جريدة عمان، 21 أغسطس 2023م
صدر عن دار قناديل في بغداد بالعراق عام 2022م كتاب “محاضرات في تاريخ الفكر الفلسفيّ العربيّ المعاصر” للمؤرخ العراقيّ المعاصر إبراهيم خليل العلّاف، وهو عبارة عن مذكرة صغيرة ألقاها بين عامي 1997م – 1999م في قسم الفلسفة بكليّة الآداب بجامعة الموصل، ويرى أنّ العرب أفاقوا على سؤال: “لماذا تخلفنا وتقدّم غيرنا؟”، وللإجابة عن السّؤال ظهرت تيارات فكريّة متعدّدة، يمكن جمعها في: “التّيار الدّينيّ الإسلاميّ – الإصلاحيّ، والتّيار الدّينيّ الإسلاميّ – القوميّ، والتّيار القوميّ التّاريخيّ، والتّيار الاجتماعيّ – التّقدميّ، والتّيار القوميّ الصّرف“.
ويرى أنّ التّيار الدّينيّ الإسلاميّ – الإصلاحيّ يتمثل في ثلاث شخصيّات أساسيّة: الأولى جمال الدّين الأفغانيّ (ت 1870م) ورؤيته تتمثل “في بناء مجتمع إسلاميّ متماسك، يأخذ بكلّ أسباب التّقدّم والحياة الحديثة بشرط ألّا تتعارض مع أحكام الشّريعة الإسلاميّة” ويرى أيضا هناك إسلامان: الإسلام الحقيقيّ الأصيل الّذي لا “يقف ضدّ التّطوّر والتّحديث”، والإسلام المفترى عليه الّذي أظهر أنّه “دين منغلق يرفض التّجديد”، والشّخصيّة الثّانيّة شخصيّة محمّد عبده (ت 1905م)، ويرى “أنّ الطّريق إلى نهضة العرب والمسلمين لا تتمّ إلّا بعد تحرير المجتمع من الدّاخل – من التّخلف والاستبداد والجهل -، ومن الخارج أي تخليصه من النّفوذ الأجنبيّ” ولهذا اشتغل على أمرين: “تنقية الدّين من الشّوائب والخرافات والبدع”، “وتقريب المسلمين من مقتضيات التّمدن الأروبيّ الحديث”، والشّخصيّة الثّالثة محمّد رشيد رضا (ت 1935م) ورؤيته تتمثل أنّه “بإمكان المسلمين اللّحاق بأوربا إذا اكتسبوا التّقنية الّتي اتّصفت بها أوربا”.
هذا التّيار الدّينيّ الإسلاميّ – الإصلاحيّ كما يرى العلّاف لقي تعارضا مع تيارين: تيار الإسلام التّقليديّ، الّذي “رفض التّفاعل مع التّطوّر العلميّ والحضاريّ الحديث”، والتّيار العقلانيّ العلمانيّ “الّذي يقوم على مبدأ فصل الدّين عن الدّولة”، وفصل الحاضر عن الماضي، وشبّه العلّاف هذا التّيار الدّينيّ الإصلاحيّ بتيار مارتن لوثر – أي البروتستانت – في ألمانيا في الجانب المسيحيّ الكاثوليكيّ.
إلّا أنّه يؤخذ على قراءة العلّاف ثلاثة أمور – في نظريّ -، الأول أنّ التّيار الدّينيّ الإسلاميّ – الإصلاحيّ لم يبدأ مع هؤلاء الثّلاثة، خصوصا مع الرّؤية الّتي طرحها وهي الانفتاح على التّمدن الأوروبي، بل سبقهم مثلا حسن العطّار (ت 1835م) ورفاعة الطّهطاويّ (ت 1873م)، والأمر الثّانيّ أنّ محمّد رشيد رضا له الفضل – بلا شكّ – في حفظ آراء الأفغانيّ ومحمّد عبده، وخصوصا الثّانيّ، وكانت له مراجعات في التّراث الدّينيّ ذاته، إلّا أنّه تراجع في آخر حياته، ومن فكره ولد الإسلام السّياسيّ أو الحركيّ من خلال حسن البنا (ت 1949م)، والأمر الثّالث تشبيههم بتيار مارتن لوثر – أي البروتستانت – فصحيح في الجملة، إلّا أنّ تيارا إصلاحيّا نقديّا قرآنيا ظهر في الهند من خلال دعوة السّيّد أحمد خان (ت 1898م) ثمّ انتقلت وتبلورت في مصر، وهذه أقرب إلى البروتستانتيّة الكالفينيّة منها اللّوثريّة؛ لأنّها تعاملت مع النّصّ القرآنيّ تعاملا تدبريّا فردانيّا أكثر من التّقييدات التّفسيريّة الّتي بقت بشكل عام مع المدرسة الإصلاحيّة، وهذا يمثل بعض الاختلاف بين ضيق مارتن لوثر (ت 1546م) وسعة جان كالفن (ت 1564م) في الكتاب المقدّس المسيحيّ.
وأمّا التّيار الدّينيّ الإسلاميّ – القوميّ فيدعو إلى “تعزيز مكانة العرب ضمن الرّابطة الدّينيّة الإسلاميّة”، وإلى الجمع بين الإسلام والعروبة، ويرى العلّاف من أهم رموز هذا التّيار عبد الرّحمن الكواكبيّ (ت 1902م)، والّذي تمثلت رؤيته في أنّ النّهضة العربيّة تتمثل في تحرير الإنسان العربيّ من الاستبداد والاستعباد، وأنّ أكبر مشاكلنا فيهما.
ويقابل هذا التّيار القوميّ التّاريخيّ، فهو تاريخيّ بمعنى تذكير العرب “بتاريخهم ومنجزاتهم الحضاريّة عبر العصور”، إلّا أنّ تّحقّق هذا من خلال العلمنة مع مصاديق التّأريخ، والاستفادة من جوهره، ومن أهم رموز هذا التّيار ناصيف اليازجيّ (ت 1871م) ويرى أنّ النهضة تبدأ من إصلاح التّعليم، وهي ذات الرّؤية الّتي تمثلت مع محمّد عبده في الجانب الإصلاحيّ لاحقا، بيد أنّ اليازجيّ بيّن أنّ الغاية هي “تعميق وعي العرب بهوّيّتهم القوميّة”، ومن أهم رمزيات هذا التّيار أيضا بطرس البستانيّ (ت 1883م) ويرى أنّ الصّحافة من أهم وسائل النّهضة والاستنارة والقضاء على التّعصّب، والدّعوة إلى التّسامح، وهذا التّيار نادى أيضا منذ فترة مبكرة “بتحرير المرأة، وتقوية الشّعور الوطنيّ”.
هذان التّياران ارتبطت القوميّة لديهم بمشروع النّهضة، سواء من يرى أنّ القوميّة لا تتعارض مع التّراث إن أحسن توظيفه، أو من يرى القطيعة بينهما، بيد أنّه فريق آخر يرى القوميّة من باب “أنّ العرب أمّة واحدة تضمّ المسلمين والمسيحيين على السّواء، وأنّ الرّابطة القوميّة أوسع من الرّابطة الدّينيّة في مجتمع متعدّد الأديان، كما أنّ رابطة الوطن أقوى من رابطة الدّين”، هذا الفريق يتمثل مع التّيار القوميّ الصّرف، والّذي ظهر في بلاد الشّام عموما، ولبنان خصوصا، “ردّا على محاولة المستعمرين لخلق الفتنة بين المسلمين والمسيحيين”، ومن رموز هذا التّيار نجيب عازوزيّ (ت 1961م) صاحب كتاب “يقظة الأمّة العربيّة”، ورفيق العظم (ت 1925م) صاحب كتاب “الجامعة الإسلاميّة وأوربا”، وغيرهم.
وأمّا التّيار الأخير فهو التّيار الاجتماعيّ – التّقدميّ، والّذي يدعو “إلى حكم ديموقراطيّ يتساوى فيه الجميع، ويعطى الكل حسب كفاءته، وليس حسب دينه أو مذهبه أو عنصره، ويدعو إلى فصل الدّين عن السّياسة، ويؤكد على فكرتيّ الإيمان بالعلم، والدّعوة إلى الوطنيّة، … وأولى هذا الاتّجاه عناية كبيرة بالمسألة الاجتماعيّة”، ومن أهم رموز هذا التّيار شبلي شميل (ت 1917م)، وقاسم أمين (ت 1908م)، وأديب إسحاق (ت 1884م).
وشبلي شميل ناصرَ مبكرا نظريّة النّشوء والارتقاء الدّاروينيّة، كما تأثر بالفيلسوف الألمانيّ إدوارد بوخنر (ت 1917م)، “والّذي حاول التّوفيق بين النّزعتين الماديّة والدّاروينيّة”، ومن الدّاروينيّة آمن شميل بالاشتراكيّة، وأسقط ذلك على قضاياه الاجتماعيّة والفكريّة، ومنها مقولته: “أنّ الحرب ضروريّة، وتنازع البقاء في الطّبيعة هو ناموس قاعدة النّشوء في الحياة”، ومن مدرسة شميل كان سلامة موسى (ت 1958م)، وأحمد لطفي السّيّد (1963م).
وأمّا قاسم أمين فتأثر بالفكر الفرنسيّ عموما، وبالثّورة الفرنسيّة خصوصا، وكان من أنصار النّزعة الفرديّة، وركز على المال والتّربية والإدارة، ليشتغل على قضايا المرأة في كتابيه تحرير المرأة، والمرأة الجديدة.
وأمّا أديب إسحاق فتأثر أيضا كقاسم أمين بالفكر والثّورة الفرنسيّة، مثل جاك روسو (ت 1788م) وفيكتور هيجو (ت 1885م)، ويرى أنّ إصلاح المجتمع يتحقّق من خلال إصلاح السّياسة والمدنيّة والاقتصاد الاجتماعيّ، لهذا دعا إلى الحريّة، ومشاركة الأمّة، والتّحرّر من الأجنبيّ، كما انتقد الاستبداد.
ومن هذه التّيارات ولدت العديد من الاتّجاهات المرتبطة مع أكثر من تيار، أو ذات نزعة استقلاليّة، كالرّحمانيّة عند زكي الأرسوزيّ (ت 1968م)، والوجدانيّة عند العقّاد (ت 1964م)، والجوانيّة عند عثمان أمين (ت 1978م)، والمثاليّة عند توفيق الطّويل (ت 1991م)، والوضعيّة عند زكي نجيب محمود (ت 1993م)، والوجوديّة عند عبد الرّحمن بدويّ (ت 2002م)، والشّخصانيّة عند رينيه حبشيّ (ت 2003م)، والعلمويّة عند فؤاد صروف (ت 1985م)، والبنيويّة عند الجابريّ (ت 2010م)، والماركسيّة عند العرويّ، وغيرها كثير.
ما قدّمه إبراهيم خليل العلّاف في هذا الكتاب – وإن كان صغير الحجم – إلّا أنّه مقدّمة مهمّة في نظري لعمل موسوعي يمكن التّفكير فيه لإعادة قراءة النّتاج الفكريّ والفلسفيّ، وعلاقته بالدّين والسّياسة والاجتماع والعلم، في القرنين التّاسع عشر والعشرين الميلاديين، وفي بداية الألفيّة الجديدة، من خلال تقديم قراءة لا تقتصر عند الوصف، بل تحفر في هذا النّتاج المعرفيّ لتخلص إلى أهم معالمها وخصوصيّاتها، متزامنة بداية مع الابتعاث إلى الغرب، وحتى جدليّة الشّرق والغرب، والتّراث والواقع، والأصالة والمعاصرة، والعلم والدّين، ثمّ حتّى جدليّات الهويّة والأنسنة والتّأريخيّة والحداثة وما بعدها.