المقالات النقدية

مسلسل حرق المصحف الشّريف وسؤال ماذا بعد؟

جريدة عمان، 3 يوليو 2023م

تكرّرت في الفترة الأخيرة ظاهرة حرق المصحف الشّريف من قبل جماعات متطرّفة كما فعل راسموس بالودان زعيم حزب الخطّ المتشدّد الدّنماركيّ اليمينيّ المتطرّف، وكحالات فرديّة كما فعله مؤخرا سلوان موميكا أمامَ مسجد ستوكهولم الكبير في اليوم الأول من عيد الأضحى في السّويد.

ظاهرة حرق المصحف الشّريف تكرّرت في الغرب مع تنامي وعودة تمدّد التّوجهات اليمينيّة المسيحيّة خصوصا البروتستانتيّة المتعصّبة تجاه الآخر، ووجدت في الحريّات الغربيّة – كما في السّويد – مناخا قانونيّا يبرّر فعلها، ومع خطابات الكراهيّة، قد يتّجه الحال أحيانا من القول إلى الفعل، كما حدث في عام 2019م من تفجير في مسجدين بمنطقة كرايست تشيرتش بنيوزلندا، والّذي خلّف أربعين قتيلا من قبل شاب في ريعان شبابه، حيث غذّي بكراهيّة الآخر، وما سيعمله يرضي الرّب، ويدخله الملكوت.

ويشتدّ الحال لمّا تكون السّلطة بيد الأحزاب اليمينيّة المتعصّبة كما في الهند مثلا من قبل فريق من الهندوس المتطرّف، فتحاول هذه الأحزاب تطويع القوانين في نشر الكراهيّة، وإقصاء المختلف.

وحتّى لا نظلم الأديان، فأيّ أدلجة للفكر والفلسفة تقود مصاديقها إلى هذا، كما في العلمانيّة اللّائكيّة في فرنسا مثلا، وكما في العلمانيّات المستبدّة والشّموليّة في بعض الجمهوريّات العربيّة، بل وحتّى في العديد من الملكيّات المطلقة، والّتي قد تتزاوج مع التّيارات اليمينيّة دينيّا أو فكريّا في إقصاء الآخر بأيّ شكل كان.

إلّا أنّ خطورة الكراهيّة والعنف باسم الأديان أنّها تنطلق من الغيب المتعالي، وتتقمّص دور الإله والمقدّس، وتتخذ من النّصوص المقدّسة وسير القدّيسين مبرّرا لها، مع إعطاء الأماني في إرضاء الرّب، ودخول الملكوت، ونعيم الجنان، متصوّرة أنّ الحقّ المطلق معها، فلا يوجد هنا خطّ للنّقد والمراجعة وفق نسبيّة الحكم على الآخر، فتغري بذلك عامّة الناس، لطبيعتها الخطابيّة القائمة على التّقمّص والتّجييش والعموميّات واستنساخ الماضي.

ما يحدث في أروبا اليوم هناك تمدّد للأديان غير المسيحيّة بسبب الهجرة واللّجوء من جهة، وبسبب الفراغ الرّوحيّ الّذي تركته الثّقافة الغربيّة، وبسبب تمدّد الحالات اللّادينيّة أفقيّا، عكس أمريكا مثلا، فلا زالت الكنيسة قويّة روحيّا، مع وجود كافّة الأديان والتّوجهات الأخرى، وارتبط الاجتماع البشريّ فيها بالدّين أفقيّا، مع وجود الفكر اللّادينيّ رأسيّا في المؤسّسات المعرفيّة.

لهذا تواجه أروبا اليوم ما يزاحم كنيستها روحيّا من قبل الأديان الشّرقيّة المهاجرة كالهندوسيّة والبوذيّة والإسلام والبهائيّة، والتّيارات الغنوصيّة والصّوفيّة العرفانيّة، ومنها الإسلام، إذ يعتبر من الدّيانات ذات الانتشار الواسع في أروبا، ومع الهجرة المتزايدة من الشّرق وعلى رأسها الدّول العربيّة، بسبب الحروب والأوضاع الاقتصاديّة، وسهولة التّجنس في العديد من البلدان الأوربية، حدث تغيّر ديمغرافيّ دينيّ طبيعيّ، وبالتّالي تمدّد الدّين الإسلاميّ على المدى البعيد، ومزاحمته للمسيحيّة بشكل كبير أفقيّا.

وطبيعيّ تمدّد الأديان الأخرى – ومنها الإسلام – سوف يثير حفيظة هذه الجماعات اليمينيّة المتعصّبة، ولولا تشكل الدّولة القطريّة في الغرب على قوانين إنسانيّة صارمة حافظة للكل؛ لكانت عودة إلى مرحلة الدّماء، وإكراه الآخر في تغيير دينه، ومع هذا نجد من المناخ في أوروبا الّذي يعطي للجماعات الدّينيّة في ممارسة دينها، وبناء دور عباداتها، بل وممارسة التّبشير والتّبليغ بكل حريّة، ويجد بعضهم من الحريّة هناك ما لا يجدونه في بعض بلدانهم الشّرقيّة.

ويماثله في الخليج عندنا أيضا ما يحدث من تغيّر ديمغرافيّ دينيّ، بسبب كثرة الهجرات للعمل، وبعضم من يتجنّس، وإن كان التّجنيس في الخليج ليس سهلا كالّذي يماثله في أروبا، إلّا أنّ وجودهم بكثرة في الخليج صاحبه زيادة بناء دور العبادة، مع وجود بعض الأصوات اليمينيّة الخافتة من حين إلى آخر في التّخوّف والتّحذير من اجتماع دينين أو أكثر في جزيرة العرب متمثلا في دور العبادة، إلّا أنّ قوانين هذه البلدان أعطت شيئا من المساحة والحريّات في ذلك، بعيدا عن هذه الأصوات.

وإذا جئنا إلى الحادثة الأخيرة المتمثلة في حرق المصحف الشّريف في اليوم الأول من عيد الأضحى من قبل سلوان موميكا أمامَ مسجد ستوكهولم الكبير في السّويد، والّذي قام بالحرق عراقيّ موصليّ المولد، وهو في نهايات الثّلاثين من عمره، من أصول آشوريّة، تجنّس في السّويد، اختلف في دينه، فقيل يزيديّا آشوريّا، وقيل اعتنق الإسلام، وقيل ارتبط بالميليشيات اليمينة المتطرّفة في العراق، بيد أنّه يعرّف نفسه أنّه ملحد تنويريّ.

المتفق أنّ الرّجل له تقلبات اجتماعيّة ونفسيّة، وكانت غايته الشّهرة والإثارة من خلال حرق المصحف، وأنّ هذا أقصر طريق يحقّق له ذلك، وفعلا نجح في ذلك نجاحا كبيرا، حيث استغل المناخ الحر في السّويد، وقد يكون اسُتغل من قبل الجماعات اليمينيّة المتطرّفة أو الحركات السّياسيّة، ولو أنّ الرّجل لم يُلتفت إليه، ولم يُهتم به، خاصّة وأنّه أعلن عن غايته في ذلك؛ لكان خير علاج له؛ مع أنّه في المقابل أيضا قدّم بهذا الفعل دعاية مجانيّة للعالم أجمع حول الإسلام، وحول الكتاب الّذي يقدّسه أكثر من مليار من البشر في العالم، بيد أنّ الرّجل لا يهمّه لا الإسلام ولا المسيحيّة ولا حتّى أيّ ديانة أخرى، بقدر ما يهمّه الإثارة، وتحقيق أغراضه الأخرى.

إلّا أنّه في المقابل طبيعيّ أن يتأثر ملايين من المسلمين بهذه الحادثة؛ لارتباطهم الدّينيّ والعاطفيّ بالمصحف الشّريف، وعادة النّاس لا تقرأ ما خلف الحدث، ولأنّه لا توجد لدينا مراكز استراتيجيّة مستقلّة في قراءة الحدث متابعة له أولا بأول، ثمّ توجيهه وفق مساره، وقراءة ما بعده، ولأنّ الإعلام اليوم يقوم على الإثارة أكثر من التّعقل، وأحيانا صاحب الحدث بذاته يقوم بإثارته وترويجه لأغراض سياسيّة أو يمينيّة أو اقتصاديّة، ونبقى نحن دائما كالعادة ضحيّة الضّجيج وردّة الفعل الآنيّ والخطابيّ والبيانيّ الشّجبيّ لا أكثر.

بعد هذا الحدث كالعادة إمّا بيانات سياسيّة، من وزارات الخارجيّة، أو الأحزاب والمراكز السّياسيّة، وقد يصاحبه واستدعاءات دبلوماسيّة، أو بيانات دينيّة استنكاريّة وشجبيّة، تدعو إلى التّظاهر – وقد قلّت حاليا – أو دعوة إلى المقاطعة الاقتصاديّة.

وعادة البيانات السّياسيّة والدّينيّة لا تتجاوز تسجيل موقف لا أكثر، ومن باب “براءة إلى الله”، أو لكسب قاعدة شعبيّة لانتخابات أو أغراض سياسيّة أو دينيّة، ترى في هذا الحدث والتّفاعل معه لا يتجاوز عبارة “مصائب قوم عند قوم فوائد”.

وأمّا المظاهرات والمقاطعات فعادة تقوم بها الشّعوب، إلّا أنّها يخفت بريقها بعد حين، وتعود المياه إلى مجاريها، ونجد عادة من دعا إلى المقاطعة اليوم هو من يتسابق إلى شراء منتجاتها غدا، والمتاجرة في منافعها بعد حين، وقد كسب الحسنيين من ذلك.

وأذكر لمّا حدثت المقاطعة لبعض الأجبان الدّنماركيّة؛ دخلتُ بعض المحلات الكبيرة، ووجدتُ مكانها فارغا، حيث ترك فارغا، فلمّا تحدّثت مع أصحابها؛ أدركت أنّهم يسجلون موقفا آنيّا لا أكثر؛ لأنّهم يدركون أنّها مسألة وقت لا أكثر، وتحدث حوادث أخرى تليهيهم عنها، لتعود المياه إلى مجاريها، وإن كانت ثمة أضرار؛ لن تتجاوز الحال، ولن تحدث أيّ تغيير.

لهذا يبقى السّؤال دائما: ماذا بعد؟، حيث دائما نعاتب المتسبّب من الخارج، ولا نعاتب الذّات من الدّاخل؛ لندور في حلقة فارغة لا أكثر، فنلقي اللّوم عليهم، إذ أنّ حرّيّاتهم لا تستطيع القرب من علم ألوان المثليّة أو علم السّاميّة، لكن لماذا لا نلقي اللّوم علينا: لماذا نحن فقط أمّة ضجيج وبيانات، وليتَ لها ما بعدها، ولكنّها أيضا مؤقتة، فعمّاذا نقاطعهم، فهم بأدواتنا ومعادننا صنعوا ثمّ استوردناه لنستهلك لا أكثر.

كيف استطاعت السّاميّة، وهي أمّة قليلة العدد، لها صراعها اللّاهوتيّ والأيدلوجيّ والتّأريخيّ مع الغرب قديما وحديثا، كيف استطاعت أن تفرض قوّتها معرفيّا واقتصاديّا ثمّ سياسيّا وقانونيّا، لقد طرحت ذاتها وواقعها وسؤال مستقبلها في نهايات القرن التّاسع عشر، لتفرض وجودها اليوم على العالم أجمع، وهي أقلّ أمّة في العالم عددا، وأوهنهم من حيث المقدّرات والمعادن.

لهذا علينا نحن أيضا أن نشتغل بسؤال ماذا بعد؟ وإلّا سنبقى دائما يتحرشون بنا، تارة بالمقدّسات، وتارات أكثر بزرع الشّقاق والحروب بيننا، ونحن نملك من خيرات الأرض، ولكننا من أفقر أهل الأرض، لا نتجاوز الضّجيج والبيانات إلا من رحم الله.

السابق
مخيّمات الحجّاج العُمانيين بمنى وشكاوى الحجّاج
التالي
وهم الصّراع المذهبيّ
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً