الحياة في جوهرها مبنيّة على الكدح والعمل وطلب العيش، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك/ 15]، لهذا علاقة الإنسان بالطّبيعة علاقة نفعيّة مسخرة ومذللة له ليعيش فيها، ويكسب منها رزقه، ويعمّرها صلاحا وبناء.
بيد أنّ الفرد من المجموع البشريّ قاصر أن يقوم بذلك عن باقي أفراد المجتمع، لهذا كان كلّ فرد مسخرا للآخر في التّعامل مع الطّبيعة وكسب العيش: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزّخرف/ 32].
ومع تطور علاقة الإنسان بالبيئة، وكشف ما أودع الله تعالى فيها ظهرت أنماط مختلفة في تسخيرها من الرّعي بالنّسبة للحيوانات، والسّقي للمياه، والحرث للأرض والزّراعة، والتّجارة لتبادل المنفعة، والبناء للتّعمير، وهكذا إلى الصّناعة ونحوها، وهذا قائم على الشّراكة بين أفراد المجتمع في جلب المنفعة للجميع، وهكذا منذ بدايات الحضارة الأولى ظهرت أنظمة جديدة للّدواوين والكتابة والنّسخ والجند والقضاء والوزارة ونحوها، ممّا انتقل الجانب النّفعيّ من المفهوم التّبادليّ والشّراكيّ في مفهومه البسيط إلى مفهوم أكثر تعددية وتعقيدا، ولكنّه ارتبط كثيرا بقرارات الحاكم ووزارته من حيث التّعيين والصّرف أي الأجور.
وفي المنتصف الثّاني من القرن التّاسع عشر الميلاديّ، ومع ظهور الثّورة الصّناعية أو التّكلنوجيّة، والّتي فتحت آلاف فرص العمل للنّاس، وكانت تزامنا مع نشوء فلسفة الدّولة المدنيّة القائمة على القانون العادل بين الجميع من حيث الكفاءة وتوزيع فرص العمل، ومن حيث الأجور والحقوق والواجبات المشتركة بين الطّرفين، وأصبحت ليست محصورة في جهات معينة بل توسعت بشكل كبير جدا.
وازداد الأمر تعقيدا مع ظهور الشّركات والهيئات الإداريّة والوظيفيّة، وعليه انتقل الأمر إلى الجانب التّعاقديّ، وما يتبعه من حقوق بين الطّرفين، الأفراد والمؤسسات، وعليه ظهرت المحاكم الإداريّة والقوانين المنظمة لها بشكل أكثر تعقيدا من السّابق.
ولهذا ظهر اليوم ما يسمى بالرّضا الوظيفيّ، وهو في حقيقته مرتبط بالنّتائج القائمة على الكفاءة والعدل الوظيفيّ، إذا ارتفعت المحسوبيّة والأنا القبليّ والعشائريّ والتّقريب المصالحيّ فإننا نقترب بهذا أكثر من الرّضا الوظيفيّ!!!
ولنأت بداية إلى مصداق الكفاءة؛ لأنّ تحقيق هذا المصداق يلزمه تحقق مصداق العدل، وتحقق المصداقين يؤدي إلى تحقق النّتيجة الكليّة وهي الرّضا الوظيفيّ، وما ينتج عنها من استقرار أمنيّ بشكل عام، ولهذا عطف سبحانه في سورة قريش الأمن على الإطعام {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش/ 4].
أمّا مصداق الكفاءة فالمراد به الكفاءة الوظيفيّة المرتبطة بذات الفرد، بغض النّظر عن نسبه أو لونه أو وجاهته؛ ولهذا لا معنى مثلا لرواية: الأحرار من أهل التّوحيد كلّهم أكفاء إلا أربعة: المولى، والحجَّام، والنسَّاج، والبقَّال [الرّبيع بن حبيب في الجامع الصّحيح] ورواية: العرب بعضهم أكفاء بعض، والموالي بعضهم أكفاء بعض، إلا حالك أو حجّام [الحاكم في المستدرك]، فهذه الرّوايات أقلّ ما يقال فيها أنّها ظرفيّة محكومة بأصل ذات الإنسان، وأصل ذات الإنسان واحدة، وهذا ما نصّ عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات/ 13].
فلو نزلنا إلى المهن مثلا سنجدها مرتبطة بقدرات النّاس ورغباتهم، فهذا عنده القوة البدنيّة، وذاك لديه القوّة العقليّة، وآخر عنده القوّة الشّعوريّة والمعرفيّة، وفي هذا تسخير من الله ليبني العباد هذه الأرض، ويستعمرونها صلاحا ليخدموا بعضهم كما يقول الشّاعر:
النّاس للنّاس من بدو وحاضرة …. بعض لبعض وإن لم يشعروا خدمُ
فالكفاءة في الوظيفة ترتبط بالمصداق الثّاني وهو العدل، وعليه أصل التّوظيف قائم على كفاءة الإنسان لهذه الوظيفة، إمّا بالشّهادة أو الخبرة أو الاختبار أو السّبر والسّيرة الذّاتيّة، وكذا الحال في التّرقيّ في درجات الوظيفة، وفي تكريمه الوظيفيّ، أمّا إذا ارتبط بمصالح فئويّة، أو محسوبات شخصيّة؛ فهنا يحلّ الظّلم محلّ العدل، ولا يجتمع بحال الرّضا مع الظّلم، فالضّدان لا يجتمعان في وقت معا!!
وكما يطالب الموظف بالواجبات، فهو من حقه أن يطالب بالحقوق، وكما أنّ الواجب إلزام ابتدائيّ، فالحقوق نتيجة غائيّة، والأول قائم على العدل في الوفاء بالعقود القائمة على الرّضا الأوليّ، والثّاني قائم أيضا على العدل من تحقيق الواجب.
وبما أننا نعيش دولة المؤسسات، والمؤسسات قائمة على القانون؛ فالقانون أيضا كما أنّه يحمي المؤسسة والمجتمع من جهة؛ هو يحمي الموظف من جهة أخرى، لهذا لزم أن يكون القانون عادلا في تقنينه وإنزاله، {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص/ 26].
فنخلص ممّا سبق أنّ الرّضا الوظيفيّ قائم في أصله على مصداقي الكفاءة والعدل من حيث الابتداء والغاية، إلا أنّه ما بينهما كذلك ينبني عليهما من حيث التّكريم والتّدرج الوظيفيّ والشّراك في المؤسسة والتّعليم والتّدريب.
ولنأت الآن إلى الأثر النّفعيّ من تحقق الرّضا الوظيفيّ وهو تحقق الإنتاج بصورة أسرع وأعمق، وفي الوقت نفسه معالجة الأخطاء والتّخلص من التّرهل الوظيفيّ أو التّقليل منه بشكل كبير جدّا، وهذا يعود أثره على الفرد فالمؤسسة فالمجتمع.
فالرّضا الوظيفيّ يسقط أثرا معنويّا في ذات الموظف، يجعله محبّا لوظيفته ومؤسسته، ممّا يقوي العلاقة مع مسؤوله المباشر ومن علا، ومع زملائه في العمل، فيعالج أخطاءه، ويرقي ذاته، ويبذل في التّقدّم بوظيفته، والإنتاج فيها، فإذا خرج من عمله اشتاق للرّجوع إليه؛ لأنّه يشعر بكرامته الإنسانيّة قبل حقوقه الوظيفيّة، وهذا بدوره يظهر أثره بعد عمله، من استقرار نفسيّ، واطمئنان مع أسرته ومن يعاشرهم خارج عمله.
ومن آثار الرّضا الوظيفيّ أنّه يشعر بانتمائه الحقيقيّ لوطنه، فهذا الانتماء لم يقم على المصالحيّة، وشعارات الوطنيّة؛ وإنّما يقوم على شعوره كفرد منتج له مكانته في هذه البقعة من الأرض، فإذا كان الرّضا الوظيفيّ في الأصل مرتبطا بكرامة الإنسان الذّاتيّة؛ فيكون الانتماء الوطنيّ كذلك مرتبطا بهذا، والارتباط بهذه الكرامة ارتباط حقيقي بهذه الأرض، يضحي لأجله، ويعيش لرقيه وتقدّمه، أمّا الانتماء المصالحيّ فهو مرتبط بالمصلحة، فأينما تكون المصلحة كان الانتماء، فيعمل لا لذات وطنه، وإنّما لتحقيق مصالحه الشّخصيّة لا أكثر!!!
ولا أقصد هنا من لفظة المصلحة بمعنى المجموع وهو مصلحة الأمّة، ولا بالمعنى المقاصديّ، وإنّما أريد به بمعنى الأنا والغاية الشّخصيّة القاصرة على مصالح الفرد الذّاتيّة، وهذا بدوره يؤثر كما أسلفت على الانتماء الوطنيّ؛ لأنّه مبني على تحقق الأثر في نفوس الأفراد، من خلال الشّعور بالكرامة الذّاتيّة في المجتمع والأرض الواحدة.
ولنأت أخيرا إلى نقطة مهمّة من آثار الرّضا الوظيفيّ، وهو الشّعور بالرّغبة في التّنافس والإبداع؛ لأنّ المساحة مفتوحة للجميع، فيبدع الكلّ وفق طاقاته وقدراته، ويجد شراكا يشجعه على ذلك، ويحتفي به لنتاجه وثمرته، لا لتزلفه وتظاهره الشّكليّ، وبهذا تظهر المواهب، ويتعدد النّتاج، ويكون للعمل ثمرته داخل المؤسسة وخارجها، فذاك يبدع بقلبه، وآخر بفنه، وثالث برياضته، ورابع بصناعته، وخامس بتجارته، وهكذا دواليك، لأنّ مساحة الإبداع واحدة من حيث الكفاءة، ومتنوعة من حيث النّتاج والأثر، ولا سبيل لتحقيق هذا إذا ارتفع الرّضا الوظيفيّ!!!
نشر في مجلّة الثّقافيّة التّابعة لمركز السّلطان قابوس للثّقافة والفنون، عدد 30، 1جمادى الثّانية 1440هـ/ فبراير 2019م، ص: 63 – 67.