الرحلات

الطّريق إلى الكنيسة الأرمنيّة في أصفهان

نشر في ملحق مجلّة الفلق الالكترونيّة، الاثنين 8 صفر 1446هـ/ 12 أغسطس 2024م

ضمن رحلتنا هذه إلى إيران في شهر سبتمبر 2022م قرّرتُ الذّهاب إلى أصفهان بصحبة العزيزين غسّان القلهاتيّ وعمّار البلوشيّ، وقد نسّق لنا سماحة الدكتور محمّد مهدي التسخيريّ معاون العلاقات الدّوليّة بجامعة الأديان والمذاهب في قم عن طريق تلميذه ومنسقه الأستاذ حسين طهرانيّ اللّقاءَ مع  الكنيسة الأرمنيّة في أصفهان، فخرجنا عصر الأحد 15 صفر 1444هـ/ 11 سبتمبر 2022م من قم إلى أصفهان مع السّيّد مهدي كاظمي، وهو محامي، ويدرس أيضا في جامعة الأديان، وكنتُ قد زرت أصفهان عام 2008م، وهي من أجمل مدن إيران، وأصلها بالفارسيّ  نصف جهان أي نصف العالم، وفيها نهر زاينده، زاينده رود بالفارسيّ، وحوله جسر في قمّة الجمال، يلتف على جانبيه العشاق والمتأملون والعرفانيون والسّائحون، وتطّورت أصفهان في عهد البويهيين والقاجار، وفيها الأسواق القديمة والقصور والجسور والحدائق، وسكنا في فندق شعبيّ يتميز بالنّافورات والفناء المفتوح والنّقوش الفارسيّة.

ومسافة الطّريق من قم إلى أصفهان حوالي ثلاثمائة كيلو مترا، وأخذنا حوالي أربع ساعات وزيادة قليلا، لأنّ الظّاهر أخذنا الشّارع الدّاخلي، أي ذات الحارة الواحدة، وكان مزدحما بالشّاحنات بين فترة وأخرى، ووصلنا إلى سكن لجامعة دينيّة في بداية أصفهان أعدّه لنا الشّيخ مطهري، إلّا أنّه بسبب رائحة السّكن الّتي لم نتعوّد عليها لم نستطع الصّبر أكثر من ليلة، فخرجنا أول الصّباح للبحث عن سكن، ووجدنا سكنا تراثيّا جميلا، في منطقة تراثيّة أصفهانيّة، وكان يتكوّن من غرفة كبيرة تتوسطها نافورة، وفي داخل الغرفة ذاتها طابق علويّ فيه أسرة، مع حمام مشترك، والفندق يذكرنا بما نراه في الأفلام الإيرانيّة من آثار الدّولة الصّفويّة والقاجاريّة، وهو فندق سياحيّ، إلّا أنّه يغلق أبوابه في اللّيلة مبكرا، وتطفأ المصابيح، وأذكر في أول ليلة أردت الذّهاب إلى أقرب مسجد، وفي مدن إيران الّتي زرتها كأصفهان عموما أجد المساجد قليلة ومتباعدة، إلّا أنني رأيت المكان في مظلما جدّا، فانتظرت دخول وقت الصّلاة، ثمّ حين أسفر الصّبح ذهبت للمشي واكتشاف المنطقة.

وبعد الفطور أخذنا جولة قليلة في أصفهان، وعند الغداء قال لنا صاحبنا السّيّد مهدي كاظمي أنّ أصفهان تتميز بالبرياني الأصفهانيّ، وهذا لا يوجد إلّا في أصفهان، والسّيّد أصله من أصفهان، وله أقرباء هنا، ويأتي في الصّيف دائما إلى أصفهان منذ صغره، وقال لنا: لا أحد يزور أصفهان ولا يجرّب غداء البرياني الأصفهانيّ، وتصوّرته كالبرياني الهنديّ، أي الأرز مع اللّحم أو الدّجاج، لهذا لمّا سألني: هل تعرفه؟ قلتُ: نعم، فإذا به عبارة عن لحم مقلّي بطريقة تقليديّة، يقدّم مع الخبز (خبز التّنور) مع البصل والخضروات، ولم أستلذه كثيرا، كما أنّ دبابير النّحل الكبيرة تحوم حولنا، ولم تعطنا استقرارا في الجلوس.

ذهبنا بعدها إلى ميدان نقش جهان  والّذي أسّسه عبّاس الأول الصّفويّ (1038هـ/ 1629م) في بداية القرن السّابع عشر الميلاديّ، ثمّ عرف لاحقا باسم ميدان الشّاه، وبعد الثّورة الإسلاميّة أطلق عليه ميدان الإمام، ويحتوي على مسجد عريق وفق العمارة الصّفويّة سمي لاحقا باسم مسجد الشّاه، وبعد الثّورة أطلق عليه مسجد الإمام، ويوجد في الميدان ساحة كبيرة عظيمة الجمال والتّنسيق، وقريب منها البازار الشّعبيّ، ثمّ ذهبنا إلى الجسر المعلّق على نهر زاينده، وهو جسر في قمّة الرّوعة من حيث التّصميم والنّظافة والأضواء، إلّا أنّ النهر شبه جاف، وأخبرنا أنّ الماء يؤخذ من هذا النّهر إلى مدينة يزد الّتي سنتحدّث عنها لاحقا، وكانت الأجواء رائعة جدّا، والنّاس أسر وعشّاق وأفراد وأطفال في كلّ مكان، مع أصوات الموسيقى، وأحاديث النّاس، ولعب الأطفال، وبعد هذا ذهبنا إلى مطعم تديره أسرة، أب وأولاده، والمطعم مختص بالمعجنات بالبيتزا والبرجر، ويتقنون صنعها، والبرجر يستخدمون في خبز (البرجر) الكبير، أحيانا يكفي لشخصين، ولم أر عندهم عادة الصّدقة أو البخشيش، ويأخذون حقّهم بلا زيادة، وإن أردت أن تعطيهم أحيانا لا يقبلون، وبعدها رجعنا إلى النّزل عن طريق سيارة الأجرة؛ لأنّ السّيد يريد قضاء اللّيلة مع أقاربه، ولنأخذ راحتنا في المشي والسّياحة والاكتشاف والتّأمل.

وفي التّاسعة من صباح يوم الثّلاثاء 16 صفر/ 13 سبتمبر ذهبنا إلى الكنيسة الأرمنيّة في أصفهان، وتسمى كنيسة وانك، وتقع في حيّ جلفا المسيحي الأرمنيّ، وهذه الكنيسة من أجمل وأشهر الكنائس في الشّرق الأوسط، وارتبطت بالأرمن، كما توجد اثنتي عشرة كنيسة للأرمن للصّلاة في أصفهان من غير هذه الكنيسة.

والأرمن نزحوا إلى أصفهان من شمال إيران عام 1606م، حيث طلب شاه عبّاس الصّفويّ (ت 1629م) من الأرمن المجيء إلى أصفهان، وبنى لهم هذه الكنيسة عام 1606م، وفي عام 1655م وسعت هذه الكنيسة، وكان للأرمن نشاطات تجاريّة كبيرة، وفي العهد الصّفويّ أصبح لهم نشاط تجاريّ وثقافيّ وسياسيّ.

في أول مدخل الكنيسة يوجد برج السّاعة بني في عام 1931م في آخر الدّولة القاجاريّة، وفي عام 1936م كانت أول مطبعة في الكنيسة، وأصلها من أرمينيا، وهي أول مطبعة في إيران.

وفي عام 1915م حدثت مجزرة للآراميين من قبل العثمانيين، وأقيم للموتى موضع في الكنيسة، ويقيمون لها ذكرى سنويّة من عام 1975م وحتّى اليوم، ويشاركهم مجموعة من الشّخصيّات السّياسيّة والثّقافيّة والدّينيّة الإيرانيّة من غير الأرمن.

في الابتداء استقبلتنا الباحثة الأرمنيّة مريم ميرزا خاني مسؤولة العلاقات العامّة للكنيسة الأرمنيّة في أصفهان وجنوب إيران، وكان حديث طويل حول تأريخ الأرمن والكنيسة الأرمنيّة في أرمينيا وأذربيجان وإيران، وأصفهان خصوصا، وحول تأريخهم في الدّولة الأخمينيّة والصّفويّة والقاجاريّة، وحول بعض مخطوطاتهم وثقافتهم، ثمّ ذهبنا إلى مبنى الكنيسة.

ومبنى الكنيسة كان مليئا بالسّياح، وتشعر برهبة المكان في داخله، وجميع جدرانه مليء بالتّصاوير، وعند باب الدّخول تصاوير تجسّد اليوم الآخر، من جهنّم والفردوس والعرش، وتصاوير الكنيسة تعطيك رحلة الإنسان في سفر التّكوين من العهد القديم، ويسمونه بالفارسيّة الكتاب أو العهد العتيق، هذه التّصاوير من آدم وحتّى إبراهيم فموسى والخروج، وهكذا إلى العهد الجديد وما يتعلّق بيسوع المسيح، من الولادة والأربعين المقدّس والتّبشير والحواريين الاثني عشر، إلى العشاء الأخير والمحاكمة والصّلب والقيامة بعد ثلاثة أيام، وفي أسفل المحراب يوجد قبر مؤسّس الكنيسة، لكن يوجد حاجز يمنع السّياح من الوصول إلى المحراب.

ثمّ ذهبنا إلى المتحف المرتبط بالأبرشيّة، وفيه نسخة من ترجمة الكتاب المقدّس إلى الأرمنيّة في القرن الخامس الميلاديّ، وفي عام 1641م ترجمت مزامير داود، كما ترجم القرآن الكريم إلى الأرمنيّة في القرن الثّامن عشر الميلاديّ، كما توجد تصاوير رمزيّة في بداية الأناجيل الأربعة، ففي متّى رمز الإنسان (الملائكة)، وفي مرقس رمز الأسد، وفي يوحنّا رمز الطّير، وفي لوقا رمز البقرة.

وفي المتحف أيضا يوجد أقدم نسخة للإنجيل من الجلد تعود إلى القرنين التّاسع والعاشر الميلاديين، وأخبرتنا الباحثة  مريم ميرزا خاني أنّه يوجد أقدم منها على الجلد أيضا في أرمينيا، كما يوجد في المتحف أيضا تراث الثّقافة الأرمنيّة، من اللّباس ومستلزمات الطّهي والبيت وباقي الحياة، والعديد من المخطوطات والرّسائل والرّموز الأرمنيّة في العهد القاجاريّ، ويذكرون لمّا طلب تيمور لنك (ت 1405م) الضّرائب من الأرمن وإلا أخذت كتبهم ومخطوطاتهم لتحرق حال رفضهم، وكانت الضّرائب باهضة، فقامت النّساء بتقديم حليّهن مقابل ذلك، كما توجد صور الحكام القاجاريين أيضا، وكان للأرمن مكانة في عهدهم.

وبعد التّجول في المتحف ذهبنا إلى مكتب الأبرشيّة في الأعلى، وهناك التقينا بالقسّ سبيسان كاششيان، أسقف الأبرشيّة الأرمنيّة الرّسوليّة في أصفهان وجنوب إيران، وأصله من لبنان، ويتبعون المركز الرّسوليّ في لبنان، واستقبلنا بتواضع جم، ومعه مرافق له،  وكان الحديث حول الأرمن والأرثذوكس، والملكيين واليعاقبة، وتطرقنا إلى أسرار الكنيسة السّبعة، والعديد من قضايا اللّاهوت، وما يتعلّق بالأبرشيّات في إيران، حيث يوجد في إيران ثلاث أبرشيّات للأرمن: أبرشيّة شمال إيران (تبريز) الأبرشيّة الأرمنيّة الأذرباجانيّة في شمال إيران، وأبرشيّة العاصمة الطّهرانيّة، والأبرشيّة الأرمنيّة الأصفهانيّة وجنوب إيران، وإيران قديما أوسع تصل مساحتها إلى الهند، كذلك تحدّثنا عن الأرمن الكاثوليك والبروتستانت، وعن الأرثذوكس الأقباط والأرمن أو الآشوريين، وبيّن أنّ الأرمن اعتنقوا المسيحيّة مبكرا قبل عام 301م.

وبعد اللّقاء الّذي تجاوز نصف ساعة ودّعنا القس سبيسان، ورفض توديعنا في الدّاخل، وقام بتوديعنا إلى خارج المكتب، وأبدى سعادته أن يجد من يسعى إلى معرفة الآخر من الآخر ذاته، كما شجّعنا على زيارة الأبرشيّة الأرمنيّة في طهران، وأنّه سيقوم بالتّنسيق، والأصل كذلك، لولا زحمة جدول الزّيارات الّذي ضاق الوقت بسببه، إلّا أن لي رجاء في تحقيق ذلك قريبا.

ثمّ ذهبنا إلى مسجد مَنار جُنبان، أو مسجد الشّيخ البهائيّ (ت 1035هـ)، والّذي ينسب إليه هندسته، بيد أنّه حسب المشهور بني سنة  716هـ في عهد محمد خدابنده أولجايتو (ت 716هـ)،  ثامن ملوك الدّولة الإلخانيّة، ويقال كان مسيحيّا ثمّ أسلم، ويتميز بالمنارتين المتحركتين، فإذا حركت الأولى تحركت الثّانية، وهاتان المنارتان – كما يروى – بنيتا لاحقا، ونسبتا إلى الشّيخ البهائيّ فيما يبدو، وهنا قيل لنا إنّ موعد تحريك المنارتين سيكون بعد ساعة، أي بعد صلاة الظّهر، وكنّا في اختلاف، منّا من يريد الرّجوع والاكتفاء بالمشهد لارتباطنا بطريق إلى يزد، ومنّا من يريد مشاهدة تحريك المنارتين، وكنتُ أميل إلى الأول لكوني شاهدت تحريكها لمّا زرتها عام 2008م، ومع ذلك البقيّة لأول مرة يأتون هنا، فارتأيت أن يشاهدوا مشهد تحريكها، فذهبت إلى الصّلاة في مصلّى صغير ملحق بخدمات المزار، ثمّ رأيت النّاس يتوافدون بعدد كبير لمشاهدة لحظة التّحريك مع التّصوير، مع شرح بسيط قبل ذلك بالفارسيّة، وفهمنا شيئا من شرحه، والّذي يقوم بالعمل يعطى شيئا من مال التّبرعات؛ لأنّ هذا عمله، ولا يتقاضى أجرا من الحكومة فيما يظهر.

وعموما زرنا أيضا بعض المزارات الأخرى، وبعدها ذهبنا إلى النّزل لأجل أغراضنا، ثمّ الغداء، ثمّ وجدنا الشّيخ حسين طهراني ينتظرنا عند مفترق الطّريق الّذي ينقلنا إلى مدينة يزد في بداية العصر، حيث سنذهب في سيارته، وقد أتى من أصفهان، فودعنا السّيّد مهدي كاظمي، وشكرناه على خدمته وتواضعه.


السابق
تسقط القوميّة
التالي
سراج لدعم التّعليم في عمان
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً