جريدة عُمان 1443هـ/ 2022م
هناك في عالمنا العربيّ من ينظر إلى الحداثة بحساسيّة مفرطة، وهناك من يراها ضرورة حضاريّة للانتقال إلى نهضة الواقع المعاصر الّذي يعيشها الواقع المعاصر، بيد أنّ العالم اليوم أصبج يتحدّث عن عالم ما بعد الحداثة، وهي الجدليّة الأكبر في العقود الأخيرة في الدّراسات ما بعد البنيويّة، أي الدّراسات التّفكيكيّة وما بعدها.
ابتداء الحداثة في أروبا خصوصا هناك من يراها مرتبطة بعصر النّهضة، وهناك من يربطها بعصر الأنوار، وهناك من يخصّها بالقرن التّاسع عشر وما بعده، أي ما بعد الثّورة الصّناعيّة، إلا أنّ اختراع الطّباعة، وترجمة الفلسفة الأغريقيّة والعربيّة، ثم ظهور مدارس النّقد الدّينيّ البروتستانتيّ، مع عودة العقل، وتشكل المدارس الفلسفيّة والعلمويّة، هذه جميعا تشكل مدار الحداثة في الغرب، إلى شيوع الماديّة والدّراسات الوجوديّة، والاغتراب في العلمويّة بتشكلاتها الشّموليّة والتّجريبيّة.
من المؤكد أنّ الحداثة أخرجت ليس العالم الغربيّ فحسب من عصور انحرفت بالإنسان عن قيمه الكبرى، إلى واقع مختلف تماما، بيد أنّ الصّراع الأكبر في الحداثة الغربيّة، والّتي انبنت ابتداء على التّحديث، الّذي هو “قبل كلّ شيء عمليّة أو مجموعة من العمليات التّراكميّة الّتي تطوّر في مجتمع ما قوى الإنتاج، وتعبيء الموارد والثّروات، وتنمي إنتاجيّة العمل، وتحرّر في الآن نفسه تقاليد الممارسة السّياسيّة من أجل المشاركة في الحياة العامّة، وتؤنس القيم والقوانين والنّواميس لتجعلها علمانيّة صرفا، فلا تخضع لأيّة عقيدة، ولأيّ موقف أيدلوجي معيّن”.
الصّراع الأكبر في الحداثة الغربيّة في نظري يمكن أن نجمله في أمرين: الأمر الأول طغيان المادّة على الرّوح، والّذي يرى هابرماس [معاصر] حسب نقل فتحي التّريكيّ [معاصر] عنه في كتابه “فلسفة الحداثة”، أنّها تمثلت في ثلاث اتّجاهات، الاتّجاه الأول تمثل في “نزعة الشّباب المحافظين الّذين عاشوا تجربة الحداثة الجماليّة، وهي مظهر من مظاهر الذّاتيّة …الّتي تخلّصت من العمل والمنفعة”، والاتّجاه الثّانيّ تتمثل في “نزعة المحافظين القدامى الّذين ينقدون تفكك العقل الأساسي، وينصحون بالعودة إلى ما قبل الحداثة، أي إلى عنصر الرّوحانيات، حيث لم يرتبط العقل بالماديّة”، والاتّجاه الثّالث يتمثل في “نزعة المحافظين الجدد حيث يبتهجون بتطوّر العلم الجديد، على أن لا يخرج هذا العلم عن نطاقه إلّا ليساعد على التّقدّم التّقني، والنّمو الرّأسمالي، والإدارة العقليّة”.
وأمّا الأمر الثّاني من الصّراع فيتمثل فيما أشرنا إليه فيما بعد الحداثة، حيث يراها البعض نتيجة لفشل الحداثة في الغرب، إلا أنّه في الواقع – كما يرى فتحي التّريكيّ – هي “عندما يتحدّث المثقفون في الغرب عن نهاية مشروع الحداثة، فذلك يعني أنّ تحديث نمط الحياة في المجتمعات الغربيّة قد اكتمل وفتح الباب بإيجابيّاته وسلبياته لفترة جديدة، هي فترة ما بعد الحداثة الّتي تختلط فيها متاهات الذّاكرة البعيدة والقريبة، وتصوّرات المستقبل وخيالاته”.
إلا أنّ شيوع المدرسة التّفكيكيّة أو التّقويضيّة المرتبطة بالفيلسوف الفرنسيّ جاك دريدا [ت 2004م]، والّتي قامت على تقويض الحداثة، مرتبطة بالتّمرد والنّقض على المدارس النّصيّة والفلسفيّة والحداثيّة السّابقة، والّتي لم تخرج في جملتها عن المدارس البنيويّة، حيث أوجدت العالم اليوم في دراسات النّسويّة والجندريّة والجنوسة والهوّيّة وما بعد الاستعمار، وما بعد النّسويّة، والاغتراب والدّراسات الثّقافيّة، وغيرها.
فنحن اليوم في العالم العربيّ والإسلاميّ عموما أمام تشكل مدارس جديدة ليس أمام مرحلة الحداثة، والّتي هي قامت أساسا على الهوّيّة العربيّة والإسلاميّة، من خلال ترجمة الفلسفة الإسلاميّة والعربيّة في العصور الوسطى، ولا زالت باقية بعضها إلى اليوم كالفلسفة الرّشديّة، وما بعد الرّشديّة، حيث أفاقت الغرب إلى نزعات الماهيّة والوجوديّة والعقلنة ثمّ الأنسنة والتّاريخيّة، وتّأثير ذلك على العلوم الطّبيعيّة والتّجريبيّة، ثمّ تأثر العلوم الإنسانيّة بالعلمويّة الطّبيعيّة.
نحن نعيش اليوم أمام فضاء معرفيّ تفكيكيّ جديد يتمثل فيما بعد الحداثة، هذا الفضاء يعيد بناءات التّصوّر المعرفيّ لقضايا حسّاسة جدّا ليست اجتماعيّة وثقافيّة وسياسيّة فحسب، بل حتّى قضايا دينيّة ووجوديّة، فيما يتعلق بالنّصّ الدّينيّ ذاته.
العديد من دراسات الحداثة والمتمثلة في التّنوير والتّاريخيّة والعقلنة والأنسنة لها حضورها في الدّراسات العربيّة والإسلاميّة، وهناك يوجد حتّى في قراءات النّص الدّينيّ والتّاريخيّ العديدّ من القراءات النقديّة والتّحليليّة، والمراجعات في هذا الجانب، خصوصا من النّصف الثّاني في القرن العشرين، وأصبحت لهذه الدّراسات حضورها، مع تشكل وعي جمعيّ وسياسيّ لتقبلها، خصوصا أمام ضعف الآلات والمناهج السّلفيّة والتقليديّة في أطرها الكلاسيكيّة القديمة.
هذه الحداثة في العالم العربيّ واجهت ردّة فعل عنيفة من المدارس التّقليديّة؛ إلا أنّ الواقع الحداثي فرض ذاته على الجوانب السّياسيّة والإعلاميّة والاجتماعيّة، منذ بدايات التّحرر من الاستعمار، واستقلال الدّول العربيّة، ممّا أحدثت وجود مدارس فكريّة وإصلاحيّة منذ فترة مبكرة جدّا، خصوصا في النّص الثّاني من القرن التّاسع عشر الميلاديّ في مصر مثلا.
بيد أنّ جدليات التّخوّف من الحداثة من جهة، ودراستها من جهة ثانية لا زالت قائمة وعلى رأسها جدليات: الحداثة والتّحديث، والحداثة والتّراث، والحداثة والنّصّ الدّينيّ المقدّس، والحداثة والتّاريخانيّة، والحداثة والهوّيّة.
هذه الجدليات يصعب تفكيكها بطبيعة الحال في مقال قصير كهذا، إلا أنّها مرتبطة بالجزء الثّانيّ من عنوان المقال وهو إحياء الإنسان العربيّ، ولهذا مال العديد من الباحثين في الدّراسات الحداثويّة النّقديّة إلى التّفريق بين الحداثة والتّحديث، فيرون هناك فارق بينهما؛ لأنّ الحداثة في جوهرها تحديث للوعي والقيم الكبرى للإنسان، بمعنى إحيائه بماهيّته وكرامته الإنسانيّة، وبين التّحديث الّذي هو أقرب إلى العمران والبناء المادي.
مع ثقل وعمق توجهات الحداثة، والّتي مدارها ومركزها الإنسان، إلا أنّ التّركيز في الواقع العربيّ خصوصا دول الخليج لما تملكه من قدرة ماليّة نتيجة النّفط والغاز؛ كان التّركيز على التّحديث أكثر منه الحداثة في صنع الإنسان، وضعف تو فير مناخ أكبر من الحرّيّات واستغلال الطّاقات، وتقبل المعارف الحديثة والفلسفيّة في ذلك، لهذا نجد ضعف الدّراسات الفلسفيّة والعقليّة ابتداء، ثمّ ضعف الدّراسات الإنسانيّة، ممّا امتلأ الفراغ بالمعارف الماضويّة بالشّكل الأكبر، وهذا جعلنا نعيش الحداثة في جوّها التّحديثيّ لا الحداثويّ الشّموليّ والإنسانيّ.
ومن جهة أخرى شيوع مناهج ما بعد الحداثة، ولأننا لم نعش ذلك المناخ التّدافعيّ الطّبيعيّ في عالم الحداثة لأسباب مختلفة، نعيش اليوم في العقل المعرفي العربيّ أزمة ما بعد البنيويّة، وأزمة التّعامل مع الدّراسات الثّقافيّة المعاصرة، خصوصا فيما يتعلّق بالهوّيّة والتعدديّة والجنوسة والنسويّة والجندريّة وما بعد الاستعمار، نتيجة عوامل عديدة تجعلنا نعيش العالم، ونتماهى معه، ولا يمكن الانفصال باسم الخصوصيّة أو الذّاتيّة بالمفهوم الهويّاتيّ وليس الفلسفيّ المحض.
وعليه في نظري نحن بحاجة إلى نوع من الانفتاح في الدّراسات البحثيّة والمعرفيّة، بحيث تتجاوز التّوجس من دراسة هذه القضايا، والمتمثلة في نظريّة المؤامرة من جهة، والخصوصيّة المبالغ حولها من جهة أخرى، حيث يكون هناك مساحة من التّدافع المعرفيّ الرّأسي، والّذي يظهر حالة صحيّة في الوعي الأفقي والجمعيّ بعد حين.
حيث أنّ الإنسان العربيّ اليوم يعيش عالما حداثويّا شكليّا يتمثل فيما بعد الحداثة؛ لانفتاح الإعلام من جهة، وخروجة إلى العالم الآخر من جهة ثانيّة، ثمّ لقوّة ضخ هذه الدّراسات الغربيّة التّفكيكيّة من جهة ثالثة، وتأثيرها على السّينما والمسرح والفنّ بشكل عام، بجانب تأثيرها على الجوانب المعرفيّة والاجتماعيّة بل والسّياسيّة في الجانب الآخر.
لهذا نحن لسنا في قرية منعزلة عن العالم، نعيش هوّيّاتنا وخصوصيّاتنا، وفي الوقت نفسه نحمل إرثا حضاريّا وفكريّا، ولكي يكون متحركا لابدّ أن نتحرك مع الواقع، ونتدافع معه، وهذا لا يتحقق إلا بتوفر مناخ منفتح على الجميع، وحافظ للجميع.
*مرجع نصوص المقال بين علامتي التّنصيص كتاب فلسفة الحداثة لفتحي التّريكي ورشيدة التّريكي، ط مركز الانماء القوميّ، لبنان/ بيروت، 1992م.