المقالات النقدية

الطّفل ريان والنّزعة الإنسانيّة

جريدة عُمان 1443هـ/ 2022م

حادثة (ريان) حادثة تتكرر وفي صور مختلفة، متباينة في أسبابها وآثارها، تستلهم العواطف حينا ثمّ تنطفئ، حتّى تأتي حادثة غيرها، وفي صورة ومناسبة أخرى، وهنا ابتداء لا أريد الحديث عن هذه الحادثة، حيث لا أفقه مسبباتها، مع تضامني وعزائي لأسرته وأقاربه وأهالي قريته والأحبّة في المملكة المغربيّة، والمجتمع العربيّ والإنسانيّ ككل؛ لأنّه من روح هذا العالم الأكبر بإنسانيّته الماهيّة، وبشريّته الماديّة.

الّذي أريد قوله هناك المئات والآلاف ممّن يشبهون (ريان) في طفولتهم البريئة، وإنسانيّتهم الفطريّة، وممّن يفارقون حياتهم بسبب المجاعات والأمراض والفقر والتّشريد والحروب، وهناك من تشوّهت أجسادهم بسبب الحروب، ومن يعانون شدّة الشّتاء، وآثار الطّبيعة وقسوتها.

وهناك أطفال يفتقدون لأدنى درجات العدالة الاجتماعيّة، لا ذنب لهم إلا أنّهم لم يولدوا في دولة قطريّة غنيّة، أو في أسر مترفة، وهناك من يحرم حقّ الطّفولة في اللّعب والاستمتاع بهذه المرحلة، ليعمل في المصانع والأسواق لأجل بقاء الحياة وإعانة أسرته الصّغيرة، وهناك من يحرم حقّ التّعليم والصّحة والعلاج.

وهناك من سيعاني اجتماعيّا بسبب النّظرة الدّونيّة إما للون، أو لأنّه ولد بطريقة غير شرعيّة لا ذنب له فيها، أو ولد في أسرة ليست ذات غنى أو رياسة، ليواجه ظلما وتمييزا أكبر يعاني منه طيلة حياته.

لقد زرتُ يوما ما في أحد دول عالمنا العربي مخيّما للمشردين، ووجدت من المشردين وأطفالهم لا يتوفر لديهم حتّى مكان قضاء حوائجهم الخاصّة، فيتغطوّن بقدر بسيط من اللّباس وأمام المارة، وزرت مخيّما آخر ويلتحفون (بالكراتين)، ويجعلونها بيوتا لهم.

هناك مآسي كثيرة، ونماذج أشدّ وأوجع من حادثتنا هذه، وقد تكون هذه الحادثة أقرب إلى تكرارها الطّبيعيّ، ولكن هناك حوادث يصنعها الإنسان نفسه بلا رحمة ولا شفقة، وكأنّ حمزة هنا لا بواكي له.

إنّ هذه الحادثة أحيت الضّمير الإنسانيّ الواحد، المتجاوز للفروقات الأثنيّة والعرقيّة والقطريّة والدّينيّة، في زمن يعيش العالم فيه مفتوحا على بعضه، ويملك إعلامه بذاته، دون توجيه سياسيّ ولا ثقافيّ، ولا ينتظر فتوى دينيّة، أو إجازة علْويّة مشيخيّة.

هذا الضّمير الإنسانيّ الواحد، والنّزعة الإنسانيّة الواحدة؛ لا ينبغي أن تتوقف عند عواطف الحوادث كعادتنا؛ بل يجب أن يتحوّل إلى مشروع عمليّ يخرج من الخط الأفقيّ في المجتمع العربيّ لمّا نتحدّث عن هذا الجزء من الأرض، والّذي يشترك مع مجموعه الإنسانيّ الأوسع.

قبل فترة بسيطة طلب مني الأخوة في اليمن الشّقيق أن أشارك بمقالة افتتاحيّة في موقعهم المعرفيّ الجديد “حكمة يمانيّة”، وممّا قلته فيه إنّ “الدّول القطريّة لا تعوق نهضة الإنسان العربيّ، ولكن عندما تتحوّل هذه الدّول إلى عنصر استبداد في داخلها قبل خارجها، وترى أنّ نهضتها محصورة بين حدودها، وتتغافل عن الهوّيّة الأوسع من هوّيّة الدّولة القطريّة؛ هنا تخسر قدرات وكفاءات ومواهب تساهم بشكل كبير في استقرار وأمن ونهضة المنطقة ككل؛ لأنّ استقرار ونهضة أيّ قطر عربيّ يعني استقرار دول المنطقة ككل، بل استقرار العالم الإنساني الأوسع، علينا ابتداء أن نتحرر من لغة المنفعة القطريّة، ومن عقليّة التّوسع واستغلال حاجات الآخر، بل وتدميره مقابل انتصارات وهميّة، فتكون لغة الإحياء والبناء واستثمار الإنسان العربيّ ككل محور هذه الدّول القطريّة، فتكون الإنطلاقة من الإنسان العربيّ الواحد إلى الإنسان العربيّ المنتمي إلى دولة قطريّة وليس العكس، لأنّ الماهيّة أصل الهوّيّة، والهوّيّة الأوسع تسبق الهوّيّة الأقل منها درجة بقدر ما تقترب من الإنسان ذاته”.

فمشكلتنا الكبرى في العالم العربيّ أننا نحتاج إلى تحرر من النّفعيّة أولا، ومن ربط الدّولة القطريّة بالنّفعيّة، ولمّا أتحدّث عن العالم العربيّ لا أتحدّث تعصبّا فأنا مؤمن بالإنسانيّة المطلقة، ولكننا أيضا أمّة جزئيّة كأيّ أمّة جزئيّة أخرى من أمّة الإنسان الواحدة، لا يمكن لهذه الأمّة أن تتقدّم بدولها القطريّة المتفرقة، دون الالتفاتة إلى هذه الأمّة الجزئيّة الواحدة، وإلا خسرنا طاقات ومواهب وتعدديّة وإبداعات بشريّة ومعادن طبيعيّة مودعة في هذا الجزء من العالم، كما نزرع بذلك فقرا وتطرفا وبلاء يعمّ جميع الدّول القطريّة ككل، وإن تصوّرت نفسها اليوم في مأمن يقيها هذا الخطر.

لهذا فيما يتعلق بموضوعنا المرتبط بالطّفولة خصوصا؛ لابدّ ابتداء أن نتخلّص من النّفعيّة، كانت هذه النّفعيّة سياسية قطريّة أم دينيّة أم تبشيريّة مذهبيّة، فتكون الغاية هو الإنسان ذاته، وليس لهدف تمدد سياسيّ أو تبشير دينيّ ومذهبيّ، فيصبح الإنسان سلعة ماديّة لا قيمة له، وتكون الغاية بمقدار هذه المصلحة، فتتسع إذا اتّسعت، وتضيق إذا ضاقت، وليتها تتسع؛ بل نجدها كثيرا ما ترتفع أصلا، فتضيع أموال في الملاهي والحروب والتّبشير  ليستفيد منها فئة مترفة، في حين يعيش الآلاف في الفقر والتّشريد والجوع والمرض والجهل.

لهذا – في نظري – علينا أن نخرج من لغة المنفعة إلى لغة الإحياء، وهي لفظة دقيقة جدّا استخدمها القرآن الكريم في قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة/ 32]، فأسند القتل والفساد إلى نفس منكَرة لتشمل أيّ نفس خرجت إلى هذه الحياة، أيّا كان جنسها وقطرها ودينها ولغتها وتوجهها، وعطف على إسناد الحياة إلى النّفس ذاتها، واعتبر أنّ قتل هذه النّفس بأيّ صورة كانت عن طريق إزهاق روح أو فساد بتجهيلها أو حرمانها من حرّيّتها أو ضروريّاتها المعيشيّة، والاستبداد عليها، وإيذائها، ومنعها من حقّ الحياة والعدل في التّمتع من خيرات الطّبيعة؛ كلّ ذلك قتل للنّفس البشريّة جمعاء؛ لأنّ الجنس البشريّ واحد، والعكس صحيح فيما يتعلق بالإحياء، فإحياء أيّ نفس حفاظا على روحها، مع تعليمها والحفاظ على صحتها، وتحقيقا لكرامتها الإنسانيّة والمعيشيّة؛ هو إحياء للجنس البشريّ ككل.

إلا أنّ هذا الإحياء أيضا مرتبط بالشّموليّة من جهة، والاستقلاليّة من جهة ثانية، أمّا الشّموليّة فيعني أنّه يشمل أيّ نفس كانت، وهذا لا يتحقق إلا إذا ارتبط العقل الجمعي بالنّزعة الإنسانيّة المودعة فيه، ليتخلّص من لغة الذّات والأنا والحسد والكبر والعجب إلى لغة الإنسان والتّعدد والتّعايش والإحياء والرّحمة والمحبّة والبناء، فيكون الآخر المختلف عنّي جنسا ولونا ولغة ودينا ومذهبا وانتسابا قطريّا هو أنا ذاتي، لا افترق عنه ماهيّة، ولا أفارقه نفسا، ولا أتمايز عنه إنسانيّة، فكلانا ذات واحدة منصهرة في هذا الوجود الأكبر، الّذي أودع الله فيه رحمته من معادن ومنافع تسعنا جميعا لولا غرورنا وكبرياؤنا وصراعاتنا الوهميّة باسم الغيب ذاته أحيانا، وباسم أطماعنا وجشعنا في أحيان كثيرة أيضا.

وبما أنّ العالم اليوم تشكل في دولة قطريّة، هذه دول تنظيميّة لا أكثر، لا ينبغي أن تنطلق من الجزء الأصغر أي الأنا، لتدخل في صراع مع الآخر، بل تنطلق من العالم الأكبر، أي عالم الإنسان، بمعناه الأوسع أيّ أمّة الجنس البشريّ، أو بمعناه القوميّ والهوّيّاتيّ، حتّى لا تكون رهينة النّفعيّة كما ترى بذلك سويدا معاني يوبنغ [محامية متخصّصة في القانون الدّوليّ في أمريكا، وناشطة حقوقيّة]: “والسّؤال: ما الحل بدل النّفعيّة؟ الحل وجود منهج عالميّ جديد مبني على تأسيس مبادئ مشتركة للعلاقات الدّوليّة، أي تحت مسمّى الأخلاقيّات العالميّة المشتركة، وأهم هذه المبادئ وحدة الشّعوب والدّول، وهذا ينبني أنّ منفعة الجزء (الدّولة) لا يتحقق إلا بمنفعة الكل (جميع الدّول)، وينبني أيضا أنّ الوطنيّة غير المقيدة أصبحت من الماضي، أي الوطنية القائمة على مصلحة دولة معينة بعيدا عن مصلحة الدّول الأخرى، ويتضح هذا مثلا من التّوزيع غير العادل للثّروات الطّبيعيّة، فنجد من الدّول الّتي تملك هذه الثّروات تمنع الدّول الأخرى من الاستفادة لكونها تملك الموقع الجغرافيّ، وهذا يعني لابدّ من تحقيق المساواة والعدالة المتمثلة في حكومة وطنيّة عالميّة عليها أن تجعل جميع الشّعوب والدّول تستفيد من هذه الثّروات ….. همّها مصلحة العالم أجمع بعيدا عن الأحادية” [مقتبس من الرّحلة التّكساسيّة لكاتب المقال، صحيفة شؤون عمانيّة].

وأمّا استقلاليته فكثيرا ما يتصرّف السّياسيون تصرّفا نفعيّا، يجر العالم إلى ويلات الدّمار والحروب والمجاعات والطّيش، كما يماثلهم النّفعيون من رجال الدّين والثّقافة، حيث يؤيدون العديد من الممارسات السّلبيّة لنفعيّة دينيّة أو مذهبيّة أو قطريّة أو ثقافيّة هوّيّاتيّة، أو حتّى شخصيّة ذاتيّة، فهنا كما يجب أن يتحرر السّياسيّ من النّفعيّة؛ فكذلك على المثقف بمفهومه الشّموليّ أو الدّينيّ أن يتحرر كذلك، وكما أنّه يجب أن تسود النّزعة الإنسانيّة في الخط الجمعيّ الأفقيّ؛ فهي ضرورة ابتداء أن تسود في الخط الرّأسي، وفي عقل من له ارتباط بتوجيه الأمم والشّعوب، هذه النّزعة الإنسانيّة المستقلة هي الأصل المنطلق منها لتوجيه مثل هذه السّياسات والخطابات الخاطئة، لا أن تكون ذاتها مشاركة لهذه النّزعات السّلبيّة، أو تكون رهينة نفعيّة قاصرة يسوسها كما يقول الفرزدق [ت 110هـ]ٍ:

تَرَى النّاسَ ما سِرْنا يَسِيرُونَ خَلفَنا      وَإنْ نَحنُ أوْمأنا إلى النّاسِ وَقّفُوا!

إنّ العالم العربيّ لم يعد يتحمل هذا الإهمال لطاقاته وإبداعاته، وهذا الصّراع الّذي أرجعه كثيرا إلى الخلف، وأهمل أغنى بقعة في الأرض من حيث المعادن والتّعدد البشريّ والثّقافيّ والهوّيّاتيّ، ليدخل في صراع سياسيّ، وتطرف دينيّ ومذهبيّ، فآن للعقل أن يستقل قليلا، ويرفع من نزعته الإنسانيّة الإحيائيّة الواحدة، ليتمتع جميع أطفال وأبناء المنطقة بمساواة وعدالة كغيرهم من البشر، حتّى لا نفقد ألف ريان آخر، وفقده من حيث تجهيله وقتل إبداعه وحرمانه من طفولته وإنسانيّته أشدّ ظلما ووقعا من موته وفراقه وذهابه من عالمنا هذا إلى العدل المطلق!!

السابق
الحداثة وإحياء الإنسان العربيّ
التالي
معرض الكتاب وحضور الكتاب النّقديّ العمانيّ
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً