النقد ميزة فطره الله تعالى في الإنسان، وميزه عن غيره من الجنس الحيواني، فالإنسان ناقد بطبعه، ومفكر بفطرته، واجتماعي في جنسه.
والله أمر الإنسان بالسير في الأرض، واكتشاف سننها، وإدراك تأريخ من سلف: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، وهذا لا يكون إلا بوسائل المعرفة ومنها النقد والشك المعرفي.
بل حتى في خلق الإنسان أمرنا الله بالسير في الأرض لمعرفة كيف بدأ الخلق، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ، وهذا يجعل الباب مفتوحا أمام النظريات العلمية ونقدها.
والقرآن أمر في التراث بإعمال العقل والتدبر ونهى عن التسليم له قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ.
وفي قراءة كتابه أمرنا بالتدبر فيه والنظر مع وضوحه وبيانه، فكيف بكلام غيره من البشر: لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ.
والعلماء لهم احترامهم ومكانتهم كانوا وثنيين أم مؤمنين، يهودا أم نصارى أم مسلمين، إباضية أم زيدية أم سنة أم شيعة، علماء الإنسانية أم الطبيعة، أحياء أم أمواتا.
بيد أنّ احترام العلماء ليس لذات العلم، بل لذات الإنسانية والوجود، والعلم أيا كان نوعه يزيده شرفا وإجلالا: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.
ثمّ إنّ العالم كغيره لا يجوز بخس حقه، والاستهزاء به، والسخرية منه، كان عالم دين أم تأريخ أم لغة أم فكر أم فلسفة، وبغض النظر عن دينه وتوجهه.
ولا يوجد تناقض البتة بين احترام العالم ونقده، وبين التأمل في الموروث العلمي والنظريات العلمية ونقدها، وهذا حق مفتوح للجميع.
والمنهج النقدي للأسف غائب عنا لسبب الخيفة منه، وخاصة في الجانب السياسي والديني، لأن النقد هنا للمعرفة يتحور مباشرة إلى شخصنة الرموز، وإن كان معرفيا، ويعتبر إساءة واستهزاء.
لذا لا يمكن أن ننتج منهجا نقديا إن لم يفتح المجال لتبلوره كالنقد الأدبي الذي لم يكن أبدا وليد اللحظة.
ونحن نرى أنّ الأمم المتقدمة هي الأمم الناقدة لتراثها وحاضرها، وفكرها وسياساتها، وكما يروى عن كيندي أنه قال للصحفي الناقد للرئيس فيما معناه: إن كان نقدك لمصلحة أمريكا فانقد وانشر.
وعالم الدين كغيره من العلماء يتطور فكرهم، وتتضح رؤيتهم في مجتمع ناقد مناقش، خلافا للمسلم له فقط، لأنه بالثاني تجمد المعرفة ولا تتطور.
وباب النقد أيضا مفتوح لما يطرحه عالم القانون والاقتصاد والسياسة والفلسفة والفكر والاجتماع والتاريخ، وهذا لا يعتبر نقصا بل إكراما لما قدمه واحتراما، وهو بهذا يتطور في فكره ويرقى.
ثم لابد من التفريق بين الطرح والإلزام، فما تطرحه المؤسسات الإلزامية قانونا كجهات التقنين والفتوى والاقتصاد هو الإلزام، والنقد لا يعني استنقاص للإلزام، وفي الوقت نفسه يكون موجها لهذه الدائرة ومشاركا فاعلا لها.
أما شخصنة النقد، والاهتمام بالأشخاص ولمزهم والسخرية منهم، وتصنيفهم، لا يعتبر نقدا بأي حال، ولو كان هذا الشخص نكرة في المجتمع.
فقد نجد أشخاصا ينقدون المذاهب الأخرى بكل حرية، ثم إذا نقد مذهبهم أقاموا عليه الدنيا استخفافا ولمزا وسخرية وانتقاما.
كما أننا نجد آخرين ينقدون علماء المذاهب الأخرى، ومنهم المعاصرين، ولكن إذا نقد فكر رموزهم غضبوا غضبا شديدا، فكانت الأشعار والقصائد المهيجة.
وكما أنّ لعالم الفتوى حقه، فهناك في المجتمع أيضا عالم القانون والفلسفة والفكر والاجتماع، وكما أنّ هناك دكتور الشريعة فهناك أيضا دكتور اللغة والسياسة والتاريخ والأدب والفيزياء والأحياء والكيمياء، فهؤلاء رموز وقامات لا تقل أهمية عن رموز الفتوى والشريعة.
وكما أنه لا يجوز اتهام رجال الشريعة بالحجريين والجمود، كذلك لا يجوز الاستخفاف بالآخرين، تارة بالعميان والإرجاف، وتارة بألفاظ لا يليق ذكرها: وقولوا للناس حسنا.
ومن أبشع ما يستخدم ضد المخالف اتهامه بالنفاق، مع أنّ الله قال لنبيه: لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ، فكيف عُلِمَ نفاق هؤلاء، مع أنّ مرتكب المعصية لا يخاطب بالنفاق ولكنه يحذر منه، فكيف إذا كان الخلاف فكريا!!!
فالمجتمع كائن متعدد لأنه كائن بشري، والتعددية نافع للمجتمع، والأحادية ضرر كبير، والنقد الهادف يجمع ولا يفرق، ويؤلف ولا يشتت، وتبقى المعرفة هي الرمز، والشخوص لهم مكانته الذاتية.
تويتر 1436هـ/ 2015م