فيسبوك 1444هـ/ 2022م
لمّا تولى الإمام عليّ بن أبي طالب [ت 40هـ] الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان [ت 35هـ]؛ جعل مالك بن الحارث [ت 38هـ] والمشهور بالأشتر واليا له على مصر، وسمّي بالأشتر لما أصابه في يوم اليرموك [15هـ] من ضربة على رأسه، فأثرت الجراحة على عينيه بسبب القيح فشترتها كما جاء في ويكبيديا.
ويعتبر عهد الإمام عليّ للأشتر من أعظم العهود في فلسفة إدارة البلدان سياسيّا واجتماعيّا واقتصاديّا، وذات صبغة اشتراكيّة قيميّة عظيمة، وفي فترة مبكرة جدّا، لهذا “أخذ هذا الهعد حظّا كبيرا من اهتمام العلماء العرب وغير العرب، قديما وحديثا، ومنهم مستشرقون”[1]، وفيه ركز فيها الإمام عليّ على ثلاثة أسس تظهر من مفتتح العهد: “هذا ما أمر به عبدُ الله عليّ أمير المؤمنين مالكَ بن الحارث الأشتر في عهده إليه لمّا ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوّها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها”[2]، فأهم أسس الولاة خدمةُ المجموع من خلال العدل بينهم، والتّواضع لهم، ورفع الظّلم عنهم، وعدم التّفريق بينهم لجنس أو مذهب أو دين، والثّاني: إصلاح الأرض وعمارتها، والثّالث: تحقيق العدل الاقتصادي والاجتماعي، وهذه من أهم أسس التّعايش السّياسيّ والاجتماعيّ.
ومدار هذا كلّه – كما أسلفنا – العدل، ومدار العدل الانطلاق من أنّ الجميع ذات ماهيّة إنسانيّة واحدة، لا تنزع إنسانيّتهم لاختلاف لباسهم عرقيّا أم دينيّا أم مذهبيّا، وهو ما يقرّره الإمام عليّ ذاته للأشتر: “وأشعر قلبك الرّحمة للرّعيّة، والمحبّة لهم، واللّطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعا ضاربا، تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدّين، وإمّا نظير لك في الخلْق، يفرط منهم الزّلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك، مثل الّذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه”[3]، ويعقّب على هذا محمّد جواد مغنيّة [ت 1979م]: “على الإنسان أن لا يعتدي ويسيء إلى أخيه الإنسان بشيء، وأن ينصفه من نفسه، ويكون عونا له على ظالمه، سواء أكان على دينه أم على دين الشّيطان”[4].
وكما أنّ المساواة قائمة بين الرّعيّة – حسب المصطلح القديم -؛ فهي لا تنفصل بينهم وبين الرّاعي [الحاكم/ الوالي]، فلا يتحقّق التّعايش أن تأله الرّاعي وعظّم ذاته على الرّعيّة، وهذا يتعارض مع البشريّة وفق المساواة بينهم، لهذا يقول الإمام عليّ للأشتر: “إياك ومساماة الله [أي التّشبه به في العلو] في عظمته، والتّشبه به في جبروته، فإنّ الله يذلّ كلّ جبّار، ويهين كلّ مختال”[5]، “واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرّغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عامّا فتتواضع فيه للّذي خلقك”[6].
وبما أنّ الدّماء هي أشدّ ما تهدّد التّعايش السّلميّ، فيحذّره من الاقتراب منها بغير حقّ أيّما تحذير، “إيّاك والدّماء، وسفكها بغير حلّها، فإنّه ليس شيء أدعى لنقمة، ولا أدعى لتبعة [أي مسؤوليّة]، ولا أحرى بزوال نعمة، وانقطاع مدّة، من سفك الدّماء بغير حقّها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدّماء يوم القيامة، فلا تقوّيّن سلطانك بسفك دم حرام، فإنّ ذلك ممّا يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله”[7].
ولهذا يسهب الإمام عليّ في حفظ النّفس ابتداء من حفظ الرّوح، والحفاظ على حقّ الحياة، مرورا في تحقيق حفظها من خلال حقّها الإنسانيّ في العيش الكريم، وحرّيتها في الكسب، وعدم أكل حقوقها، وتوفير الأمان المعيشيّ الّذي يدفع بالتّعايش، ويحفظ السّلم المجتمعيّ من كافّة زواياه وأبعاده، وفي الوثيقة مصاديق عديدة لذلك يمكن الرّجوع إليها، والتّأمل فيها.
[1] مغنيّة: محمّد جواد، في ظلال نهج البلاغة: محاولة لفهم جديد؛ ط دار العلم للملايين، لبنان – بيروت، الطّبعة الأولى: 1973م، ج: 4، ص: 46.
[2] أبو طالب: عليّ، نهج البلاغة؛ شرح محمّد عبده، ط دار الكتب العلميّة، لبنان – بيروت، ط 1419هـ/ 1998م، ص: 369.
[3] المصدر نفسه، ص: 370.
[4] مغنيّة: محمّد جواد، في ظلال نهج البلاغة: محاولة لفهم جديد؛ ج: 4، ص: 50.
[5] أبو طالب: عليّ، نهج البلاغة؛ شرح محمّد عبده، مصدر سابق، ص: 371.
[6] المصدر نفسه، ص: 381.
[7] المصدر نفسه، ص: 385.