المقالات النقدية

بين الدّكتور عبد الرّحمن بدويّ والإمام محمد عبده

شنّ الدّكتور عبد الرّحمن بدويّ [ت 2002م] في سيرة حياته [ص: 51 – 52 ط المؤسسة العربيّة للدّار والنّشر/ بيروت – لبنان، ط 2000م]؛ شنّ هجوما لاذعا على الإمام محمد عبده [ت 1905م].

وقبل الحديث عن ماهيّة الهجوم، فالإمام محمد عبده كان بلا شك رمزيّة إصلاحيّة انطلقت بداية من الأزهر الشّريف، وهذا اعترف به من جاء بعده ممّن كانت له علاقة بالأزهر خصوصا، ويظهر نتاجه الإصلاحيّ في تفسيره المنار والّذي أكمله من بعده تلميذه محمد رشيد رضا [ت 1935م]، ومن خلال مقالاته الإصلاحيّة في مجلّة العروة الوثقى مع شيخه وملهمه جمال الدّين الأفغانيّ [ت 1897م]، وهذا أكثر من كتبه القليلة ومن فتاويه، وقد أصبح مفتي الدّيار المصريّة عام 1899م.

بيد أنّ الدّكتور بدوي يرى أنّ اعتبار محمد عبده عالما ومصلحا ما هي إلا خدعة خدع وفتن بها الكثير من النّاس، واستند إلى أدلّة وتتمثل في علاقة محمد عبده باللّورد كرومر [ت 1917م] وهو يعتبر منظر الاستعمار وتغريب العالم الإسلاميّ، وليس له إصلاح إلا [تفاهات شكليّة مثل تحليل لبس القبعة]، ولأنّه كان [ضئيل الإنتاج، إذ ليس له إلا كتاب صغير هو رسالة التّوحيد، وهي دروس ألقاها في بيروت بعد خروجه من مصر، وهي متن في علم التّوحيد، واضح العبارة، حسن الأسلوب، لكنّه من حيث المادّة خجل بسيط لا يفيد إلا المبتدئين في هذا العلم، وما عدا هذه الرّسالة ليس له إلا تعليقات لغويّة بسيطة على مقامات البديع الهمذانيّ، والبصائر النّصيريّة للسّاويّ، ونهج البلاغة المنسوب إلى الإمام عليّ بن أبي طالب]!!

أمّا مسألة علاقته بكرومر فهي مسألة تأريخيّة يجيب عليها الباحثون المصريون، ولا ندري أبعاد هذه العلاقة ومنطلقاتها، فقد تعرّض محمد عبده ذاته للسّخط التّركيّ والبريطانيّ، فنفي إلى لبنان، ومن ثمّ اليابان، وعاش في فرنسا دهرا من حياته، كما أنّه وقع بين تركة الخلافة العثمانيّة، والّتي جعلت غالب العالم الإسلاميّ مريضا جاهلا فقيرا منهكا، بجانب الاستعمار والتّغريب، والّذي استغل جمود العقل العربي، والتّفرق والجهل المجتمعيّ!!

فمحمد عبده ليس وليد النّهضة فقد سبقه رفاعة الطّهطاويّ [ت 1873م]، إلا أنّه حمل على عاتقه الإصلاح الدّينيّ خصوصا، فهو من رواد المدرسة الإصلاحيّة الدينيّة في العالم الإسلاميّ، والّتي انبثق منها المدرسة التجديديّة، والّتي حاولت الجمع بين أصالة الماضيّ وانفتاح الغرب، وحاولت أن تنظر إلى الغرب نظرة عقلانيّة وليست نظرة كافرة ولا نظرة ذوبان كلّي من جهة ثانيّة.

إلا أنّه لا يمكن وضع الإمام محمد عبده في المدرسة الإصلاحيّة الأوسع تأويلا للنصّ ذاته، كما ظهر عند علي عبد الرّازق [ت 1966م]، ومحمود أبي ريّة [ت 1970م].

ومع هذا تراجعت المدرسة الإصلاحيّة بعد ظهور الصّحوة الدّينيّة، والّتي أحدثت تراجعا كبيرا في التّفكير الإسلاميّ نتيجة البذل الماليّ والإعلاميّ لها…

والحديث حول هذا يطول، ولكن من المتفق عليه أنّ الإمام محمد عبده كان رمزا في هذا، وباتفاق العديد ممّن جاء بعده!!! ولهذا لا ندرك الجوانب الخفيّة لعلاقته مع كرومر، خاصّة وأنّ كرومر كان أشبه بالرّئيس الفعليّ لمصر حينها!!!

وإمّا الإقلال من التّأليف فليس عيبا؛ لأنّه ليس بالشّريطة أن يكون المصلح مكثرا من التّأليف، ولا يقتصر الإصلاح عند جانب معين، فهناك المصلح في السّياسة والفكر الدّينيّ والفلسفة والاقتصاد والاجتماع والفنّ والرّياضة والسّياحة ونحوها، والعديد من المصلحين قد لا تجد كتابا واحدا لهم!!

ومع هذا كان لمحمد عبده من النّتاج ككتابه الإسلام والنّصرانيّة بين العلم والمدنيّة،  وتقرير إصلاح المحاكم الشّرعيّة سنة 1899م، فضلا عن عمق مقالاته الإصلاحيّة في العروة الوثقى، وأبعاد تدبره وتفسيره في المنار.

وختاما نقول عفا الله عن الفيلسوف الكبير عبد الرّحمن بدويّ، وأراه هنا جانب العدل والصّواب!!!

صحيفة شؤون عمانية، 1438هـ/ 2018م

السابق
الخطوط الثّلاثة في القرآن الكريم: [التّكوين والتّشريع والجزاء]
التالي
تجميع المال بدون ترخيص: قانون الجزاء العمانيّ ولائحة الزّكاة نموذجا
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً