المقالات الفكرية

البناء المعرفيّ للمرأة المسلمة

من الفلسفات التّربويّة المعاصرة فلسفة البناء المعرفيّ، والأصل في البناء المعرفيّ يشمل عموم الجنس، بيد أننا نريد هنا ما يتعلق بجانب المرأة المسلمة، والسّؤال الّذي يطرح نفسه هنا هل يوجد خصوصيات للمرأة المسلمة تختص به عن باقي الجنس في هذا الباب؟!! قبل الجواب عن هذا السّؤال لابدّ من إدراك ماهية البناء المعرفيّ كمصطلح فلسفيّ وتربويّ معاصر مع بيان عناصره وأبحاثه.

مفهوم البناء المعرفيّ:

يُعرّف محمد الخوالدة البناء المعرفيّ بقوله: حصيلة المعرفة الإنسانيّة عبر مسيرتها التّاريخيّة، والّتي كانت نتيجة الذّكاء الإنسانيّ، وتراكم الخبرات البشريّة في سياق المعرفة وتقنياتها ومناهجها المختلفة.

والبناء المعرفيّ عموما كثيرا ما يستخدم كمصطلح ضمن المفاهيم التّربويّة المعاصرة، حيث أصبح المفهوم التّربويّ علما مستقلا بذاته، وعليه لا يهمنا كثيرا هذا الجانب في هذا المقال بقدر ما يهمنا ذات المعرفة، والبناء الّذي يقوم عليه، وربط ذلك بالمرأة المسلمة.

وعرّفت الأكاديميّة العربيّة البريطانيّة للتّعليم العاليّ في منهجها التّربويّ باللّغة العربيّة المعرفة بقولهم: “المعرفة” اسم مشتق من الفعل “يعرف”، وتشير إلى القدرة على التّمييز أو التّلاؤم، وهي إذن كلّ ما هو معرّف أو ما هو مفهوم، والمعنى أنّ الرّصيد المعرفيّ النّاتج من حصيلة البحث العلميّ والتّفكير الفلسفيّ والدّراسات الميدانيّة والتّطوير، والمشروعات الابتكاريّة، وغيرها من أشكال الإنتاج الفكريّ للإنسان عبر الزّمان تتمثل جميعها في الرّصيد المعرفيّ، أو الكمّ المعلوم القابل للاستخدام في أيّ مجال من المجالات.

ويرى موقع “الباحثون السّوريون” أنّ المعرفة مأخوذة من الكلمة الإغريقيّة Epistemology أي نظريّة المعرفة، والّتي تعني أبستمولوجيا أي دراسة، وبذلك يكون logos والّتي تعني المعرفة، ولوغوس Episteme معناها دراسة المعرفة، أو فلسفة المعرفة، وهي من بين أهم المجالات في العلوم الفلسفيّة، ولهذا أولى المشكلات الّتي تواجهنا في نظريّة المعرفة تتمثل في تعريف مفهومها، لذا لا يوجد أيّ إجماع حول ماهية المعرفة ومعناها (بتصرف).

واليوم حدث تداخل في مفاهيم نظريّة المعرفة أو البناء المعرفيّ أو فلسفة المعرفة ثلاث اتجهات علميّة، الاتجاه العلميّ الفلسفيّ وهو الأقدم تأريخا، والاتجاه العلميّ التّربويّ وهو قديم سلوكا حديث تقعيدا، واتجاه العلوم البرمجيّة، أو ما يسمى البرمجة اللّغوية العصبيّة والّذي بدأ مع ريتشارد باندلر وجون غريندر في عام 1973م.

فتحولت المعرفة من جانب نظريّ فلسفيّ إلى جانب بنائيّ تداخل بين العلوم الإنسانيّة النّظريّة والعلوم التّجريبيّة، ممّا توسعت النّظريات حولها، وبالتّالي أثر في بيان ماهيتها ومفهومها.

وقبل أن ندخل في معالم المقال لابدّ أن نلتفت قليلا إلى المعرفة القرآنيّة، لارتباط المسلم به كمصدر إلهيّ في التّعامل مع فهم الغيب والحياة والذّات، والتّعامل مع الآخر.

المعرفة القرآنيّة:

يشير القرآن الكريم إلى ثلاثة وسائل مهمة لتلقي المعرفة:

الوسيلة الأولى: القراءة، وهذه وإن أشار إليها في سورة واحدة، إلا أنّ الانطلاقة منها كما يرى الجمهور أنّ أول سورة نزلت على النّبيّ محمد – صلىّ الله عليه وسلّم – سورة اقرأ حيث فيها إشارة مهمة، خاصة أنّها جاءت على صيغة فعل الأمر (أفعل) في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (اقرأ/ 1-5).

والقراءة جانب مهم من حيث وسائل كسب المعرفة وبنائها، وقد يرى قائل إنّ هذه الآية متعلقة بالقرآن من حيث الأمر ابتداء، فهي وإن تعلقت بالقرآن ابتداء إلا أنّها متعلقة بالمعرفة الإنسانيّة وسيلة وغاية، خاصة وأنّها رُبِطَت بالقلم والعلم، وهذان متعلقان بأصل المعرفة وما تركه الإنسان، فالعبرة بعموم الغاية ومقاصدها وأبعادها لا بحرفيّة الأمر والخطاب، خاصة إذا دلّت القرائن العقليّة على ذلك.

الوسيلة الثّانيّة: التّدبر والنّظر والتّعقل والتّفكر، وهذه أشار إليها القرآن الكريم في عشرات الآيات، فالقرآن نفسه أمر الله تعالى بقراءته عن تدبر حيث قال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد/24).

والنّظر من حيث المعرفة في القرآن الكريم إمّا نظر اعتبار، أو نظر تفكر وتأمل وبحث، فأمّا الأول فكقوله سبحانه: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (آل عمران/ 137)، وأمّا الثّاني فكقوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الرّوم/50)، وهذا أقرب إلى التّأمل والتّدبر، وكقوله: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (الغاشية/ 17-20) وهذا أقرب إلى البحث والكشف.

أمّا التّعقل وإعمال العقل فقد ورد في القرآن بعبارات كثيرة ومتعددة، كعبارة أفلا تعقلون تكررت ثلاث عشرة مرة، وعبارة لعلكم تعقلون تكررت ثماني مرات، وعبارة لا يعقلون تكررت إحدى عشرة مرة، وعبارة لقوم يعقلون تكررت ثماني مرات، وعبارة إن كنتم تعقلون تكررت مرتين، وعبارتي ما عقلوه ونعقل تكررت مرة واحدة، وعبارة يعقلون وتعقلون تكررت مرتين.

وكما أنّ عبارة استعمال العقل جاءت متكررة؛ جاءت أيضا في جوانب معرفيّة متعددة، كجانب تصديق الخبر أو تكذيبه، حسب القراءة الدّاخليّة للخبر ذاته، أو للأحوال المصاحبة له، وهو ما يسميه البلاغيون بمصادقة الواقع، ويدخل في هذا مراجعة الواقع ونقد الذّات، ومن هذا قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (المائدة/ 103).

كذلك جاء في معرض التّفكر والتّدبر والبحث في النّفس والكون، ومنه قوله تعالى في الذّات: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} (يس/68)، وفي الأمم السّابقة: {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (العنكبوت/ 35)، وفي الكون والأفق: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (النّحل/12).

وأمّا التّفكر فقد جعله الله تعالى من صفات عباده، فهم كما يتفكرون في القرآن المسطور؛ يتفكرون أيضا في القرآن المنظور، لذا استخدمه بالفعل المضارع (يتفكرون) المفيد للاستمراريّة كعادة ومنطلق دائم للجماعة المؤمنة حيث يقوله سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (أل عمران/ 190-191).

الوسيلة الثّالثة: البحث والسّير في الأرض، والسّير في الأرض له ثلاثة مضامين، الأول: النّظر كيف بدأ الله تعالى خلق الإنسان، وكيف بدأ خلق الكون، وأنّ النّشأة الأولى دليل على النّشأة الأخرى، وهذا يأتي عن طريق البحث والكشف، وكما قيل قديما: علم الشّهادة دليل لعالم الغيب، والثّاني: السّير في الأرض للنّظر في الأمم السّابقة، أو أمم الغير، ويدخل فيه التّعرف على اللّغات والعادات والفلسفات والتّقاليد البشريّة، والثّالث: السّير في الأفق والإنسان لكشف سنن الله في الوجود وتسخيرها في عمارة الأرض من جهة، وفي صناعة الإنسان من جهة أخرى.

ومن هذه الآيات قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (العنكبوت/ 20)، وقوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (الرّوم/ 9).

من هنا نخلص أنّ القرآن الكريم يحث على كسب المعرفة كان في سياقها التّأريخيّ  أو المعاصر أو كان استشرافا للمستقبل، هذا من جهة؛ ومن جهة ثانية يجمع بين المعرفة الإنسانيّة والكونيّة، ومن جهة ثالثة يربط بين عالم الغيب والشّهادة، فإن كان عالم الغيب دائرته مغلقة؛ إلا أنّ عالم الشّهادة دائرة مفتوحة للعقل لينظر ويبحث ويتأمل وينتج ويبدع، وبعد بيان الجانب القرآنيّ نقترب أكثر من بيان أسس المعرفة.

مصادر أسس المعرفة الإسلاميّة:

لن نتحدث عن الصّراع الّذي حدث بين الفلاسفة في تحديد مصادر المعرفة، خصوصا بين المدرسة التّجريبيّة والمدرسة العقلانيّة، والّذي يهمنا الآن الّذي له علاقة بالفلسفة الإسلاميّة – إن صح التّعبير – والّتي تجمع بين العقل والنّقل، فيكون أهم المصادر عندنا المشكلة لأسس المعرفة:

المصدر الأول: العقل، وجعلته كمصدر أوليّ لأنّه الجامع بين البشر جميعا، ولأنّ العقل ضروريّ لفهم النّقل وفرزه، لذا جعله المعتزلة والزّيديّة المصدر الأول للتّشريع، ومع هذا لا يعني إلغاء النّقل، ولكن لا يمكن التّعامل مع النّقل بدون العقل!

المصدر الثّاني: النّقل، والقرآن هو المصدر الوحيد المتفق عليه بين المسلمين، من الفاتحة وحتى النّاس، وهو قطعا من عند الله تعالى، ثمّ تأتي السّنة العمليّة المتفق عليها بين المسلمين، كسنن الصّلاة والصّيام والحج، ثمّ بعد ذلك المصادر الرّوائيّة والسّيريّة والتّأريخيّة والّتي ستتعدد في الاختلاف والتّعامل معها وتعدد مصادرها ومناهجها.

المصدر الثّالث: المعارف الإنسانيّة، أي ما تركه العقل البشريّ من تجارب ومعارف، وما توصل إليه في مختلف فنون المعرفة، وهذا لا غنى لأحد عنه، فكما أنّ الوحدة الإنسانيّة واحدة فكذلك الوحدة المعرفيّة واحدة، وكما أنّ البشر مختلفون ومتعددون في لغاتهم وألوانهم ومواهبهم وثقافتهم، فكذلك المعارف ستتعدد أيضا.

المصدر الرّابع: التّجربة البشريّة والبحث والكشف، وهذا مصدر مهم في العلوم التّطبيقيّة والإنتاجيّة، وفي تطور المعرفة والكشف عنها، ومسايرة العالم في ذلك.

وبعد بيان هذه المصادر الأربعة ندخل في موضوع البناء المعرفيّ للمرأة المسلمة، ولعل السّؤال البديهيّ هنا هل من خصوصيّة للمرأة المسلمة في هذا الجانب؟!!

خصوصية البناء المعرفيّ للمرأة المسلمة:

الأصل في المعرفة أنّها حق مشاع، فلا يوجد في الأصل العام خصوصيّة للمعرفة كذات كسبيّ، وفي الوقت نفسه من حق المرأة كسب المعرفة كالرّجل تماما، ولها حق السّير والبحث والنّظر، وهي مطالبة أيضا في مشاركة الرّجل في كسب المعارف لبناء الحياة.

وكلّ ما أشرنا إليه من وسائل قرآنيّة آنفا تدخل فيه المرأة أيضا، ولا يوجد دليل على تخصيص ذلك للرّجال، وما حدث من تصور سلبيّ في منع المرأة من كسب المعارف في بعض أزمنة التّأريخ سببه الفهم الاجتماعيّ المغلوط، ممّا ولّد جهلا مدقعا في ذات الأسرة المكون الرّئيسي للمجتمع، بل أنّ المرأة تتحمل الإثم في عدم مشاركتها للرّجل في البناء المعرفيّ؛ لأنّ هذا يتعين عليه بناء الحياة، ولا يمكن بناؤها بالجهل، والجهل إفساد في الأرض، والله تعالى نهى عنه حيث قال سبحانه وتعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف/56)، والواو في “تفسدوا” تفيد عموم الجنس.

وباعتراف العديد من الباحثين الغربيين أنّ النّبيّ محمدا –صلّى الله عليه وسلّم- أحدث نقلة نوعيّة في الجانب الحقوقيّ للمرأة، ومنها حق التّعليم، حتى نبغ فقهاء من بيته ذاته كابنته فاطمة الزّهراء ت 11هـ، وزوجه عائشة الصّديقة ت 58هـ، والّتي اعتبرت من الفقهاء الكبار من مرتبة صغار الصّحابة، وعنها أخذ كبار التّابعين كجابر بن زيد ت 93هـ، وعروة بن الزّبير ت 94هـ، وعكرمة ت 105هـ، ومجاهد ت 100هـ، والشّعبيّ ت 104هـ، وغيرهم كثير جدا، حتى قال عنها الحاكم ت 405هـ في المستدرك: أنّه ما رأيتُ أحدا أعلم بالحلال والحرام والعلم والشّعر والطّب من عائشة أمّ المؤمنين.

بيد أنّه لأسباب اجتماعيّة وروائيّة حدثت نكسة بالنّسبة للمرأة المسلمة، وتراجع دورها في المجتمع، وأصبحت في جملتها لا تفقه الكتابة فضلا أن تطالب بالقراءة، وحرمت أبجديات المعرفة فضلا أن تطالب بالبناء المعرفيّ، ومن هنا طالب العديد من المصلحين والكتاب بحقوق المرأة المعرفيّ، من القرن التّاسع عشر، وظلّت الدّعوة تنتشر شيئا فشيئا، ومن هؤلاء رفاعة الطّهطاويّ ت 1873م، ومحمد عبده ت 1905م، وقاسم أمين ت 1908م.

ومع انتشار دعوة البناء المعرفيّ، ومشاركة المرأة للرّجل، إلا أنّ الأميّة في جانب النّساء لا زالت مرتفعة، وهذا يحتاج إلى جهود أكبر؛ لأنّ تكوّن المرأة معرفيّا يختصر لنا الطّريق في بناء عشرات الأسر معرفيّا أيضا وما ينتج عنه من صلاح وإصلاح مجتمعيّ وتنمويّ.

ممّا تقدّم كأصل عام، إلا أنّه رأى أغلب الفقهاء والعديد من التّربويين من المسلمين هناك بعض الجوانب المعرفيّة لها تعلق بالمرأة أكثر من الرّجل، ومن هذه المسائل الفقهيّة المختصة عادة بجانب المرأة كأحكام الدّماء في الطّهارات، والجوانب الطّبيّة في توليد النّساء والتّجميل، ويرى العديد أنّ مهنة التّمريض أقرب إلى المرأة، وهذا ما أثبتته التّجربة، لقدرة المرأة على التّعامل بصور عاطفيّة ذات حنان ومودة مع المرضى أكثر من الرّجل، وهذا ما يحتاج إليه المريض بصورة كبيرة مع العلاج الماديّ، ولأهميّة الجانب النّفسيّ في العلاج، كما أنّ هناك العديد من الباحثين يرى أنّ الأفضل من يدرس الأطفال في سنواتهم الابتدائيّة الأولى النّساء، لقدرتهن على التّعامل بإيجابيّة مع الطّلاب، حيث أنّ الطّالب عندما يخرج من بيته يفقد حنان أمّه، وهذا لا يُسدّ إلا بمعلمة قد تملأ له بعض الفراغ، فضلا عن حصر الحضانة أو التّمهيديّ للنّساء عادة وغالبا في الوقت نفسه.

وفي الجملة لا يوجد فرق بين الذّكور والإناث في البناء المعرفيّ، وما قد يحدث من خصوصيّة فهو راجع إلى أعراف النّاس وثقافتهم، من هنا لابدّ من بيان بعض العوامل في تفعيل البناء المعرفيّ لدى المرأة المسلمة.

عوامل تفعيل البناء المعرفيّ للمرأة المسلمة:

هناك عوامل عديدة نشير إلى أهمها في مجتمعاتنا:

أولا: فتح أكبر مجال لتعليم المرأة وإشراكها مع الرّجل، ومساواتها تماما في الشّراك المعرفيّ، وقديما قيل: النّساء شقائق الرّجال، ولأهميته كجانب تربويّ وتنمويّ معا في بناء الأوطان والمجتمعات.

ثانيا: وجود المراكز الاستراتيجيّة المهتمة بجوانب تفعيل المرأة، بما في ذلك الجانب المعرفيّ، وعدم الاقتصار على الاحتفاءات السّنويّة، والّتي غالبا تبقى رهينة أوراق الاحتفاء، ولأنّ المركز في جملته ينطلق من أبحاث ميدانيّة واستقرائيّة، تكون أقرب إلى القراءة الصّحيحة للواقع، ممّا يقدّم رؤية سليمة وواقعيّة مبنيّة على مقدمات صحيحة، وتخلص إلى نتائج أقرب إلى الواقع والبناء من الكلام الاحتفائيّ المنمق والمكرر كما تعوّدنا عليه في المجتمعات الشّرقيّة.

ثالثا: فتح الصّوالين والجمعيات غير المقتصرة في جوانب ضيقة من حياة المرأة؛ بل لأجل صناعة المرأة الإنسان، وإبرازها كشريك مهم في بناء الأسرة والمجتمع عموما، واستغلال طاقاتها المهمة في هذا الجانب، من خلال صناعة الوعي لدى المرأة نفسها أولا، ثمّ لدى المجتمع ثانيا.

رابعا: تكريم المرأة المنتجة في كافة المجالات، وتسهيل دورها في المشاركة في البناء والإنتاج والاختراع، وتشجيع المؤسسات النّسائيّة عموما، حيث لا يكون دورها محصورا على البيت مع أهميته، إلا أنّ البيت المجتمعيّ بحاجة إليها أيضا.

الخلاصة:

من خلال ما تقدّم ندرك أهمية البناء المعرفيّ للمرأة المسلمة، والّذي لا يعود نفعه إلى المرأة نفسها بقدر ما يعود إلى شقيقها الرّجل، ويعود إلى المجتمع والأسرة، وفي النّهاية المستفيد هو الإنسان؛ لأنّ صناعة المرأة وبنائها معرفيّا هو صناعة للإنسان أولا، وبناء للأرض ثانيا صلاحا وعمارتها بشكل تكامليّ.

مجلّة الثّقافية 1438هـ/ 2017م

السابق
ألْبِرْت أينْشتاين والاتحاد (الخليجيّ) و(العربيّ)
التالي
التأليف (الأدبي) و(الخُلقي) عند العمانيين
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً