صحيفة المسار الالكترونيّة 1443هـ/ 2022م
ابتداء أشكر وزارة الثّقافة والرّياضة والشّباب ممثلة في منصّة وتد على الالتفاتة الكريمة للمرحوم المفكر صادق جواد سليمان من ضمن فعاليات معرض مسقط للكتاب في نسخته الحالية، وصادق جواد قامة يستحق الالتفات إليه، وتوثيق ما تركه من روح فكريّة وفلسفيّة، ورؤى سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة، ثم تفكيك ذلك ونقده، وإن لم تكن بتلك الوفرة؛ لكن ما تركه مع قلّته عميق متمثل في نظرته إلى الحياة والوجود والاجتماع البشريّ.
ولقد أرسل لي الأستاذ العزيز خميس بن راشد العدويّ مجموعة من الأسئلة الّتي يفترض أن تطرح على بساط البحث والنّقاش في الفعاليّة إلا أنّ الوقت لم يتسع لذلك، وحدث التّركيز على حياته وتحوّلاته الفكريّة، من جدليّة العلم والدّين، وجدليّة الإله والإنسان، ومرجعيّته المعرفيّة، ورؤيته في الوجود والحياة.
لهذا أحاول التّركيز في هذه المقالة على بعض الأسئلة الّتي لم يتّسع الوقت للإجابة عنها، وعن بعض الجوانب الّتي طرحت ولم تذكر سابقا في مقالات لنا عن المرحوم صادق جواد فيما يعنى بفكره.
أول هذه الجوانب قضيّة مصادر صادق جواد في المعرفة، وفي نظري أنّه كان منفتحا على المعرفة عموما بمصادرها العلمويّة التّجريبيّة والعلمويّة الشّموليّة، إلا أنّه أميل إلى الجانب الغنوصي والعرفانيّ في شقّه الفلسفيّ، فهو كثير التّأمل، وهذا يذكرني في عبارة تنسب لمحمّد باقر الصّدر [ت 1980م] عندما سؤل عن مصدر المعرفة عنده، فقال: “تسعون بالمائة من التّفكر، وعشرة بالمائة من القراءة”، فالتّفكر حالة استلهاميّة مهمّة للمعرفة، وتعطي الإنسان مراجعات عديدة لفكره وحياته عموما.
وأمّا عن الفلسفة والدّين فيرى صادق جواد أنّ الموروث الدّينيّ هو المصدر الّذي كان وعاء للفلسفة والحكمة القديمة، ثمّ انفصلت الفلسفة عن الدّين، فصارت الفلسفة فكرا حرّا، والدّين فكر لاهوتيّ مقيّد، لهذا يجب الفصل بين الدّين والفلسفة، والدّين هنا بمعناه الشّموليّ فكر مقيّد بسياج لاهوتيّ، أو تقليد واجتهاد بشريّ تأريخيّ ظرفيّ، والفلسفة فكر حر مفتوح غير مقيّد، فإن قيّد دخلنا في دائرة الانغلاق، ولهذا يرى الفلسفة الإسلاميّة قديما لم تخرج عن خطّها اللّاهوتيّ المغلق كالفلسفة المسيحيّة واليهوديّة أيضا.
ثم لمّا ظهرت العلمويّة التّجريبيّة في الفلسفة، وصراعها مع القاريّة الشّموليّة، إلا أنّ العلمويّة التّجريبيّة قطعيّة، والعلمويّة الشّموليّة في جملتها ظنيّة، وهذان يجمعهما الاجتهاد الإنسانيّ، لهذا صادق جواد منفتح على الاثنين، وهما المدار لإدارة الشّأن الإنسانيّ وفق ظرفيته المعاصرة، فنظرته “لا تخاصم الماضي وتراثه، ولا الأديان وطقوسها، ولكن عليك أن تعيش مع الاجتهاد الإنسانيّ في عصرك، وأن تساهم في تطويره ورقيّه، لا أن تكون نسخة من الماضي”، ولهذا يمكن أن نجمل مصادره في أربعة مفردات رئيسة: التّأمل، والعقلنة، والأنسنة، والتّجربة.
وتمثل الأنسنة مع صادق جواد من خلال الأنسنة كمرجعيّة سبق أن كتبنا عنها عموما، بيد أنّه تربطه علاقة وثيقه وحميميّة بطه جابر العلوانيّ [ت 2016م]، وكان صديقا له، واشتركا معا في مركز الحوار العربيّ في واشنطن، إلا أنّ العلوانيّ كان منتصرا للأسلمة عكس صادق جواد كان منتصرا للأنسنة، ثمّ أنّ العلوني تراجع في آخر عمره عن الأسلمة بمفهومها الشّمولي كما أخبرني تلميذه المقرب منه أحمد حمدين من مصر، ودخل في المرجعيّة القرآنيّة، ليدخل في التّأويل المصاحب للنّزعة الإنسانيّة من خلال روح النّص.
وأمّا عن سؤال رؤيته في الحياة فممكن أن نجمل رؤيته في هذا من خلال عناصر أربعة أولها الإيمان فهو عنده “لا ينفصل عن هذا الكون، والمرتبط بالعلم أولا، ثمّ الخلق، فهو حالة منسجمة مع الذّات من جهة ومتصالحة معها، ومسالمة للآخر، ومنسجمة مع الكون”.
وثانيها من حيث سنة الاقتضاء “بمعنى ما يحدث يحدثُ بمقدّمات توصله إلى الحدث أو الفعل، هذا الاقتضاء له طريقه ومساره، والإنسان نفسه عامل في هذا الاقتضاء، فالمريض مثلا يؤخذ إلى الطّبيب ثمّ يشفى، فالمرض نتيجة اقتضاء وكذا الشّفاء، وأمّا مشيئة الله فهي مودعة في السّنن الكونيّة، وليست منفصلة عنها، حيث يحدث في حينه بمسبباته عكس القضاء الّذي يفيد أنّه مقضي من سابق”.
والثّالث الانسجام مع الكون، فيرى أنّ الإنسان لا يفنى؛ لأنّ “التّشكل الإنسانيّ تشكّل زائل، وذرات من الأرض تجمّع بها هذا الجسد، ثمّ عندما يهترئ الجسد، وتعود الذّرات، وتتوزع وتعود إلى مكان آخر، في شجرة أو حيوان أو أيّ شيء، فالذّرات لا تفنى ولا تزيد في الكون”، ويرى أيضا أنّ “الكلّ – أي في الكون – من طلعة واحدة، فنحن فينا ما في النّجوم والبحر والحيوان، فهي ذرات تتجمّع وتتفكك وتعمّ العالم، فهو وجود واحد، كلّ يخضع لنفس السّنن والقوانين، فتكوننا جميعا واحد؛ وإنّما تختلف الأشكال والأحجام، ولمّا تموت هذه الذّرات تنتثر، لكنّها لا تفنى في الكون، وإنّما تتشكل في مخلوقات أخرى كقطة أو كلب أو بقرة أو إنسان آخر وهكذا، ونحن أيضا من غبار النّجوم وفضاءات أخرى”.
والرّابع نظريّة الإنسان الكامل، أي أنّ “الإنسانيّة ليست موقعا أو مرحلة أو حالا جامدا، الإنسانيّة في ارتقاء أو في انحدار، فإذا انحدرت تلامس البشريّة الحيوانيّة، وإذا ارتقت تلامس ممّا لا سقف للارتقاء، ولمّا تقول إنّ للإنسان نزعات سلبيّة فنعم، فملكة التّفكير ممكن أن تنحرف بالإنسان إلى إنتاج شيء سلبي، كما نجد في الأسلحة وغيرها، ولكن إذا كان ارتقاء الإنسانيّة إلى الأعلى فتجد أنّها تتوجه إلى توائم أكثر وأكبر وأعرض بالرّوح، والرّوح صفاء كامل، لا تشوبها أيّ شائبة، فالإنسان نعم ممكن أن ينحدر وممكن أن يرتفع”.
ثمّ أنّ الأستاذ خميس العدويّ طرح من أسئلته “هناك من يصف صادق جواد بأنّه “مثقف عضويّ” بحسب مصطلح أنطونيو غرامشي [ت 1937م]”، والمثقف العضويّ هي الخصوصيّة الّتي يتمتع بها أفراد من المجتمع، يحملون قدرا من الوعي، فيترتب عليهم من المسؤوليّة التّاريخيّة والأخلاقيّة في المساهمة في خلق الوعي المجتمعيّ والحضاريّ، وهنا أرى صادق جواد ينطبق عليه هذا الوصف بهذا المعنى، وقد يكون هذا الأمر ملازما للسّؤال الآخر الّذي طرحه العدويّ: “لماذا برز صادق في سنواته العشر الأخيرة، وليس قبلها؟”!!
وفي نظري كون صادق جواد عاش في أمريكا لعقدين في الثّمانينيات والتّسعينات من القرن السّابق جعله حاضرا هناك، فكان يكتب ويحاضر للطّلاب في الجامعات، وشارك في تأسيس مركز الحوار العربيّ 1994م، وكان مشاركا في الصّحيفة الّتي يصدرها المركز بتوقيع أدبي، وقد جمّع هذه المقالات صديقه صبحي غندور، وقبلها في الكويت قبل مجيئه إلى عمان كان حاضرا في صحيفة الرّأي وهو في مقتبل عمره، مع كونه مقلّا في الكتابة، لهذا حضوره عمليّ أكثر منه كتابيّا، ولمّا رجع إلى عمان كانت له محاضراته ومشاركاته في الألفيّة الجديدة، فكتب في بعض الصّحف وقدّم العديد من المشاركات في الكليّات والمؤامرات والمهرجانات وفي الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء والنّادي الثّقافي، وقد جمّعها الأستاذ سعيد بن سلطان الهاشميّ في كتاب “سلامة الفكر بسلامة التّفكير”، ولهذا برز ظهورا في السّنوات الأخيرة في عمان لوجوده هنا، ولانفتاح الجانب الإعلامي أيضا، ولانتشار الوعي الأفقي كذلك، واهتمام الشّباب بالفكر والفلسفة، ولهذا قال لي صادق جواد نفسه: “هذه الانشراحة لم أعهدها سابقا في عمان”، مع أنّه كان من المساهمين في تأسيس الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء، وانتخب رئيسا لها 2010 – 2012م، ومساهما في خدمات الاستشارة العلميّة لمجلس البحث العلميّ في عام 2008 وحتى عام 2010م.
ويطلق صادق جواد على المثقف العضويّ بالمثقف الرّاصد، حيث يرى أنّ “المثقف هو المواطن الّذي له نصيب كاف من المعرفة ببلده والقضايا المعاصرة بغض النّظر عن تخصّصه، ولديه القدرة على التّمييز بين ما يصلح مجتمعه من الّذي لا يصلحه، فيبقى راصدا لما يصدر من اجتهاد الحكومة، فهو معنيّ بما يحصل في مجتمعه، فيمايَز عن الشّخص الّذي يهتم فقط بما يتعلّق به كالتّاجر المهتم فقط بالتّجارة، فهو كما أنّه يرصد أيضا بالوسائل المتاحة لديه يبدي رأيه، فهو لا يحتكر الحكمة، وهو ليس عدوّا للسّلطة، وإنّما هو راصد، وعليه واجب التّبيين”.
ولعل الأسئلة المتبقية هي أسئلة جانبيّة تتمثل ابتداء في فلسفة صادق جواد، هل هي ابتداع أم تأثر بغيره، والفلسفة عموما كما أنّها فكر حر؛ إلا أنّها متداخلة مع بعضها، ومتدافعة مع الآخر، ولكون صادق جواد لم يترك بحثا معرفيّا متكاملا – حسب علميّ – عدا رسالته في الماجستير؛ إلا أنّ رؤيته عموما شبه واضحة، وفيها ما يميزها من دقة المصطلح، وتراتبيّة الفكرة وتسلسلها المنطقي، مع قراءته من الخارج، وفق الاجتهاد الإنسانيّ، فلهذا كان مشروعه الأخير حول “التّلازميّات الضّروريّة لانضباط الأداء الإنسانيّ”، إلا أنّه لم يكمله، وقد كتب في ذلك مسوّدة عملنا حولها لقاء في برنامج زووم في 24 مايو 2021م، ومن هذه التّلازميات الّتي شرع في كتابتها وهو في علاجه بالهند كما أرسل لي قبل وفاته حول العقل المؤمن، والقويّ الأمين، والمسؤول والمساءلة.
بيد أنّي أزعم أنّ صادق جواد ترك رؤية واضحة ومهمّة لمجتمعنا العربيّ وهو يعيش أزمته الثّقافيّة والدّينيّة، يمكن أن يبنى عليها نقدا وتأصيلا، ابتداء من الماهيّة فالهويّة، والمبادئ الكبرى المطلقة والقيم المضافة، والحضارة والثّقافة والفارق بينهما، والدّولة العصريّة والمعاصرة، والعقلنة والأنسنة، وحقوق المواطنة والإنسان، وغيرها من رؤاه المتناثرة، وهي عناوين مهمّة لدراسات بحثيّة أكاديميّة أو فرديّة.
وهذا يفسّر سر الانجذاب الكبير، خصوصا من الشّباب إلى فكر المرحوم صادق جواد، لما يحمل هذا الجيل من تساؤلات وجوديّة وثقافيّة وحضاريّة، ولما يعانيه من أزمة الهوّيّة، وصراعه مع الخطاب الدّينيّ والثّقافيّ، وللواقع السّياسيّ في المجتمعات، ولانتشار نبرة الكراهيّة والإقصاء للمختلف، وهيمنة الجماعة على الفردانيّة، وفي المقابل كان للمرحوم تجربة عميقة جامعة بين الحضارتين الغربيّة والشّرقيّة، لهذا يجد الشّباب ضالتهم المعرفيّة وهم يتسامرون معه، كما يجدون الرّجل المستمع إليهم ولو تكلموا لساعات، ويفخر بنقدهم لما يقول، فلا يفرض رأيه، ولكنه يصدق في ذلك، ولا يظهر بوجه دون وجه يظهره لآخرين، فهو واحد مع الجميع، متواضا محبّا للكل.