لم أرد بهذا المقال التعقيب أو نسبة الخطأ إلى أحد ما، وإنما رأيتُ أنّ هذه النقطة مهمة جدا، لأننا نحن هنا أمام معرفة، والمعرفة تواجه كمعرفة مع نزع شخوصها لكي نكون متواضعين أمامها، ومع هذا أتقبل أي نقد علمي على ما قلت.
بداية العقلانيّة كما أسلفتُ في مقال لي: العقلانيون ورشاد خليفة، ونشر في صفحتي بالفيس لمن أراد الرجوع إليه، هذه العقلانية نسبة معاصرة استخدمت ذما، ولا يوجد تقعيد واضح لها من جميع الأطراف كما سنرى في هذا المقال.
ما المقصود بالعقلانيّة؟
العقلانيّة مذهب فلسفيّ بحت، لا علاقة له بالأديان السّماوية من حيث الإيمان بوحدانية العقل في المعرفة، لأنّ الأديان السّماوية تضيف مصدر الكتب والشرائع كمصدر آخر، وعليه الأصل أنّ العقلانيّة من حيث استقلالية المصدر مذهب متقدم وواضح، لذلك برفض أيّ مصدر آخر تماما.
ثم كانت هناك الفلسفة العقليّة التجريبيّة، أو الماديّة التي ترفض حتى الفلسفات العقلية التّصورية غير المصدقة بالتجربة، وبالتالي شيء طبيعي سترفض الوحي؛ لأنه غير خاضع للتّجربة.
هذه المدرسة سواء العقلانيّة التصورية المطلقة أو العقلانيّة التجريبية تعتبر خارج دائرة من يؤمن بالوحي أو الشرائع، وهي تخضع هذه النصوص للعقل المطلق أو العقل التجريبي.
وبعضهم يفرّق بين العقلانية التصورية العامة وبين التجريبية، فيجعل الأولى مباينة لفهم الثانية، وبعضهم يرى التجريبية من خواص المدرسة الأولى.
ويرجع بعضهم تسمية العقلانية إلى سقراط حيث نسب إليه أنّه يعتقد أنّ على البشر أن يفهموا أنفسهم أولا قبل أن يفهموا العالم، وأنّ التفكير العقلاني هو الطريق الوحيد لتحقيق ذلك.
في حين يرى بعض رواد الفلسفة العربيّة أن سقراط كان موحدا، وبعضهم يراه نبيا لم يذكر في القرآن (يراجع كتاب السيد كمال الحيدري في شرحه لمنطق المظفر، الكتاب ليس قريبا مني للتوثيق).
وفي الحقيقة ظهرت صورة العقلانية متأخرا جدا في القرن التاسع عشر، وركز على علم الاجتماع من خلال تفسيرات ماكس ت 1856م في ألمانيا.
وقبل هذا وجدت تفسيرات وصفت بالعقلانية كتفسيرات اليهودي الهولندي اسبينوزا ت 1677م، والفيلسوف الفرنسي ديكارت ت 1569م والملقب بأبي الفلسفة الحديثة، وأيضا الفيلسوف الألماني ليبنتز ت 1716م.
ولهذا سمي هذا العصر بعصر العقلانيّة الحديث، وسميت حركتهم النّقدية بالعقلانية العابرة للقارات تمييزا عن العقلانية التجريبية التي كانت عامة خصوصا في أوروبا.
وقبل القرن السادس عشر في أوروبا كانت الفلسفة محرمة، وكانت اللاهوتية المسيحية هي السائدة، وما يخالف ذلك يعتبر جريمة تعرض صاحبها للحرق أو الصلب أو قطع الرأس أي الموت، ولذلك تم حرق العديد ممن طالب بإصلاحات في المسيحية ومنهم من طالب بترجمة الكتاب المقدس.
أما حركة المصلح الألماني مارتن لوثر ت 1546 فقد كانت حركة تجديدية داخلة الكنيسة الكاثوليكية، والتي تشكلت بعدها بالكنيسة البروتستانتية أو اللوثرية، وهذه حركة إصلاحية بحتة لا تنكر النص المقدس وإنما تؤمن به بعيدا عن التفسيرات اللاهوتية اللاحقة والتي أصبحت هي المقدس، أو احتكر التفسير البابوات أو اللاهوتيين.
وبين هذين المرحلتين: العقلانية الإغريقية الأولى، والعقلانية القارية كانت هناك فترة هي عقلانية الفلسفة الإسلامية (استخدمت المصطلح هنا لتقريب الصورة)، وهذه العقلانية هي محطة الانطلاق إلى أوروبا وتطويرها، ومن هذه العقلانية عقلانية الفارابي ت 260هـ/ 950م، والشيخ الرئيس ابن سينا ت 427هـ/ 1037م، وابن رشد ت 520 هـ/ 595 هـ، ومن عمان الفيلسوف أبو بكر الكندي النزواني ت 557هـ صاحب الجوهر المقتصر.
وكذلك كانت العقلانية المعتزلية، والعقلانية الزيدية، وكلا المدرستين تبنتا أن العقل مصدرا من المصادر الشّرعية، وهو أول الأدلة، ولسنا هنا بغرض تفصيله، ويرى رشيد الخيون (معاصر) في كتابة عن الاعتزال أنّ هناك مؤشرات أن الحركة الاعتزالية تعود إلى الحركة الإباضية، في حين يراها آخرون مستقلة، وبعضهم ينسبها إلى علي بن أبي طالب ت 40هـ/ 621م، وبعضهم إلى الحسن البصري ت 110هـ/728م، وبالاتفاق أنها بدأت وتطورت من واصل بن عطاء ت 131هـ/ 748م.
أيضا ظهرت العقلانيّة الكلاميّة، والتي توسعت في الاستعمال العقلي في فهم النّص القرآني، نتيجة دخول مدارس روائية نقلت تركة أهل الكتاب في قضايا الغيب، والتي تبناها مدرسة أهل الحديث، فظهرت المشبهة والمجسمة والحرفية كما يسميها خصومهم!
واستخدم علم الكلام آلة المنطق الإغريقي في التعامل مع النّصوص، وأصبح العقل ظاهرا بقوة، وأشهر مدارسة المدرسة الإباضية والزيدية والمعتزلة والماوردية والأشاعرة، على اختلاف بينهم في بعض الجوانب من حيث نقطة القرآن إلى الرواية، ومساحة أعمال العقل بينهما ربطا وتأويلا.
كذلك ظهرت المدرسة الأصوليّة والتي تأثرت أيضا بعلم المنطق الأغريقي، ظهرت تقعيدا مع الإمام الشافعي في الرسالة ت 767/820م، إلا أن ظهوره قبل ذلك، وهنا ظهر الاستدلال العقلي في مباحث كمباحث القياس والأدلة وكما أسلفنا أن المعتزلة والزيدية يضيفون العقل كأول الأدلة!
وعندما نطلق المدرسة الأصولية يأتينا المدرسة الأصولية الإمامية الشيعية وهي المقابلة للمدرسة الأخبارية، وقد قام الشهيد محمد باقر الصدر ت 1980 بتفصيلها في كتابه مباحث في علم أصول الفقه، وفي كتابه بين مدى التقارب وسبب بعد الظهور عند الإمامية، ومن أكبر أسبابه بطبيعة الحال استمرار الرسالة عندهم بوجود الأئمة حتى الغيبة الصغرى.
أما ما يطلق الآن بالمدرسة الأصولية كما في بعض الكتاب العرب، وكذا في كتابات المفكر الفرنسي روجيه غارودي ت 2012، فهذه شيء آخر تماما، لا علاقة بالمدرسة الأصولية الفقهية في المدارس الإسلامية، وليس الآن مجال البحث والحديث عنها.
ثم ظهرت في العصر الحديث وأطلقت على المجددين الكبار جمال الدين الأفغاني ت (1897م) ومحمد عبده ت (1905م)، وما تبعتهما من مدارس تجديدية وإصلاحية ونقدية.
من خلال ما تقدّم ندرك أن العقلانية (توسعا في المصلح) كانت وفق التالي:
– العقلانيّة الأعريقية التصورية.
– العقلانية التجريبية.
– العقلانية القارية.
– العقلانية الاجتماعية.
– العقلانية الإصلاحية المسيحية.
– العقلانية الإصلاحية الإسلامية.
– عقلانية الفلسفة الإسلامية الأولى.
– عقلانية الفلسفة الإسلامية الثانية (أركون ت 2010، محمد عابد الجابري ت 2010).
– العقلانية المعتزلية.
– عقلانية علم الكلام الإسلامي.
– العقلانية الأصولية (علم أصول الفقه).
سنجد هذه المدارس جميعا إذا أتينا بالمفهوم الأول للعقلانيّة وهو عدم الإيمان بشيء غير العقل سنخرجها جميعا عدا الفلسفات التي لا تؤمن بالوحي رأسا، بأي شكل من الأشكال، وإذا اشترطنا التجريبية سنخرج جميعها عدا العقلانية التجريبية.
والآن نأتِ إلى سلطنة عمان، حيث ظهر إطلاق هذا اللقب عام 2007م (ينظر كتاب العقل لسماحة المفتي الشيح أحمد الخليلي ومحاضرته في جامعة السلطان قابوس)، حيث أطلق على جماعة معروفة.
والآن لنأت إلى هذه الجماعة سنجدها تؤمن بالوحي القرآني، والتطبيق العملي، ولا تعارض الرواية الآحاد إذا لم تخالف القرآن والعقل وسنن الكون والعلم (ينظر كتاب السنة الوحي والحكمة لخميس العدوي وزكريا المحرمي وخالد الوهيبي) (وينظر كتاب الصلاة لخالد الوهيبي)، كذلك لا يرون المعرفة فقط تتوقف عند التجربة.
فإذا هؤلاء خرجوا من أصل المصطلح العقلاني الذي لا يؤمن إلا بالعقل أو التجربة، فهم يؤمنون بالوحي القرآني مثلا!!!
سنجد في الحقيقة أكبر أمر لإطلاقه وهو موقفهم من الرواية (السنة)، وهذا ليس جديدا لأن ابن فورك ت 406هـ يصف المذاهب المبتدعة (أي غير مذهب أهل الحديث) كالإباضية والمعتزلة والزيدية بالمذاهب المنكرة للسنة يقول: [وهذه المقدّمة تكشف لك عن جهالة المبتدعة في اعتراضهم أهل النّقل من أصحابنا في نقل مثل هذه الأخبار، وتوضح لك أنّ قوة هذه المقالة تجرّ القائل به، والقائد له إلى إبطال الكتاب بمثل ما بطل به السّنة …]، فهم مبطلون للسنة وفي طريقهم لإبطال القرآن، (ينظر: كتاب بيان مشكل الأحاديث لابن فورك ص 51).
وعليه مفهوم إنكار السنة قديم استخدمه أهل الحديث ضد خصومهم أولا، وثانيا مفهوم ضبابي جدا وذلك لأنّ السنة التي يوصم منكرها بالعقلانية، هل هي الخط العملي للعبادات، أم الجانب الروائي، أم كتب الحديث، أم مناهج المحدثين؟!!!
فإذا جئنا إلى الخط العملي سنجد الجميع يمارس نفس العبادات، ولا يوجد ممن اتهم بالعقلانية لا يمارسها، حتى المغالين في حرفية القرآن!!!
وإذا جئنا إلى الجانب الروائي فكل عالم منفردا يقبل هذه الرواية ويرفض غيرها مما يقبلها الآخر، وعلى هذا جميع العلماء قديما وحديثا عقلانيون!!!
وإذا جئنا إلى كتب المحدثين أو الحديث فالسنة غالبا يرفضون مسند الربيع عند الإباضية، وكذا مجموع الإمام زيد، وكذا مصادر الحديث الأربعة عند الشيعة الإمامية، وكذا الإمامية أيضا يرفضون مصادر غيرهم من العامة، والإباضية لا يستندون إلى مصادر الشيعة أيضا، وعليه تكون جميع المدارس الإسلامية بمجموعها فضلا عن أفرادها عقلانية!!!
وكذا الحال في المنهج، فكل مذهب له منهج يرفض كليا المنهج الآخر أو بعض فروعه وأجزاءه، وعليه من حق الجميع أن يوصم بالعقلانية!!!
وعلية لا علاقة أساسا بين إنكار السنة والرواية من جهة، والعقلانية من جهة أخرى، وكذلك إذا جئنا في معنى وتحديد مفهوم تقديم العقل أو إعماله، سنراهم أنفسهم يمارسونه ولو لم ينطقوا به كمبدأ.
وعليه عندما نقرأ الكتب الثلاثة: العقل لسماحة المفتي، والعقلانيّة لعبد الملك السيابي، والحقيقة الدامغة لسماحة المفتي أيضا، لا نجد تعريفا للعقلانية واضحا، وعليه نجد ذكر مظاهر وآراء ذكروها أو نسبت إليهم، ولكن لا نجد التقعيد العلمي المنهجي للمصطلح الذي نسبوه هم إليهم، لنستطيع أن نحاكم المصطلح وندخله في المختبر الذهني.
وكذا الحال في الجهة الأخرى ما كتبه علي الرواحي للعقلانيّة والأصولية، فهو في الحقيقة استخدم المفردات الغربية للعقلانية والأصولية وأسقطها على واقع آخر، من هنا كانت الضبابية في الحكم أيضا.
الخلاصة:
قد ينتظر القارئ الكريم بعد هذا التطواف الجواب على السؤال، وفي الحقيقة من حيث أصل مصطلح العقلانية وهو إنكار عدا مصدرية العقل أو التجربة لا وجود له في سلطنة عمان، كان عند الإباضية أو السنة بمدارسهم أو الشيعة، بل حتى عند الاتجاهات اللبرالية والحداثية في الجملة في المنطلقات العامة.
أما من حيث المدارس الأخرى فهذا يعتمد على تقعيد المصطلح أولا، وهذا ما ننتظره من الأخوة الذي أطلقوه، لأنه كما عند المناطقة لكل مصطلح تعريف، ولكل تعريف حد، فإذا ارتفع الحد أصبح التعريف ضبابيا، وهو ما يطلقون عليه الجامع المانع، وإذا صار التعريف ضبابيا صار المصلح عائما لا قيمة له إلا تصفية الحسابات أو إقصاء الآخر أو اتهامه، أو التمدح بشيء غير واقع، أو نسبة إلى شيء وتكون النسبة ليست سليمة، والله الموفق.
فيسبوك 1436هـ/ 2016م