مع أهميّة مؤسسات العمل المدنيّ في تنمية المواطنة بشكل خاص، وفي الشّراك المجتمعيّ بشكل عام، إلا أنّ الالتفات إلى هذا الجانب في مجتمعاتنا لا يزال ليس بذات القوّة من حيث التّحليل والنّقد، وطرح الرّؤى، وتجاذب الحديث حوله، ليس على مستوى المحاضرات والنّدوات فحسب؛ بل كمشروع بحثي له بعده الزّمانيّ والمكانيّ، وليس على مستوى الوصف والإطراء؛ بل يدخل فيه النّقد والتّصحيح والتّوجيه.
ومن الكتب المهمة في هذا كتاب المجتمع المدنيّ دراسة نقديّة للدّكتور عزمي بشارة، والصّادر عن مركز دراسات الوحدة العربيّة 1998م، ومع هذا توجد بعض الكتب في جوانب من هذا ما بين الشّموليّ والمتخصص، ككتاب كالمجتمع المدنيّ وهويّة الاختلاف لجاد الكريم الجباعيّ، والمجتمع المدنيّ في العالم الإسلاميّ تحقيق أمين صاجو، والمجتمع والدّولة في الخليج والجزيرة العربيّة من منظور مختلف للدّكتور خلدون حسن النّقيب.
ومن الدّراسات الإحصائيّة في المجتمع العمانيّ ما صدر عن جامعة السّلطان قابوس مايو 2007م بعنوان: دراسات تطبيقيّة في الاجتماع والعمل الاجتماعيّ على المجتمع العمانيّ، والّذي يهمنا في هذا المقال دراسة الأستاذة شمسة بنت حمد الحارثيّة بعنوان: المجتمع المدنيّ العمانيّ: مفاهيم وتحليل إداري للجمعيات الأهليّة، والّذي صدر سنة حسب الإيداع 2012م بلا دار نشر، ويقع في ستة وستين صفحة من الحجم العاديّ في ستة فصول.
وقد ذكرت الباحثة أنّ سبب دفعها لكتابة الكتاب هو [ما لمسته وعشته من خلط وضبابيّة في فهم طبيعة ودور المجتمع المدنيّ من قبل المجتمع، وأهم من ذلك كلّه من هم في هذه المؤسسات، ولا أبالغ إذ قلت عدم إلمام الكثير من هذه المؤسسات بأبجديات إدارة وتسيير هذه المؤسسات، ناهيك عن الصّعوبات الّتي تتكبلها الجهة الإشرافيّة في التّعامل مع قطاع منقسم بين المطالبة بتقليل أو زيادة الدّور الإشرافيّ للحكومة على هذه المؤسسات، وبالتّالي اتساع الفجوة بينها وبين الجهة الإشرافيّة].
وترى أنّ مؤسسات المجتمع المدنيّ ترجع بالمفهوم الحديث إلى القرن الثّامن عشر الميلادي، بيد أنّ هذه المؤسسات لم تخرج عن الإطار الخيريّ، ولم تشهد تنوعا إلا مع بدايات القرن العشرين بعد الأزمة الاقتصاديّة عام 1929م، بيد أنّ عزمي بشارة في كتابه المجتمع المدنيّ يرى هناك تقاطع بين محور التّطور التّأريخيّ للمجتمع المدنيّ وبين تأريخ النّظريّة ذاتها، لهذا يعود المصطلح في أوربا في القرن السّابع عشر الميلاديّ، ولهذا [بدأت عودة المجتمع المدنيّ الحاليّة إلى الملأ كمفهوم، وكأداة تحليليّة ومعياريّة في الثّمانينات، في تعامل النّظريّة السّياسيّة مع السّياق البولنديّ بشكل خاص، والأوربيّ الشّرقيّ بشكل عام]، وعليه يرى بشارة [معاصر] أنّ البعد الأيدلوجيّ سوف يؤثر في مفهوم المجتمع المدنيّ عند اللّبراليّ، والاشتراكيّ الوطنيّ، والدّيمقراطيّ الرّديكاليّ، والإسلاميّ.
وفي نظري صعوبة تحديد التّأريخ يعود إلى تقاطع التّشكل المجتمعيّ والتّطوع والشّراك، سواء تحت ظلّ الوطن أو القبيلة أو الدّين، ومن ثمّ ظهور فلسفة الدّولة والقانون، إلى فصل السّياسة عن المجتمع، ومدى التّقاطع بينهما، وأخيرا قضيّة المصطلح ذاته وأبعاده، كلّ هذا يؤثر في مصاديق المصطلح وإسقاطاته، فضلا عن تحديد تأريخه، ولو كمصطلح، ولهذا يرى محمد أركون [معاصر] أنّ [المجتمع المدنيّ أحد تلك المفاهيم العصريّة الّتي هي موضع جدل متواصل في المجتمعات المعاصرة].
ولهذا نجد الباحثة الحارثيّة ترى أنّ مصطلح المجتمع المدنيّ عرّف لأول مرة في الفكر اليونانيّ القديم كما عند أرسطوطاليس [ت 322 ق م] باعتباره مجموعة سياسيّة تخضع للقوانين، وهي بهذا توافق عزمي بشارة في الجملة أنّ هذا المصطلح [مصطلح غربيّ ظهر في الفكر اليونانيّ القديم، ثمّ عاد للظّهور في الفكر الأوربيّ خلال النّصف الثّانيّ من القرن الثّامن عشر، بسبب تحوّل أوربا الغربيّة الاستبداديّة إلى الدّيمقراطيّة البرجوازيّة].
وبعد استعراض الباحثة للنّشأة والتّعريفات السّابقة والمعاصرة تخلص إلى تعريف خاص لها وهو أنّ المجتمع المدنيّ هو [عبارة عن مؤسسات أو تنظيمات أهليّة، أو مبادرات نابعة من إرادة حرّة من مجموعة أشخاص تربطهم اهتمامات مشتركة بهدف المساهمة في العمليّة التّنمويّة في شتى المجالات العلميّة والثّقافيّة والاجتماعيّة، وتعزيز دور المواطنة في المشاركة العامّة، تتصف بالاستمراريّة والاستقلاليّة عن الحكومة، ولا تسعى للّربح الماديّ].
والملحظ في هذا التّعريف أنّه أقرب إلى الجانب الخدميّ والتّطوعيّ من حيث الشّراك بين الشّعب والحكومة، ولهذا قيّدت الباحثة ذلك بالتّوجه الإيدلوجيّ والنّظام السّياسيّ، حيث [أنّ بعض البلدان تضمّ الأحزاب السّياسيّة ضمن مؤسسات المجتمع المدنيّ، بينما تجتز أخرى العمل السّياسيّ عن العمل الأهليّ، على اعتبار أنّ العمل السّياسيّ يهدف في المقام الأول للقيام بالدّور الحكوميّ، والّذي يختلف بدوره عن العمل الأهليّ]، لهذا في نظري تكمن هنا الضّبابيّة في فهم مؤسسات العمل المدنيّ وفي التّطبيق، ممّا يسقط ازدواجيّة بين المفاهيم المعاصرة والتّطبيقات المجتمعيّة، لما في الشّراك السّياسيّ والتّشريعيّ من حساسيّة في العديد من مناطق العالم العربيّ، ولهذا عندما نتحدث عادة عن مؤسسات العمل المدنيّ فنحن نسقط ذلك على العمل الأهليّ والتّطوعيّ بشكل خاص.
وبالنّسبة لظهور العمل الأهلي المدنيّ في سلطنة عمان فترجع الباحثة ذلك إلى عام 1972م عندما تأطر بأطر قانونيّة لمزاولة النّشاط، بيد أنّ [مؤسسات المجتمع المدنيّ لم تظهر بصورتها الرّسميّة إلا ما بعد السّبعينات] من القرن العشرين، [حيث تم إشهار أول جمعيّة متخصصة للأطفال المعوّقين 1994م].
وأشارت الباحثة إلى الجدل بين الباحثين العمانيين حول أسبقيّة مؤسسة العمل المدنيّ الأهلي، فيرجع فريق الأسبقيّة إلى الجمعيّة التّأريخيّة العمانيّة، بينما يرى آخر الأسبقيّة لجمعيّة المرأة العمانيّة بمسقط، إلا أنّ الباحث أحمد الفلاحيّ [معاصر] كما في محاضرة له بجمعيّة الكتّاب والأدباء تنظيم لجنة الفكر يرى أنّ الأسبقيّة للأندية الرّياضيّة، وهذه الأندية بدأت محليّة بمبادرات من النّاس أنفسهم، ولكن أيضا بدعم مباشر من قِبَل الحكومة، والحارثيّة والفلاحيّ يتفقان عن أنّ العمل المدنيّ في صورته الأهليّة قديمة جدّا في التّأريخ العمانيّ.
ومن العمل الأهلي فمؤسسات العمل المدنيّ تشير الباحثة إلى صدور النّظام الأساسيّ للدّولة في 6 نوفمبر 1996م، وهو تطور في تقنين هذا الشّراك المجتمعيّ في سلطنة عمان حيث تنص المادّة (33) إلى [حريّة تكوين الجمعيات على أسس وطنيّة، ولأهداف مشروعة، وبوسائل سلميّة، وبما لا يتعارض مع نصوص وأهداف هذا النّظام الأساسيّ، مكفولة وفقا للشّروط والأوضاع الّتي يبينها القانون، ويحظر إنشاء جمعيات يكون نشاطها معاديّا لنظام المجتمع، أو سريّا، أو ذا طابع عسكريّ].
وبعد صدور النّظام الأساسيّ للدّولة والّذي عدّل في بعض بنوده 2018م، كان صدور قانون الجمعيّات الأهليّة عام 2000م، ومن ثمّ ظهور لجان عماليّة واتحاد عامّ للعمال من خلال قانون العمل العمانيّ 2003م، وأخيرا جائزة السّلطان قابوس للعمل التّطوعيّ.
وعموما ركزت الباحثة لاحقا على نماذج من العمل الأهليّ، ومع كوّن الدّراسة وصفيّة وليست نقديّة، إلا أنّها أعطت صورة عامّة عن مؤسسات العمل المجمعيّ والأهليّ في السّلطنة، ومع هذا الحراك المجتمعيّ في هذا الجانب يمشي ببطئ شديد مع أهميته المجتمعيّة، خاصّة في الفترة الرّاهنة، بيد أنّ نشاط العمل المجتمعيّ يساهم بشكل كبير في رفع مستوى التّنميّة، والتّخلص من الأنا، وتحقيق الشّراك، حيث توجد حلقة بين الشّعوب وحكوماتهم من جهة، وبين مؤسسات العمل الرّسميّ ومؤسسات العمل المدنيّ من جهة أخرى.
مجلّة التّكوين، عدد (35)، ذو الحجة 1439هـ/ سبتمبر 2018م، ص: 48 – 49.