المقالات التأريخية

منشيوس وحواره مع ملوك وأمراء الصّين: تأسيس للحكم الرّحيم والرّشيد والحكيم

نشر في ملحق عمان الثّقافيّ، عدد 29، الخميس 23 ذو القعدة 1445هـ/ 30 مايو 2024م

منشيوس (ت289ق م) المعلم الثّاني للفلسفة الكونفوشيّة بعد المعلّم الأول كونفوشيوس (ت 479 ق م)، وفي كتاب “منشيوس”، والّذي ترجمه إلى العربيّة فراس السّواح وشوي تشينغ قوه حوارات مختلفة مع بعض الملوك والأمراء والتّلاميذ، وهو من الكتب الأربعة المهمّة في تراث الحكمة الصّينيّة، وتناول جوانب فلسفيّة كالطّبيعة الإنسانيّة والإنسان الكامل والحبّ والواجب والمنفعة، كما تضمّن بعض آراء كونفوشيوس، فقد تعلّم على تلاميذه، كما تضمّن نصوصا من كتاب الأغاني الصّينيّ، ويقال إنّ كونفوشيوس جمّع ثلاثمائة أغنية منها.

الكتاب تضمّن فلسفة منشيوس في الحكم، وإن كان غلب عليها مصطلح الحكم الرّحيم، بيد أنّه استخدم أيضا مصطلح الحكم الرّشيد، وبصورة أقل الحكم الحكيم، وفي هذه المقالة نحاول بيان شيء من فلسفته في ذلك.

ومن حيث الحكم الرّحيم يرى  “كلّ البشر يتمتّعون بقلب رحيم يأسى لعذابات الآخرين، الملوك القدماء كان لديهم قلوب رحيمة، وقد انعكس ذلك في ممارستهم للحكم الرّؤوف، بقلب حنون، وحكم رؤوف، تنقاد البلاد إلى الحاكم، وتغدو طوع بنانه، وما أعنيه بقولي إنّ كلّ البشر يتمتّعون بقلب رحيم، يأسى لعذابات الآخرين هو التّالي: لو أنّ أيّ إنسانٍ رأى فجأة طفلا على وشك السّقوط في بئر، فسيتحرك في داخله شعور بالجزع والتّعاطف، لا طلبا للشّكر والعرفان من أبوي الطّفل، ولا طمعا في مديح جيرانه وأقربائه، ولا لنفوره من سماع صراخ الطّفل، من هنا يمكن القول بأنّ الّذي لا يمتلك قلبا رحيما متعاطفا ليس بإنسان”.

وإذا كانت الرّحمة شيء طبيعيّ في الإنسان؛ لابدّ أن يكون لها انعكاسات في الخارج، بما في ذلك الحاكم، والسّؤال الّذي أرسله الأمير وِين حاكم تنغ عن طريق وزيره بي جان إلى منشيوس يسأله: “من أين يبدأ الحكم الرّحيم؟” فكان جوابه: “الحكم الرّحيم يبدأ من ترسيم حدود الأراضي الزّراعيّة؛ لأنّه إذا لم يتم هذا التّرسيم على الوجه الصّحيح فإنّ المربعات الّتي ستقسّم الأراضي إليها لن تكون متساوية، كما أنّ كل مربع من محصوله كضريبة لن يكون عادلا، ولهذا، فإنّ الحكّام الطغاة وجباة الضّرائب الفاسدين غالبا ما يتجاهلون القيام بترسيم الحدود، عندما يتمّ تبيان الحدود؛ لن تكون هنالك صعوبة في تقسيم الحقول وتحديد المداخيل”، لهذا “في سنوات الشّدّة والمجاعة كان كبار السّن والضّعفاء يموتون واحدا تلو الآخر في العراء، أمّا الشّباب والأقوياء فكانوا يفرون بالآلاف في كلّ اتّجاه، وحدث ذلك عندما كانت عنابركم ملأى بالحبوب، ومخازنكم ملأى بالكنوز”، بينما “الملك يرتحل مع مجموعة كبيرة من المرافقين، ويستهلك الجميع كميات كبيرة من الطّعام، والجائعون يسلبون طعامهم، والمتعبون يحرمون راحتهم، فتعلو أصوات التّذمر في كلّ مكان، ويضلّ النّاس في دروب الشّر، وبذلك يتنكر الحاكم والأمراء لمشيئة السّماء، ويجلبون البؤس على الرّعية، الأطعمة والأشربة تُبدَّد كماء متدفق، وهم يمتّعون أنفسهم برحلات النّزهة والصّيد، الّتي تسبّب الحرج حتّى لأمير المقاطعة الّذي يستقبلهم”، والأصل في الحاكم أن ينظر ابتداء إلى أربع فئات مهمّة في المجتمع، “الرّجال المسنّون الّذين لا زوجات لهم، والنّساء المسنّات اللّواتي لا أزواج لهن، كانوا يُدعون أرامل، والّذين لا أولاد لهم كانوا يُدعون متوحدين، والأولاد الّذين توفي آباؤهم كانوا يُدعون أيتاما، هذه الفئات الأربع من البؤساء والمحرومين الّذين لا معين لهم هي الّتي كانت موضع اهتمام الملك (وين) في ممارسته للحكم الرّحيم، وكانت لها الأولوية على البقيّة، وقد ورد في سفر الأغاني: الأغنياء يسعدون، دعونا نتعاطف مع المحرومين”.

وقد يكون الحاكم صادقا رحيما، إلّا أنّ “أولئك المسؤولين [لم يطلعوه] على بؤس الرّعيّة، لقد خدعوك، وكانوا قساة مع الشّعب وقد قال زينغ تسي – من تلاميذ كونفوشيوس احذر، احذر، مثلما تعامل النّاس سوف يعاملونك، ولقد أتيحت الآن الفرصة للنّاس لأن يعاملوا المسؤولين بالمثل، فلا تلومنهم، واعلم أنّك إذا مارست الحكم الرّحيم فلسوف يحبّ النّاس رؤساءهم، ويموتون دفاعا عنهم إذا تطلّب الأمر ذلك”.

ومن الحكم الرّحيم تكون قوّة الدّولة من جهة، وتوحيد البلاد من جهة أخرى، ولا يمكن تحقّق ذلك كما يرى منشيوس إذا ارتفع الحكم الرّحيم، ففي محاورته لهوي ملك ليانغ بيّن له أنّه “يمكن لحاكم مملكة صغيرة أن يطمح لتوحيد كلّ البلاد، إذا أدرتم البلاد من خلال حكومة رحيمة بالشّعب، ولم تُغالوا في العقوبات، وخفّفتم الضّرائب، وشجّعتم المزارعين على حراثة الأرض وعزقها وتعشيبها كلّما لزم الأمر، ووجهتم الأقوياء والأصحاء لأن يتعلّموا في أوقات فراغهم برّ الوالدين ومحبّة الأخوة والولاء لأميرهم، والصّدق في كلامهم، لكي يقدروا على خدمة آبائهم وإخوتهم الكبار السّن، وخدمة رؤسائهم والمتقدّمين عليهم، إذا فعلتم ذلك كله فسيغدو بإمكانك أن تقود شعبك للنصر على جيوش مملكة (تشن) ومملكة (تشوه)، حتّى إذا لم يحملوا سوى العصي الخشبيّة، يواجهون بها عدوّا مدجّجا بالدّروع الثّقيلة والأسلحة المعدنيّة القاطعة”، فسأله الملك: “كيف يمكن تحقيق الاستقرار في البلاد؟ فأجاب منشيوس: “من خلال الوحدة”، ثمّ سأله: “ومن هو القادر على تحقيق الوحدة؟” فأجاب: “الشّخص الّذي لا يحبّ القتل هو القادر على ذلك”، فسأله: “ومن الّذي سوف يؤيّده ويتبعه؟” فأجاب: “لن يتقاعس أحد في المملكة عن تأييده والسّير وراءه … الآن لا يوجد حاكم في المملكة إلا وهو يحبّ القتل، ولكن إذا وجد حاكم يكره القتل، فإنّ أعناق الجميع سوف تشرئب ناظرة إليه، ويتقاطر إليه النّاس مثل سیل جارف يتدفق نحو المنحدر لا يقدر أحد على صدّه”.

وتعود فلسفة منشيوس في ذلك من خلال استحضاره لتأريخ “الملك (جيه) والملك (زو)، فقدا مُلكهما لأنّهما خسرا الرّعية، وخسرا الرّعية لأنّهما خسرا قلوبها، إذا أردت أن تظفر بالمملكة فعليك أن تكسب محبّة النّاس؛ وإذا أردت أن تكسب محبّة النّاس، فعليك أن تكسب قلوبهم، وإذا أردت أن تكسب قلوبهم فعليك أن تؤمن لهم ما يحتاجون إليه، ولا تفرض عليهم ما يكرهون، النّاس ينقادون للحاكم الرّحيم مثلما ينساب الماء نحو المنخفضات”، ويسقط هذا عمليّا على الجميع، من حيث “إذا عملت جلالتك وفق مبادئ الحكم الرّحيم في مملكتك، فإنّ كلّ من يبحث عن عمل حكومي سوف يطلب عملا عندك، وكلّ الفلّاحين سيهفون إلى العمل في أراضيك، وكلّ التّجار سيقصدون أسواقك، وكلّ الرّحالة سيتطلعون إلى التّرحال على طرقاتك، وكلّ من يكرهون حكّامهم سيأتونك لرفع شكاواهم إليك، إذا حصل ذلك، فمن يقدر على الوقوف في وجهك”.

بيد أنّ منشيوس يرى أنّه لا يمكن تحقّق ذلك بالاكتفاء بالنّوايا الطّيبة، والكلام المرسل، “فبعض الحكام لديهم قلب رحيم وسمعة جيّدة، ولكنّهم لم يفلحوا في تقديم منافع للنّاس، وفي ضرب المثل الصّالح للّاحقين؛ لأنّهم لم يتبعوا طريق الملوك الحكماء، فالنّوايا الطّيبة وحدها لا تكفي للحكم الصّالح، وسن القوانين وحده لا يكفي لوضعها موضع التّطبيق” فلابدّ من عمل ومتابعة، ولهذا يأتي الحكم الرّشيد، من هنا سُرَّ الأمير جنغ لكلام منشيوس “فأعدّ التجهيزات اللّازمة في العاصمة، ثمّ ترك البلاط إلى الأرياف حيث أخذ بتوزيع إعانات من الحبوب للمحتاجين، وبعد ذلك استدعى الموسيقيين الكبار وقال لهم: انظموا لي ألحان أغنيةٍ تُعبّر عن العلاقة الطّيبة بين الحاكم ورعيّته، وهكذا ولدت قصيدتا (زي شاو) و(جياو شاو)، اللّتان ورد فيهما: ما الخطب في نقد سلوك الملك ونصحه؟ إنّ في نصحه تعبيرا عن محبّته”.

الحكم الرّحيم مع ضرورته الوجدانيّة لابدّ أن يتبع بحكم رشيد، ولمّا سأله الملك شيوان ملك تشي عن تعريف “الحكم الرّشيد الّذي يعين الحاكم على توحيد البلاد؟” أجاب منشيوس: “رعاية النّاس وحمايتهم، إذا فعلت ذلك فلن يعارضك أحد في توسيع سلطانك ليشمل كلّ البلاد”، وبيّن له “عندما نتحدّث عن دولة عريقة، فإنّنا لا نعني أنّها تحتوي على أشجار ضخمة معمّرة، بل أنّ لديها موظفين ووزراء من ذوي الخبرة الطّويلة والكفاءة العالية”، فليست العبرة بعراقة التّأريخ والماضي، وإنّما العبرة بعراقة الحاضر والواقع، ففي الحكم الرّشيد “هنالك ثلاثة أمور على الحاكم أن يعلي من شأنها هي: الأرض والرّعية والحكومة، أمّا إذا أعلى من شأن الآلي والأحجار الكريمة؛ فإنّ الكارثة تقبع عند بابه”.

كما يلخص منشيوس الحكم الرّشيد للملك هوي حاكم مملكة ليانع أثناء حديث الملك عن المنفعة فأجابه: “لماذا اخترت جلالتك الحديث عن المنفعة، لقد جئتُ لكي أطرح عليكم مسائل تتعلّق بالرّحمة والصّلاح، عندما تسأل جلالتك كيف أنفع دولتي، ويسأل وزراؤك: كيف ننفع مقاطعاتنا، ويسأل المثقفون والعامّة: كيف ننفع أنفسنا، فإنّ من في الأعلى ومن في الأسفل سوف يتنافسون لتحقيق المنفعة، وستحيق بالمملكة الأخطار”، لهذا “إذا وضع المسؤولون نصب أعينهم النّفع أولا قبل الصّلاح؛ فإنّهم لم يقنعوا حتّى يستولوا على كلّ ما للعاهل”، “… وأهل الصّلاح لا يديرون ظهورهم لحكّامهم …”.

ولتجنب هذا، حيث إذا “كره الحاكم أن يلحق به العار، فإنّ أفضل طريقة لتجنبه هي أن يُكرم المثقفين، ويُعلي من شأن الفضيلة، ويعهد بالمناصب الحكوميّة للصّالحين، وبالمهام الرّسميّة لمن هم أهل لها، ويستغل أوقات السّلم في دعم مؤسّسات الدّولة وإصلاحها، وشرح القوانين للشّعب، عند ذلك سوف ترهبه حتّى الدّول الكبرى”، “وإذا الحاكم احترم الفاضل، واستخدم الكفؤ، ووضع المتميزين في المناصب العليا؛ فإنّ كلّ المثقفين في البلاد سيهفون إلى العمل في بلاطه”، “وإذا لم يقدّر الفاضل والكفء فستغدو الدّولة خالية من الأكفاء”.

وعلى هذا من حيث الأصالة أنّ “المناصب العليا ينبغي أن تكون وقفا على الصّالحين؛ لأنّه إذا وُضع الطّالحون في المناصب العليا، فسوف ينشرون الفساد بين الجميع، وإذا كان الأعلون لا يلتزمون بالمبادئ الخلقيّة، والأدنون لا يراعون القانون، وإذا كان رجال الحاشية لا يؤمنون بصراط الحق [أي العدل]، والحرفيون لا يثقون بالمعايير والمقاييس، وإذا كان الرّسميون لا يعدلون، والعامّة لا يأبهون بقانون الجزاء؛ فإنّ بقاء الدّولة مشكوك فيه، ويعتمد على الحظ، هنا يمكننا القول بأنّ ضعف التّحصينات، وقلّة الأسلحة والجنود لا يشكل خطرا داهما على الدّولة، كما أن تزايد مساحة الأرض اليباب [أي الخراب] وتناقص الثّروة، لا يشكل خطرا داهما على الدّولة أيضا، ولكن إذا كان المسؤولون لا يراعون الطّقوس وقواعد الأدب والمعاملات، والعامّة لا ينالون تعليما وتهذيبا، والخارجون على القانون يرتعون دونما رادع؛ فإنّ أيام الدّولة تغدو معدودة”.

وفي هذا يوجه منشيوس نصحه للملك أنّه “في سعيه لترقية الأكفاء والأفاضل، قد يضطر الحاكم إلى تفضيل ذوي الرّتبة الأدنى على ذوي الرّتبة الأعلى، والأقارب ذوي الصّلة الأبعد على الأقارب ذوي الصّلة الأقرب، مثل هذا القرار ينبغي ألا يتخذ بتسرع، إذا قال لك كلّ الأتباع المقربين إنّ فلانا مناسب للوظيفة، فلربما لم يكن الأمر كذلك، إذا قال لك كلّ وزرائك إنّه مناسب، فلربما لم يكن الأمر كذلك، إذا قال لك كلّ أهل المملكة إنّه مناسب عند ذلك عليك اختباره وتقييمه، ثمّ استخدامه إذا كان مناسبا، وإذا قال لك كلّ أتباعك المقربين إنّ فلانا غير كفء، فلا تُصغِ إليهم في التوّ والحال، وإذا قال لك كلّ وزرائك إنّه غير كفء، فلا تُصغِ إليهم في التوّ والحال أيضا، ولكن إذا قال لك كلّ أهل المملكة إنّه غير كفء، عند ذلك عليك اختباره وتقييمه وصرفه إذا كان غير كفء”، فهنا على الحاكم أن يكون قريبا من رأي النّاس، وهم أصدق في نظره من رأي من هم أقرب للحاكم نسبا أو وظيفة.

فإذا أحسن الحاكم اختيار وزرائه وموظفيه من ذوي الكفاءة العالية؛ لابدّ أن يتبع أيضا بالإحسان في الإدارة، “وإذا كان الحاكم الّذي يفترض به أن يكون أبا للشّعب، يمارس إدارة سيئة، فذلك مثل إفساح المجال أمام الضّواريّ لافتراس النّاس، فكيف يمكن أن يكون جديرا بدور الأب”.

ويتحدّث مثلا عن حسن إدارة العمل الزّراعيّ خصوصا، وفي الاستقلال الذّاتيّ عموما، فيرى منشيوس  “إذا لم تتدخلوا في مواسم العمل الزّراعيّ، فسيكون لديكم من الحبوب أكثر ممّا تستهلكون، إذا لم تسمحوا للصّيادين باستخدام الشّباك ذات الثّقوب الصّغيرة في البرك والبحيرات؛ فسيكون لديكم من السّمك والسّلاحف أكثر ممّا تستطيعون أكله، إذا احتطبتم في التّلال والأحراش في الوقت المناسب؛ فسيكون لديكم من الحطب أكثر ممّا تحرقه مواقدكم، عند ذلك سيكون النّاس قادرين على إعالة الوالدين في حياتهم، وترتيب جنازات لائقة لهم عند مماتهم، دون شكوى أو مشقة، وبذلك تتحقّق الخطوة الأولى نحو الحكم الرّشيد”، “فلا تعرقل مواعيد العمل الزّراعيّ … فلن تشكو الأسر الكبيرة من الجوع، وجه اهتمامك إلى التّعليم في مدارس القرى حيث يلّقن الأولاد بر الوالدين ومحبّة الأخوة، فلن ترى شيخا في الطّريق يحمل أثقالا على كتفيه أو رأسه، إنّ الدّولة الّتي يتوفر لمن بلغ السّبعين فيها ارتداء الحرير، والحصول على طعام وافر، ولا يشكو شعبها من البرد والجوع؛ لن يفشل حاكمها في أن يكون ملكا قادرا على توحيد البلاد”، “فلا تلق يا جلالتك باللّائمة على سنوات القحط، بل طبّق في مملكتك الحكم الرّشيد؛ فسيلجأ النّاس إليك من كلّ مكان”.

وإذا اجتمع الحكم الرّحيم مع الحكم الرّشيد هنا لابدّ من الإحكام في ذلك، وعليه يكون الحكم الحكيم، ويرى منشيوس أنّ “العاهل الحكيم هو الّذي يعمل على تأمين سُبل العيش للنّاس، لكي يقدروا على رعاية آبائهم، وإعالة زوجاتهم وأولادهم، بحيث يكون لديهم طعام كافٍ في سنوات الوفرة، ويتفادون المجاعة في السّنوات العجاف، وعندها يمكن أن يوجههم لسلوك سُبل الخير ويحصل بسهولة على ولائهم”، ولمّا سأله الأمير وِين حاكم تنغ عن أصول الحكم؟ أجابه منشيوس: “لا تتماهل في معالجة شؤون الرّعية … وهذا شأن عامّة النّاس، إذا استدامت لهم سبل العيش كانت نفوسهم هادئة، وإذا عزّت سبل العيش اضطربت نفوسهم، وإذا اضطربت نفوسهم فإنّهم يضلّون ويجنحون إلى المعاصي، لا يردّهم عنها شيء، فإذا عاقبتهم على ذلك كنت كمن ينصب لهم فخّا، فكيف لحاكم رحيم يسوس شعبه أن ينصب لهم الفخاخ؟ لذا فالحاكم الفاضل دمث، ومتواضع، ومقتصد، يحترم شعبه”.

ومن الإحكام في نظر منشيوس أن يشارك الحاكم الرّعيّة متعته، وإن أخطأ فمن الحكمة الاعتراف والرّجوع عن الخطأ، ومن كلامه لشيوان حاكم مملكة تشي “يا صاحب الجلالة، إنّك إذا شاركت النّاس بمتعتك؛ فسوف تغدو أهلا لتوحيد البلاد”، وفي جوابه لسؤال الملك شيوان: “إنّه لمن الخطأ لوم الحاكم إذا لم يقدر النّاس على الاستمتاع بالمتع، ولكنّه من الخطأ أيضا ألّا يقوم الحاكم بإشراك النّاس بما يستمتع به، عندما يعتبر الحاكم مباهج النّاس بهجة لسوف يعتبرون مباهجه بهجة لهم أيضا، وعندما يعتبر الحاكم هموم النّاس هموما له؛ سوف يعتبرون همومه هموما لهم أيضا، إذا شارك الحاكم النّاس في كلّ مكانٍ مباهجهم وهمومهم؛ غدا ملكا حقّا وأهلا لتوحيد البلاد”، أي استقرار الأمن فيها وتقدّمها.

فنظريّة منشيوس في هذا أنّه “إذا أنفق حاكم في فترات السّلم أوقاته في المتع والدّعة، فإنّه بهذا يستعجل الكارثة؛ لأنّ الكارثة أو البركة رهن باختيار المرء، وقد ورد في سفر الأغاني: (كن دوما رهن مشيئة السّماء، ولكن أطلب البركة بنفسك)”، ولمّا اعترض عليه تشن جيا: “إذن، لقد أخطأ وهو حكيم، أليس كذلك؟” أجابه منشيوس: “علينا أن نأخذ في الحسبان أنّ السادة في الأيام السّالفة كانوا يخطئون، ثمّ يعترفون بخطئهم، ويعمدون إلى تصحيحه، أمّا السّادة في الزّمن الرّاهن فيخطئون، ثمّ يقلّلون من شأن أخطائهم، في الأيام السّالفة كانت أخطاء السّادة تتضح للنّاس مثل وضوح كسوف الشّمس وخسوف القمر، وعندما يصلحون أخطاءهم كان الجميع ينظرون إليهم بإكبار وإعجاب، أمّا السّادة اليوم فلا يكتفون بالتّقليل من شأن أخطائهم، بل ويعمدون إلى تبريرها”.

ما ذكرته محاولة منّي لفهم رؤية منشيوس حول الحكم الرّحيم والرّشيد والحكيم، من حواراته المتناثرة، وحكمه المتعدّدة في الكتاب، وكما أسلفت الكتاب مليء بمضامين عديدة ومهمّة في الوقت ذاته.

السابق
إبراهيم رئيسي وولاية الفقيه
التالي
الانتصار للقضيّة الفلسطينيّة أم خلق ولاءات خارجيّة
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً