موضوع هذا اللقاء.

ويعرّف في المصارف المعاصرة بأنّه عبارة عن مبلغ نقدي يقدمه المقرض إلى المقترض بصفة رضائية، ويلزم المدين برد أصل الدّيْن، وفوائده في الآجال المحددة والمتفق عليها كما في البنوك التقليدية، – والتي يراها غالب الفقهاء بأنّ الفائدة هي عين الربا -.

وعليه كان التعريف المعاصر أقرب إلى القرض أو السلف، وهو محلّ هذا اللقاء بعون الله تعالى.

الوطن: كيف تقرأ الدّيْن في القرآن الكريم:

العبري: جاءت لفظة الدّيْن في قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، وهذا في التركات، ويدل على وفاء الدّيْن حتى بعد الموت، فالوصية الدّيْن مقدمة على التركات.

ونزلت آية كاملة في سورة البقرة من أكبر الآيات القرآنية مفصلة لأحكام الدّيْن، ومبينة المكاتبة والشهادة، وبعدها آية الرهن وتحريم المضار لأحد الطرفين، وقبل آية الدّيْن الإشارة إلى تحليل البيوع وتحريم الربا، واستغلال حاجة الفقير والمحتاج بأي شكل من الأشكال.

أما القرض فوجدت فيه إشارات كذلك واضحة كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وإن كانت الآية عامة إلا أنّ الجانب المادي يدخل فيها إن قصد الإعانة وتفريج هم المحتاج وكربته.

عموما الحديث عن الدّيْن في القرآن يطول ويحتاج لتفصيل، وما أشرنا إليه كفاية لهذا اللقاء بإذن الله تعالى.

الوطن: كيف تقرأ الدّيْن في التطبيق النبوي؟

العبري: المجتمع البشري في عهده – صلى الله عليه وسلم – كأي مجتمع آخر بشري، فيه المنفق وفيه المقتر، فيه المسرف وفيه البخيل، فيه المعين للناس وفيه الظالم المستغل، والنّاس في عهده كانوا يتعاملون بالربا الفاحش، ويستغلون حاجة المسكين، فقام عليه الصلاة والسلام مذكرا لهم بوصايا الله، والأدبيات القرآنية في تحريم الربا، وظلم الناس، واستغلال حاجة الفقير، بأي شكل من الأشكال، ومنها بطبيعة الحال عن طريق الدّيون والبيوع.

وحثهم على إعانة المحتاج، وإنظار المعسر، «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ الله عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ الله فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَالله فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيْهِ».

الوطن: ما حكم الدّيْن؟

العبري: أي مجتمع بشري لا يستغني عن المعاملات المجتمعية، ومنها المعاملات المالية خاصة في عصرنا هذا، ولذا سيضطر إلى الدّيْن لتوفير حاجياته الضرورية من مسكن وزواج ووسيلة نقل وشبهه، لذا كان الأصل في الدّيْن الإباحة، ومع هذا فهو يدور وفق الأحكام الخمسة، فقد يكون واجبا إذا كان لضرورة، ويستطيع رده، وقد يكون مكروها إذا كان لغير ضرورة.

وعليه وإن كان الأصل الإباحة إلا أنه لحاجة ماسة، وإلا إن كان لغير حاجة فالأصل الكراهة، وذلك لما للدّيْن من أثر نفسي سلبي، من هم وغم بالليل والنهار، فلا ينبغي أن يكون عادة، أو أن يلجأ إليه إلا لحاجة ماسة.

الوطن: نجد بعض الشباب كثيرا يقترض من هذا وذاك؟ ما أثر ذلك على علاقته مع المجتمع؟

العبري: بلا شك كما أسلفتُ آنفا أنّ الدّيْن أثره سلبي في الأصل، ولا ينبغي أن يكون عادة إلا لضرورة أو حاجة ماسة يلجأ إليها، مع قدرة لإرجاع الدّيْن بعد حين، وجدول زمني يعينه في ذلك، وينبغي للمجتمع أن يكون متكاتفا أيضا في إعانة بعضهم بعضا.

وما يقوم به مثلا جماعة “فك كربة” الخيرية عندنا في عمان عمل نبيل جدا، وذلك بالنظر إلى من كان ضحايا السجون بسبب الدّيْن، فيفكون كربته ليعيش مع أهله وجماعته.

وعموما كثيرا ما ساءت العلاقة بسبب الدّيْن، وهذا إما أن يكون المدين مماطلا وإما أن يكون معسرا، ففي الحالتين يجد نفورا من المقرض، وقد يجد إيذاء بداية كلاميا يشيع عنه في المجتمع عدم رده للدّيْن، مما يؤدي إلى قطيعة الأرحام إن كان القرض مع ذوي الرحم، أو هجران الأقارب إن كان المقرض قريبا له نسبا أو مصاهرة، أو مع الجيران والأصدقاء إن كان خارجا عن دائرة الرحم والأقارب.

وقد يهجر المساجد ومجامع الناس، فلا يشارك الأفراح ولا الأتراح تجنبا لرؤية المقرض وإيذائه، ولو لم يكن الأخير مؤذيا إلا أنّ البعد النفسي يبعده عنهم.

بيد أنّ الإيذاء لا يمتد إليه فقط، فيمتد إلى زوجه وأولاده، مما يلحق بهم الضرر النفسي في المجتمع.

وقد يمتد إلى ضرر مادي ببيع بعض ماله كسكن أو نقل أو مزرعة للوفاء بدينه، فيعيش أهله بلا سكن أو نقل، وقد يرمى به في السجن إن كان عن طريق الشيكات البيضاء، فيتشتت أولاده، وقد يكون مصيرهم السرقة وبيع الأعراض.

كلّ هذا بسبب الدّيْن غير المنضبط، ومع هذا على المجتمع أن ينظر إلى الأبعاد المجتمعية في ذلك، فإن كان مماطلا لابد من ردعه، ولا يعان في ذلك، وإن كان معسرا، فنظرة إلى ميسرة، وأن يتكاتف الجميع في ذلك عونا له ولأبنائه وأهله، فهو جزء من المجتمع، والله تعالى فتح له أن يُعطى من الزكاة المفروضة، فهو من صنف الغارمين.

وهذا لا يُعفي الجهات المختصة من توفير الضرورات، وتهيئة العيش الكريم، والقدر الضروري لأي مواطن ليعيش حرا كريما.

كما أنه لا يعفي المصارف من استغلالها لحاجة المسكين، ليستغل في أكبر قدر من الفائدة أو الإيجار، فينبغي مراعاة ذلك، والأخذ دون استغلال لحاجة المحتاج، وفي البيوع غنى ورحمة.

الوطن: ما الفرق بين المستدين والمستقرض؟

العبري: قلنا في المقدمة إنّ الدّيْن أعم من القرض، والقرض أخص، فليس كل مدين مقترضا، ولكن كل مقترض مدينا، فالقرض تمليك الشيء على أن يرد بدله، بينما الدّيْن أعم من ذلك، ولكن يغلب عند الناس ذكر الدّيْن في القرض وهو صحيح، وقد يذكرون القرض في الدّيْن مجازا وهو صحيح أيضا، ولا مشاحة في الاصطلاح، والعبرة بالمضامين لا بالمصطلحات، وإن كان للمصطلح قيمة في العقود.

الوطن: نحن في رمضان البعض يستلف من الناس ويأتي وهو غارق في الدّيْن؟

العبري: السلف أو القرض يبقى على أصله في رمضان وغيره، ورمضان شهر التربية والاقتصاد، لا شهر الترف والسرف، والترف والسرف معصية، ورمضان طاعة، والطاعة لا تجتمع مع معصية، قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين}، فكيف يحبه في شهر التربية والتقوى!!!

والسرف في رمضان يكثر الآن لأسباب منها التنافس في المأكولات والمشروبات، ومنها قرب العيد والسرف فيه خاصة في الذبح واللباس، ومنها عروض التنزيلات في السيارات وغيرها، ومنها السفر مع الكلفة، كل هذا يجعل البعض يقترض لهذه الكماليات مع توفر ذلك عنده بدون سرف، فالقرض هنا مع كراهته قد يزداد كراهة عندما يجتمع مع شهر الخير بلا ضرورة.

ورمضان كما أسلفت يعودنا على الاقتصاد في النفقة، وإعانة بعضنا، لا على الترف واستغلال بعضنا بعضا، وينبغي إعادة فلسفة التعامل مع الصيام والأعياد ونحوها، لتكون ثقافة مجتمعية في الاقتصاد والادخار.

الوطن: هل من طرق للبعد عن الدّيْن؟

العبري: لاشك الطرق تبدأ من الطرفين، الجماعة والأفراد، ولنأتِ من الثاني، وذلك من خلال الموازنة المالية التي يضعها كل فرد حسب الداخل عنده والمخرج، وعدم الاعتماد فقط على الراتب، واستغلال المواهب التي رزقه الله إياها في كسب المعاش، وتنوع مصادر الدخل، وعدم النظر إلى الناس والمقارنة بينهم، كلّ هذا يعطيه الصورة الواضحة، وبالتالي لا يلجأ إلى الدّيْن إلا عن ضرورة، ثم يضع الجدول الزمني للقضاء عليه، وينبغي أن يختار ممن يقترض منه، بحيث لا يكون مؤذيا، ثم ليوثق ذلك ويشهد عليه.

أما الجماعة فينبغي مراعاة الناس، والقضاء على العادات السيئة كالغلاء في المهور وولائم ونفقات الأعراس، ونفقات الأتراح، والمغالاة في بناء البيوت، كما أنه على القانون القضاء على استغلال حاجة الناس في المصارف، والتوازن في الدخل العام للمجتمع، وإيجاد قروض بلا فوائد في السكن مثلا.

كذلك على مؤسسات العمل المدني أن يكون لها الدور في ذلك من خلال الزكوات والصدقات وأعمال البر، في إعانة المحتاج، وتوفير مصادر الدخل للفئة المحتاجة، وفك كربة، ونحوها.

ثم الجانب الإعلامي والقانوني في تثقيف الناس لتكون عادة مجتمعية، وثقافة سائدة لدى الناس.

الوطن: هل هناك وعيد من الله ورسوله للذين يموتون وعليهم دين؟

العبري: الأصل الوفاء بالحقوق، والحقوق قسمان قسم بين العبد والخالق، وقسم بين العبد والمخلوق، أما التي بين العبد والمخلوق فعلى صور منها إذا كان المدين متلاعبا بها، غير مبالٍ بالأمر، فهذا مستهتر بحقوق العباد.

وقسم آخر يحاول إرجاعها، وقد قام بتوثيقها، والإشهاد عليها، إن كانت حالة استأذن أصحابها، وإن كانت آجلة سعى في قضائها.

فالوعيد كما في بعض المرويات أو ما يفهم من الآيات القرآنية في إرجاع الحقوق فيحمل على الأول، الذي لا يبالي بحقوق الناس، وأما الثاني فهو لم يأخذ إلا بقدر حاجته، مع سعيه لقضاء دينه، ولعل من ورثته من يقضي عنه، أو من الدائنين من يعفو عنه، أو من المؤسسات الخيرية من يتولى قضاء ذلك.

وهنا لابد من الوصية، وكتابة الحقوق، وتوثيق الديون، والإشهاد عليها.

الوطن: ما واجب الورثة عندما يدفن الرجل، هل يقوم ويسأل الحضور إذا كان للميت دين فيسدد عنه؟

العبري: الأصل براءة الذمة، ولا تكليف بالسؤال في ذلك، ومن له حق فليثبت بالشهادة والوثائق، وإلا لادعى كل واحد بأن له حق، والورثة غير مطالبين بذلك، إلا ما كتبه في وصيته، فيقدم حقوق العباد، فحقوق رب العباد، فالوصية في الثلث، ثم التركة.

وإن ادعى شخص له الحق فلابد من برهان ووثيقة، وإن أراد ذلك الورثة لابد من موافقة الجميع، وإن تصدق من الورثة عن المتوفى فحسن، وإلا كما أسلفت فالأصل البراءة.

الوطن: كلمة أخيرة؟

العبري: مما نتقدم يتبين لنا أنّ الدّيْن ليس سهلا، واللجوء إليه يكره كثيرا إلا لحاجة أو ضرورة، ولابد من الوصية وكتابة الدّيْن كما بين الله ذلك في كتابه تعالى، وهنا ننبه أنّ الرهن وثيقة، ولا يجوز للمقرض حوزه واستغلاله طيلة الدّيْن، وإنما إن عجز المقترض يباع ويعطى المقرض مقدار حقه، ولا زيادة في ذلك، لا تَظلمون ولا تُظلمون.

السابق
نقد العقل الفقهيّ: الشّريعة أنموذجا
التالي
حوار حول الواقعية الكوسموبوليتية والتنظير الإسلامي اليوتيوبي
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً