طلب مني أحد الأخوة في بعض المجموعات أن أكتب مقالا عن المقاطعة، وكان في نفسي ذلك بعد نشر تغريدتي عن المقاطعة، والتي قلتُ فيها: المقاطعة المنظمة والمعلن عنها حالة صحية، هدفها توصيل رسالة إلى جهة ما حدث ضرر لها أم لم يحدث.
إلا أنني تراجعتُ لأنّ الأخوة الكرام أتو بما يفيد وزيادة من تغريدات وتوجيهات وتحليل، خاصة ومنهم العميق في فهم وتفكيك منظومة الاتصالات وما يتبعها من جوانب مادية ومالية نجهل أبجدياتها نحن.
وإن كان ثمة قراءة لما حدث فإنّ الملحوظ في وسائل التواصل على الأقل كثرة المتفاعلين مع المقاطعة، بغض النظر عن نسبة ذلك واقعيا، والتجاوب الحسن في جملته يدل دلالات عديدة، منها دلالات تنبيهية ومنها دلالات صحية.
أمّا الدلالات التنبيهية فيدل على عدم الرضا عن الخدمات المقدمة من الشركتين بسببهما أو بسبب الضغوط من قبل هيئة الاتصالات أو بسبب الجشع في الجملة، وهذا يعطي تنبيها لهؤلاء، لأن المشترك أو العميل أقوى عنصر في الشركة، خاصة وأصبحت الناس اليوم تسافر، وتجد الفرق حتى في دول فقيرة، فهذا يطلب على الأقل من الشركات التواضع وبيان علل خدماتها، والإجابة بصراحة عن سبب سوء بعض الخدمات وارتفاع الأسعار، والنزول إلى خدمة المشترك أو العميل معها مع تحسين الأوضاع.
كما يعطي أيضا تنبيهات للجهات الرسمية والرقابية، وجهات الشورى لأن تقف مع المواطن، ويكون لها بصمة في هذا، لأن أموال المواطنين لها عصمتها، ولا يجوز التلاعب بها نتيجة جشع البعض واستغلال حاجة الناس لمثل هذه، حيث تعتبر اليوم من الضروريات التي لا غنى عنها لكل فرد، وحتى يتحقق العدل الواضح، الذي يرتفع به الضرر من الجانبين ومتعلقاتهما.
أمّا الدلالات الصحية فرجوع المجتمع المدني إلى الاهتمام بقضاياه الحقوقية، واستغلال وسائل التواصل في ذلك، هذا بذاته مؤشر خير، كما رأينا ذلك في أحداث 2011، إلا أنه حدث تراجع لأسباب ذكرتها سابقا، ولا داعي لتكرارها.
كذلك من المؤشر الصحي هو كما أشرت في التغريدة أعلاه يظهر أيضا من الجانب التنظيمي من حيث الإعلان المسبق، والتوافق معه جمعيا بطريقة انسيابية، وعدم وجود ردات فعل سلبية في الطرف المعارض، هذا بذاته نقلة نوعية.
فأصبحت اليوم الاعتصامات أو الإضرابات أو المقاطعات حالة صحية، ولكن إذا استطعنا تنظيمها وتقنينها، بحيث الهدف منها توصيل رسالة، وتفعيل الجانب المدني في المطالبة بحقوقه المشروعة بطرق حضارية وإنسانية، وفي الوقت نفسه مقننة وواضحة لدى الجميع.
إلا أنّ سياسة المنع المطلق أو الفتح المطلق دون تنظيم وتقنين، كل ذلك مخل والشراك المدني والمجتمعي، ويضعف من صيرورة التقدم وتقارب الحلقات في المجتمع الواحد.
ومما رأيته في المقاطعة من ناحية صحية وجمالية في الوقت نفسه مشاركة الجميع باختلاف أفكارهم، وتباين توجهاتهم، إلا أن حب الوطن، والشراك في قضاياه جمعهم جميعا، لأن طاولة الوطن تسع الجميع أن يجلس ويستمتع بما تقدمه لهم من خدمات مشتركة، من هنا ضرورة الفصل بين حق الوطن المشترك، وتوجه الشخص الذاتي، واختلاف مواهبه وطاقاته، وتباين فكره واتجاهاته، على أن التعددية في الحقيقة بناء لهذا الوطن وليست هدما إذا أحسنا التعامل معها تقنينا عادلا ليكون الوطن هم الجميع، وبيت الكل.
ثم أنني لم أرَ صراعا وسبا كما كنا نراه سابقا، وهذا تطور جميل، أرجو أن يستمر كمنهج للمجتمع، فمن حق البعض أن يعتذر أو يبين وجهة نظره السلبية، لكن دون سب للآخر، واستغلال الأسماء الوهمية، مع تخوين الآخر، واعتباره مفسدا.
كما أنه لا يصح أيضا اتهام المعارض واعتباره مطبلا مصلحيا، فالتعارض إن صح التعبير حالة صحية، وهي التي عبر عنها القرآن الكريم بالتدافع، شريطة أن يكون مقننا ومنظما بما يحفظ حقوق الجميع، ولا يتجاوز إلى درجة الإفساد بالوطن أو الإخلال به بما تقننه العقول المجتمعية، بحيث تكون ذاتها قابلة للنقد بما يحقق انسيابية العقل المجتمعي وتطوره.
في الأخير أرجو أن يكون لهذا الشراك المجتمعي في المقاطعة الأثر المادي بتحقيق الأهداف القريبة، كما أرجو أن تتحقق الأبعاد الأخرى وهي أكثر عمقا واستمرارا، وعلى رأسها انتشار الوعي المجتمعي في الحصول على حقوقه المشروعة بشكل منظم وحضاري، ليكون قاعدة للأجيال القادمة بإذن الله تعالى.
فيسبوك 1439هـ/ 2017م