جريدة عمان 1443هـ/ 2022م
الصّهيونيّة نسبة إلى جبل صهيون بالقدس، وهو المكان المقدّس عند اليهود، خلافا للسّامريين؛ إذ المكان المقدّس لديهم هو جبل جرزيم، وينكرون تقديس اليهود لجبل صهيون؛ لأنّه لم يذكر في التّوراة أي الأسفار الخمسة، وإنّما ذكر في التّناخ كما جاء في سفر أشعياء، والسّامريون لا يؤمنون بالتّناخ كنص دينيّ له قداسته.
ولئن كانت الحركة الصّهيونيّة حركة سياسيّة معاصرة، إلا أنّه لا يمكن قراءتها – في نظري – بعيدا عن التّسلسل التّأريخيّ التّالي: [إبراهيم وحفيده يعقوب عليهما السّلام – بنو إسرائيل – السّامريون واليهود – اليهوديّة – السّاميّة – الصّهيونيّة – الدّولة اليهوديّة (هرتزل) – قيام دول إسرائيل (الكيان المحتل)].
بالنّسبة إلى إبراهيم وحفيده يعقوب – عليهما السّلام -، إذ يعتبر السّامريون واليهود أنّهم الذّريّة المتسلسلة من إسرائيل (يعقوب) ابن إسحاق ابن إبراهيم، ونسبتهم إلى إبراهيم نسبة توحيد ونسب، فهم إسرائيليون نسبة إلى حفيده يعقوب، كما أنّهم موحدون لأنّ إبراهيم جاء بالتّوحيد، وظهر منهم أنبياء أعظمهم النبيّ موسى – عليه السّلام -، فهم موسويون من حيث الشّريعة.
ويرى الحاخام رابي دايفيد [معاصر] أنّه “بعد ألف عام من وفاته – أي موسى -، انقسمت مملكة إسرائيل إلى المملكة الشّماليّة واسمها مملكة إسرائيل أو السّامرة وعاصمتها شكيم [نابلس حاليا]، واحتلها الآشوريون بعد مائتين سنة من سقوط المملكة الجنوبيّة، والمملكة الجنوبيّة واسمها يهوذا وعاصمتها أورشليم، واحتلها البابليون، وتمّ سبيهم إلى بابل، وفي عهد الدّولة الفارسيّة في عهد كورش الكبير [ت 529 ق م] أرجعهم إلى بلدهم، وهنا ظهر مصطلح اليهوديّة”، وبهذا سينقسم الإسرائيليون من الشّريعة الموسويّة الواحدة إلى ديانتين منفصلتين، ظهرتا كمصطلح متأخر جدّا بعد ألف سنة تقريبا، الدّيانة السّامريّة، والدّيانة اليهوديّة.
ولهذا أجد القرآن دقيقا جدّا في استخدام لفظتي بني إسرائيل واليهود، فقل ما يستخدم لفظة اليهود، وفي سياق الحديث بعد السّبيّ، جميعها متأخرة مثلا في آية عزير أو عزرا وهو ظهر بعد السّبيّ، وفئة من اليهود ادّعت أنّه ابن الله، وكذا صراعهم مع النّصارى وهو متأخر، وقضيّة يد الله مغلولة والولاء والبراء أحداث في وإن كانت لها سياق تأريخيّ قديم، إلا أنّها جدليّة متأخرة، أمّا في الجانب التّأريخيّ كما في سورة البقرة استخدم القرآن لفظة بني إسرائيل.
فاليهوديّة تشكل متأخر جدّا حتّى على مستوى النّص (التّناخ والتّلمود)، فيرى مثلا إسرائيل شاحاك ونورتون ميزفينسي [معاصران] في كتاب “الأصوليّة اليهوديّة في إسرائيل” أنّه “لم تكن اليهوديّة كما نعرفها الآن موجودة خلال حقبة الكتاب المقدّس”، على أنّهما يرون أنّ الكتاب المقدّس أي العهد القديم كما عند المسيحيين كتب في العهد البابليّ بعد السّبيّ وحتّى القرن الخامس قبل الميلاد، “واليهوديّة على الأقل من حيث خصائصها الجوهريّة لم تكن موجودة في تلك الفترة الزّمنيّة”.
ولهذا يرى يعقوب ملكين [معاصر] في كتابه “علمنة اليهوديّة” أنّه “يجب التّمييز بين القوميّة اليهوديّة [الإسرائيليون] والدّيانة اليهوديّة الّتي هي مجموعة من فرائض الشّريعة، وقد فرّق الإسرائيليون في عصر العهد القديم بين شعبهم وديانتهم”.
وعموما بتكوّن اليهوديّة ظهرت هوّيّة جديدة في القوميّة الإسرائيليّة تمايزت عن غيرها بسبب النّص، من التّناخ وحتّى التّلمود بقسميه المشناة والجمارا، وتحول الاجتهاد التّأريخيّ إلى نص آخر حاول اليهود التّنصل منه ابتداء من الصّدوقيين الّذين رفضوا ما عدا الأسفار الخمسة قبل ميلاد المسيح، والقرائيين الّتي ظهرت على يد عنان بن داود [ت 795م] في الدّولة العباسيّة، ولها وجود حتّى اليوم، وهذا خلافا للفريسيين قديما، الّذين آمنوا بجميع النّصوص الدّينيّة، ومنهم الرّبانيون حتّى اليوم، إلا أنّ اليهوديّة اليوم زاحمتها اليهوديّة العقلانيّة أو الحداثيّة، وظهرت في عصر الأنوار، ورفضوا الأخذ بحرفيّة النّصوص المقدّسة بما فيها الأسفار الخمسة (التّوراة)، بجانب العلمنة اليهوديّة القائلة بأنّ الدّيانة برمتها ثقافة وليست لها قداسة لاهوتيّة، وفريق وسط وهم الإصلاحيون المغلّبون للقراءة الظّرفيّة والتّأريخيّة للنّص الدّينيّ اليهوديّ.
لهذا من الرّؤية العقلانيّة الحداثيّة في المجتمع اليهوديّ في أروبا ظهر مصطلح السّاميّة في القرن التّاسع عشر الميلاديّ، وهو مصطلح قوميّ ليس دينيّا، ظهر نتيجة ما يتعرض له اليهود في الغرب من اضطهاد وازدراء، وقد ولد مع مورتس شتاين شنايدر وويلهيام مار، ومن السّاميّة ظهرت فكرة الصّهيونيّة، وهي فكرة علمانيّة بالأساس، لا علاقة لها بالجانب الدّينيّ خصوصا داخل المجتمع اليهوديّ؛ لأنّ فكرة الدّولة الدّينيّة ليست حاضرة عند اليهود حتّى الأرثذوكس، بما فيهم اليهود الحاخامانيون، ويرون أنّ الشّتات هو قضاء إلهي نتيجة عصيانهم وذنوبهم، وأصبحت جدليّة المسيح غير حاضرة في موروثهم، ورجوعهم يكون بأمر الله وحده، لهذا توجد طائفة كبيرة منهم حتّىى اليوم يرفضون فكرة الدّولة اليهوديّة كالنّاطوريين، كما يوجد العلمويون من يرون الدّولة اليهوديّة دولة علمانيّة وليست دينيّة، واليهوديّة في داخلها ثقافة لا أكثر.
بيد أنّ المسيحيّة البروتستانيّة خصوصا الإنجليكانيّة، وبقراءتهم للعهد القديم، يرون قيام الدّولة اليهوديّة تمهيدا لمجيء المسيح، وظهر الأمر بصورة أكبر مع شهود يهوه، حيث يرون أنّ قيام دولة لليهود تحقيق لنبوءات البشارة بالحكومة الأرضيّة، وهي أرض الفردوس، حيث سيبدل الله بعد فترة وجيزة كلّ الحكومات البشريّة بحكومته هو، وسينعم رعايا هذه الحكومة بالسّلام، فوجود حكومة سماويّة برئاسة المسيح، وبعدها تتحقق بشارة تحقق الحكومة الأرضيّة مع السّماويّة، وإسقاط الحكومات الأرضيّة.
هذه الأفكار وجدت لها طريقا في العقل السّياسيّ الغربيّ، وارتبطت الفكرة بالبروتستانيّة الغربيّة، وحدث تزاوج بينهما لتحقيق مآرب سياسيّة في لباس دينيّ بروتستانيّ إنجيليّ أكثر منه يهوديّا، لهذا الصّهوينيّة كفكرة دينيّه كانت تحت لباس البروتستانيّة المسيحيّة أكثر منها اليهوديّة.
ولما جاء تيودور هرتزل [ت 1904م] في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر الميلاديّ، وألف كتابه “الدّولة اليهوديّة”، كانت فكرته علمانيّة وليست دينيّة، حيث يضع هذا السّؤال في كتابه: “هل سننتهي إلى حكومة ثيوقراطيّة؟”، فيجيب: “لا بالتّأكيد، إنّ العقيدة تجمعنا، والمعرفة تمنحنا الحريّة، ولذلك سنمنع أيّ اتّجاهات ثيوقراطيّة تتصدر قيادتنا من جانب الكهنوت، سوف نحصر كهنتنا داخل حدود المعابد”.
وحتّى عهد هرتزل كانت المسألة اليهوديّة مسألة علمانيّة، غير متقبلة حتّى في الوسط الدّينيّ بشكل كبير، وفكرة قيام الدّولة في فلسطين لم يكن اختيارا كبيرا، فكان يماثله أو يزيد عنه اختيار الأرجنتين، لكونها كما يرى هرتزل “أكثر بلاد العالم خصوبة، وهي تمتد على مساحات شاسعة، وفيها عدد قليل من السّكان، ومناخها معتدل، وجمهوريّة الأرجنتين سوف تحصل على مكاسب كبيرة إذا تنازلت لنا عن قطعة من أراضيها”.
إلا أنّ الارتباط التّأريخيّ لليهود بفلسطين في العقل اليهوديّ الجمعيّ كما يراه هرتزل قد يقنع شريحة أكبر من اليهود، كما يمكن استثمار الخطاب الدّينيّ بما يحقق فكرة الدّولة، بيد أنّ الفكرة من الأساس كما أسلفنا فكرة علمانيّة لجمع الجنس الإسرائيليّ في مكان واحد، وليخلصهم من الاضطهاد الغربيّ، وأن يغلب على قيامها السّلم والتّعايش مع الآخر، حيث كان وضع اليهود حينها في أروبا كما يرى هرتزل أنّ “مساواتهم [أصبحت] أمام القانون الّتي منحها لهم التّشريع حبرا على ورق، فهم محرومون من شغل الوظائف ذات الأهميّة النّسبيّة سواء في الجيش أو في مجال عام أو خاص، بل إنّ المحاولات قائمة لإبعادهم عن شتّى المهن أيضا “لا تشتري من اليهود””.
فهل نجح هرتزل في إبعاد الدّين عن القضيّة، أم أنّ قضيّته استغلت من قبل الاستعمار الغربيّ تحت لباس الدّين ذاته، لتتحول إسرائيل من دولة علمانيّة إلى دولة أصوليّة دينيّة متحكمة في السّياسة الإسرائيليّة، فيرى إسرائيل شاحاك ونورتون ميزفينسي أنّ “الأصوليّة اليهوديّة ليست قادرة على التّأثير فقط في السّياسات الإسرائيليّة التّقليديّة؛ ولكنها قادرة أيضا على التّأثير على السّياسات الإسرائيليّة النّوويّة، ونفس العواقب الأصوليّة الّتي يخشاها الكثير من الأشخاص في بلدان أخرى يمكن أن تحدث في إسرائيل”، وأنّ المفردات الدّينيّة التّلموديّة “قد استخدمت وما زالت تستخدم في السّياسة الإسرائيليّة، ويستشهد بها غالبا في الصّحافة الإسرائيليّة النّاطقة بالعبريّة”.
ومع كون الثّقافة العلمويّة شائعة بكثرة في إسرائيل، إلا أنّ الأصوليّة اليهوديّة المتعصبة أصبحت هي المتحكمة حتّى في القرار السّياسيّ اليمينيّ المتطرف، ومن خلال اللّباس اليهوديّ ذاته، ممّا جر المجتمع إلى مزيد من العنف والقتل واضطهاد الآخر؛ لأنّ الخطاب اللّاهوتيّ المغلق أصبح مؤثرا في السّياسة الإسرائيليّة.
لهذا الواقع الإسرائيليّ اليوم من الدّاخل أصبح متأزما من حيث النّظرة الأصوليّة اللّاهوتيّة المغلقة، وكما يرى المؤرخ اليهوديّ المعاصر أوري أفنيري [ت 2018م]: “كلّ يهوديّ مستقيم، يعرف تاريخ شعبه، لا يمكنه إلا أن يشعر بالعرفان تجاه الإسلام، الّذي حمى اليهود طيلة خمسين جيلا، في الوقت الّذي كان العالم المسيحي فيه يلاحقهم، وحاول في العديد من المرات إجبارهم على تغيير دينهم “بالسّيف””.