أحمد معطي حجازيّ [معاصر] شاعر وناقد مصريّ، من مناصري ورواد حركة التّجديد في القصيدة الشّعريّة العربيّة في الوطن العربيّ عموما، ومصر خصوصا، أصدر أول دواوينه “مدينة بلا قلب” عام 1959م، وكان أوله هذه القصيدة.
والقصيدة الثّالثّة في هذا الدّيوان “الطّريق إلى السّيدة” من ست وعشرين قصيدة، حيث كتبها في نوفمبر عام 1955م، من صفحة 17 وحتى 22، حسب طبعة 1989م، والّذي أصدرته أخبار اليوم في مصر.
الفترة الزّمنيّة للقصيدة والشّاعر:
تعود القصيدة إلى نوفمبر 1955 أي بعد سقوط الملكيّة في مصر في 23 يوليو 1952م، وتولي محمّد نجيب [ت 1984م] السّلطة، ثمّ الانقلاب عليه [1954م] وتولي جمال عبد النّاصر [ت 1970م] السّلطة بدلا عنه، وبالتّالي بداية النّاصريّة، والّذي تزامن مع مرحلة الفكر الثّوريّ تحت ضلّ القوميّة العربيّة والتّحرر من الاستعمار، مع تبني الفكر الشّرقيّ الاشتراكيّ للتّحرر من الامبرياليّة والرّأسماليّة الغربيّة، وتزاوج الحكم الجمهوريّ العسكريّ مع المخابرات الأمنيّة في إدارة البلاد، ممّا يضعف مؤسسات المجتمع المدنيّ، وفي هذه الفترة بدأت شعارات التّحرر والعدالة والاشتراكيّة تظهر بقوّة في الفنّ والإعلام والخطاب الجماهيريّ من رئيس الدّولة نفسه.
وحجازي كان معجبا بعبد النّاصر حيث قال فيه:
فلتكتبوا يا شعراء أنني هنا
أشاهد الزّعيم يجمع العرب
ويهتف “الحرية … العدالة … السّلام”
فلتلمع الدّموع في مقاطع الكلام
وتختفي وراءه الحوائط الحجر
حتى العمودان الرّخاميان يضمران
والشّرفات تختفي
وتمحى تعرّجات الزّخرف
ليظهر الإنسان في قمّة المكان
ويفتح الكوى لصبحنا
يا شعراء يا مؤرخي الزّمان
فلتكتبوا عن شاعر كان هنا
في عهد عبد النّاصر العظيم!!!
[ديوان مدينة بلا قلب، ص: 86 – 87].
مكانيّة القصيدة:
القصيدة بلا شك موقعها القطريّ “مصر”، والمدينة الّتي حوت مغزى القصيدة هي القاهرة، ويظهر ذلك من خلال الدّلالتين: التّصريحيّة والمكنيّة، أمّا الدّلالة التّصريحيّة فيظهر في قوله:
يا قاهرة!
أيا قبابا متخمات قاعدة!!
يا مأذنات ملحدة!!
يا كافرة!!
فهنا تصريح بلفظة “قاهرة”، وأمّا الدّلالة المكنيّة فمن خلال القرائن اللّفظيّة: تكرار لفظة السّيدة، والسّيدة إذا أطلق فقد تكون أل للعهد الوصفيّ أي وصف القاهرة بالسّيدة، وقد يكون للعهد الذّهنيّ أي مقام السّيد زينب (رض)، وهذا من أهم معالم القاهرة.
وأمّا القرائن المعنويّة: لفظة التّرام في قوله:
حتى إذا مر التّرام
بين الزّحام
لا يفزعون
ولفظة قباب ومأذنات في قوله:
أيا قبابا متخمات قاعدة!!
يا مأذنات ملحدة!!
والقاهرة مشهورة بالقباب والمآذن.
الإطار العام للقصيدة:
القصيدة من شعر التّفعيلة (مستفعلن)، ومنطوق القصيدة الذّهاب إلى سيدة، حيث يذهب إليها كسائر العشاق ليلا، ويسأل عن طريقها، في حالة من الارتباك، ينظر يمنة ويسرة، حتى وصل مدينتها، وفي مخيلته عظمة جمالها، وشدّة فتنتها، وبعد تعب الطّريق، وهو يجر ساقه المجهدة يصل إليها، وقد كان بلا نقود ولا رفيق، ولم يهتم به أحد وهو هائم في الوصول إليها، حتى دنا نورها، وحان كشف الجلاء، وذراعها الرّقيق في مخيلته مقابل ذراعه الخشن كسلّة الثّياب؛ وجد عكس ما كان يتصور في مخياله، فلم تكن تلك السّيدة الّتي عشقها خيالا لا واقعا، وتصورا لا تصديقا، وحلما لا عيانا للواقع ليزيل الخبر الابتدائيّ، ويصدّق نسبته التّصوريّة.
العناصر الرّئيسة والثّانويّة للقصيدة:
العنصر الرّئيسيّ للقصيدة: التّناقض بين المبنى والمعنى، بين الواقع والمتخيل، ممّا يحدث الغربة والكآبة. (من خلال إسقاط المدينة تصديقا، والمعشوقة تصورا).
وأمّا العناصر الثّانويّة للقصيدة:
- البحث عن طريق السّيدة.
- الذّهاب ليلا وحالته المرثيّة.
- الحالة النّفسيّة للشّاعر وهو يقترب من المدينة ومخيلته عنها.
- حالة النّاس في المدينة: السّرعة، والزّحام، والسّيارات المفخخة.
- تناقض الطّبقات في المدينة.
- غربة النّاس عن بعضهم في المدينة.
- الصّدمة الأولى للشّاعر ورغبته إلى عدم العودة ولو ملك نقودا.
- المدينة المتناقضة بين القباب والمباني الشّاهقة وبين حياة البؤس والشّقاء والطّبقيّة.
الجماليات التّصويريّة للقصيدة:
تضمنت القصيدة مجموعة من الجماليات البلاغيّة والتّصويريّة منها:
أولا: نداء التّفخيم والتّعظيم: يا عمّ (نكرة مقصودة)، يا مأذنات ملحدة (نكرة غير مقصودة)، أيا قبابا (نكرة غير مقصودة).
ثانيا: الاستفهام التّعجبيّ والإنكاريّ: أين طريق السّيدة؟، ما وجهته؟، ما قصته؟!
ثالثا: أسلوب الالتفات؛ كما في قوله: قال … ولم ينظر إليّ!! التفت من الماضي (قال) إلى المضارع (يلتفت)، وفي قوله: وسرت يا ليل المدينة، أرقرق الآه الحزينة، التفت من الماضي (وسرت) إلى المضارع (أرقرق).
رابعا: التّنوع في الضّمائر: المتكلّم (وسرتُ)، والغائب (ولم ينظر).
خامسا: كثرة استخدام الفعل المضارع، ليشارك القارئ المشهد وكأنّه يعيش مع الشّاعر.
سادسا: استخدام واو الجماعة ليتلاءم مع مشهد الزّحام وكثرة النّاس: (يمضون)، و(ينظرون)، و(يحفلون).
سابعا: استخدام الجملة الإسميّة لتصوير الواقع وكأنّه حقيقة ثابتة: (أشباحهم تمضي تباعا)، و(رؤوسهم مرنحة)، و(وجوههم مجلّوة مثل الزّهر).
ثامنا: استخدام الكنايات والمعنى البعيد لعلاقة النّسبة كقوله: (يا كافرة).
الجمال البياني للقصيدة:
أولا: تشبيه المفرد كما في قوله: كأنني طفل رمته خاطئة، ووجه الشّبه محذوف تقديره الإهمال والغربة، وقوله: وفارس شدّ قواما فارعا كالمنتصر، وقوله: كأنهّا صدر القمر.
ثانيا: الاستعارة التّصريحيّة كما في قوله: وفي ذراعي سلّة فيها ثياب، شبه خشن ذراعه بسلّة فيها ذياب.
الجماليات البديعيّة للقصيدة:
أولا: طباق الإيجاب: أيمن وأيسر في قوله: أيمن قليلا ثمّ أيسر يا بني.
ثانيا: استخدام السّجع: (السّيدة والمجهدة)، (فرح وقزح).
ثالثا: التّوكيد اللّفظيّ في قوله: (للسّيدة للسّيدة).
الإسقاطات التّأويليّة للقصيدة:
القصيدة تحوي بعيدا عن ظاهريتها أربع إسقاطات:
أولا: الإسقاط الرّومانسيّ: فالسّيدة هنا امرأة يتغزّل بها في شكل مدينة.
ثانيا: الإسقاط الكلاسيكيّ والتّأريخيّ الوصفيّ: الّذي يصور حالة القاهرة حينها وتناقضاتها.
ثالثا: الإسقاط الوجوديّ: الّذي يتضمن حالة الإنسان في مدينة القاهرة.
رابعا: الإسقاط الدّيالكتيكيّ الماديّ: والّذي يصور تناقضات الرّاسماليّة، وحل الاشتراكيّة، تزامنا مع صعود النّاصريّة، وإعجاب الشّاعر بها.
الرّؤية الدّراميّة للقصيدة
القصيدة أقرب إلى الرّؤيّة الدّراميّة لدلالة تدرج المشاهد من الذّهاب وإلى الوصول، وصدمة اكتشاف الحقيقة وتناقضاتها، والقرار بعدم العودة والرّغبة في الرّجوع، كذلك استخدام الفعل المضارع الذّي يجعلك تعيش دراميّا مع القصيدة.
المنهج النّصيّ والسّياقيّ للقصيدة:
يظهر المنهج النّصيّ للقصيدة في وحدتين: وحدة موضوع النّص، ووحدة مقصده، ففي هذه القصيدة يظهر وحدة موضوع النّص في كشف تناقض المخيال والواقع، من خلال صورة المدينة، وغربة الشّاعر في هذا التّناقض، والمقصد الّذي يريد أن يوصله من خلال هذا التّناقض ظاهر من التّضاد بين البناء والمدن والقباب الفخمة (الشّعارات المفخمة) وبين الواقع (لا يعرفون بعضهم) (أليس يعرف الكلام؟ يقول لي حتى سلام)، ثمّ إنّ الوضع النّصيّ وظرفيّة القصيدة تتناسب بين الحالة الّتي تمر بها القاهرة من تغيير سياسيّ وفكريّ، ومن الوضع الّذي أتى منه الشّاعر من عالمه الرّيفيّ البسيط إلى عالم المدينة المركب.
وأمّا المنهج السّياقيّ للقصيدة حيث يربط بين الخطاب والإسقاطات الدّلاليّة، أو بين السّياق الأصغر (السّيدة والمدينة) وبين السّياق الأكبر المفتوح، حيث ترك لمخيال القارئ النّصيب الأكبر لإسقاط السّياق الأكبر حسب ظرفية قراءته، وخلفيته المنهجيّة، وتطلعاته القرائيّة والفنيّة.
المنهج الإيقاعيّ والموسيقيّ:
بطبيعة الحال القصيدة ذات إيقاع موسيقيّ واضع من خلال شعر التّفعيلة، والانتقال بينها في شكل غنائيّ واضح.
الجانب النّقديّ:
غلب الجانب السّلبيّ والانهزاميّ على الشّاعر في تصوير الفكرة، سواء بالمعنى القريب، أو بالمعنى البعيد، وحتى المدح في قوله: (حتى إذا مر التّرام … بين الزّحام … لا يفزعون) فهو مدح مراد به الذّم، ثمّ أنّه صوّر غربته جامعا بين الزّحمة والحالة الّتي هو فيها، وهذا ربط ليس متناسقا؛ لأنّ المدن بطبعها المشهور فيها عادة مجهول لتعدد أحول النّاس، وتنوع رغباتهم، والغنيّ فيها ليس معروفا إلا في أماكن محددة، خاصّة وأنّه صور نفسه أتى من مكان آخر، فطبيعيّ أن يكون غريبا في المدينة.
ومن النّقد اللّفظيّ قوله: (أيا قبابا متخمات قاعدة) وهو يخاطب قباب المدينة، والأصل فيه الرّفع؛ لأنّه نكرة مقصودة، والأصل فيه البناء على الرّفع، وهو أوقع من جعله نكرة غير مقصودة، فهو داخل في محيط المدينة، ليخاطب قبابها، وكذا الحال في المآذن.
ومن النّقد اللّفظيّ أيضا قوله للسّيدة، وهذا يناقض العنوان: إلى السّيدة، فاللّام لها معاني كالاستحقاق، والاختصاص، والتّعليل ونحوها، وهنا يريد الغاية كإلى، حيث سياقات النّص الغاية كقوله: (أجر ساقي المجهدة للسّيدة) أي إلى السّيدة، إلا إذا قلنا ذلك من باب الضّرورة الشّعريّة أو المجاز.
1439هـ/ 2019م