نشر في مجلّة الكلمة، عدد 122، السّنة الحادية والثّلاثون، شتاء 1445هـ/ 2024م، ص: 4 – 8
لمّا نتحدّث عن مجلّة الكلمة فنحن نتحدّث عن ثلاثة عقود من الزّمن تزامنت مع المجلّة، حيث صدرت في بيروت عام 1993م، وتزامنت في هذه العقود أجيال تتلمذوا عليها، واستفادوا منها، وحوادث متباينة ومتشابكة في الجوانب الإنسانيّة والإسلاميّة والعربيّة عاصرتها، وهي من أهم الفترات الزّمنيّة المؤثرة في واقعنا العربيّ والإسلاميّ المعاصر، ومع التّقلبات السّريعة الّتي حدثت الكترونيّا في بداية الألفيّة الجديدة، وشيوع الجانب الرّقميّ كمنافس للجانب الورقيّ، مع تسطيح المعرفة في وسائل التّواصل الاجتماعيّ؛ إلّا أنّ المجلّة ظلّت صامدة في عمقها المعرفيّ، بل كانت أنموذجا للمجلّات والدّوريّات ذات الحفر المعرفيّ، وجمعت بين الجانبين: الرّقميّ والورقيّ، ولا شك ستتجاوز التّحدّي الجديد، والّذي تواجه المعرفة اليوم، في ضوء الذّكاء الاصطناعيّ، وهو تحدّي في نظري يعطي جوانب إيجابيّة للمعرفة، وعمقا لها إذا ما أحسن توظيفه.
وقوّة المجلّة كثيرا ما تنبع في نظري من المؤسّسة الحاضنة لها، والمتمثلة خصوصا في رئيس التّحرير أو مدير التّحرير، والهيئة المشرفة لها، فعندما نسمع عن مجلّة العروة الوثقى نتذكر المجدّديْن جمال الدّين الأفغانيّ (ت 1897م) ومحمّد عبده (ت 1905م)، وعن مجلّة المحروسة نتذكر الأديب عبد المسيح الأنطاكيّ (ت 1922م)، وعن مجلّة المنار نتذكر الفقيه محمّد رشيد رضا (ت 1935م)، وعن مجلّة الرّسالة نتذكر مباشرة الأديب الشّهير أحمد حسن الزّيات (ت 1968م)، وعن مجلّة العربيّ نتذكر المثقف الّذي جمع بين العلم والثّقافة أحمد زكي عاكف (ت 1975م).
لهذا أيضا لمّا نتحدّث عن مجلّة الكلمة نتذكر مباشرة أيضا الباحث والنّاقد زكي الميلاد مع زميله الباحث والنّاقد أيضا محمّد محفوظ، فلا يذكر زكي الميلاد إلّا وتذكر مجلّة الكلمة والعكس صحيح، وإذا كانت المجلّة عرّفت نفسها بأنّها “تعنى بشؤون الفكر الإسلاميّ، وقضايا العصر، والتّجدّد الحضاريّ”، فهذا هو المشروع ذاته الّذي اشتغل عليه أستاذنا زكي الميلاد قبل صدور المجلّة بسنوات، وهو بيّن من خلال ثمرته “تعرفونهم من ثمارهم”، والّتي تمثلت هذه الثّمرة في كتبه الّتي جاوزت الأربعين مؤلفا، مع عشرات المقالات والدّراسات البحثيّة، والمشاركات العربيّة والإقليميّة، كما ارتبط اسمه بمشروع تعارف الحضارات وليس صراعها وتنافرها.
ونضرب هنا بمثالين من كتب الأستاذ زكي الميلاد، الأول من كتابه “الإسلام والإصلاح الثّقافيّ”، حيث يقرّر فيه أنّه لابدّ “أن يتخذ الفكر الإسلاميّ من هذا العصر الرّاهن عصرا يخوض فيه تجربته النّقديّة، وهي المهمّة الّتي تأخرنا كثيرا في إنجازها، ودفعنا ثمنا باهضا نتيجة هذا التّأخر، وكنّا نخشى ونتهيّب من الإقدام على هذه المهمّة، وعطّلنا بسبب ذلك ملكة النّقد، إلى أن وصلنا إلى مثل هذه الوضعيّات، الّتي تظهر وكأننا دخلنا عصر القرون الوسطى، الّتي جربتها أوروبا من قبل، وعرفت حصادها المر”، وإذا ربطنا هذه الصّورة الّتي يعيشها الفكر الإسلاميّ وقت صدور المجلّة؛ نجد الحالة الدّينيّة التّقليديّة الماضويّة الرّافضة للقراءات النّقديّة، وكما أنّه “لن تنجح هذه المهمّة إلّا إذا أطلقنا طاقة العقل، وأصبحنا من الّذين لهم قلوب يعقلون بها”، وهذا يتنافى مع التّسليم المطلق للتّراث بدون نقد أو تعقل، لهذا دعا الميلاد إلى الانتقال من عصر التّسليم المطلق إلى عصر النّقد، ويقصد “بعصر النّقد العصر الّذي نطلق فيه طاقة العقل، ونجعل من النّقد أداة لإعمال العقل”، وهذا ما انطبق عمليّا من خلال مشروع المجلّة ذاتها، إذ حوت من القراءات والمقالات النّاقدة، أو المعنيّة بالنّقد كمقالة “ابن رشد والمستقبل من عقدة الموروث إلى وعي الذّات” لعبد القادر بو عرفة، “وتكتل من أجل التّعايش لا الصّدام الحضاريّ” لصلاح سالم، “ومشروعيّة تجديد الفكر الدّينيّ هواجس ومسوّغات” لحيدر حبّ الله، “والهويّة الذّاتيّة بين ثقافة السّؤال وحقّ العيش المشترك” لمحمّد محفوظ.
وما ذكرت من نماذج على سبيل المثال لا أكثر، إذ جميعها يؤدي إلى الغاية الّتي يرمي إليها زكي الميلاد باسم “انبعاث فكرة الإصلاح [فهي] … لحظة تأريخيّة مهمّة لا ينبغي أن تفوت على الإطلاق، أو تمر علينا من دون أن تشرق فينا وتتخلّق، ومن دون أن تفعل فعلها في تغيير أحوالنا، وأوضاعنا البائسة والمترديّة، وتعيد لنا الرّوح الّذي كاد يخرج منّا بلا عودة”، لهذا نجد المجلّة لم تقتصر عند نقد الجانب الدّينيّ أو الفكريّ والثّقافيّ، فهي انفتحت على نقد الجوانب العلميّة والاجتماعيّة، كقضايا الهويّة والتّنمية والدّولة والعقد الاجتماعيّ وأزمة الفيزياء المعاصرة.
وكتابه الآخر كان حول “الفكر الإسلاميّ: تطوّراته ومساراته الفكريّة”، فهو أقرب إلى المقارنة بين اتّجاهين: الاتّجاه الغربيّ المتطوّر في قراءاته الفكريّة والنّقديّة، والاتّجاه الإسلاميّ والعربيّ الذّي يمشي ببطيء شديد، فقد “ارتبط الفكر الإسلاميّ الحديث بالاحتكاك المباشر والواسع بالغرب، الّذي كان يمثل تحدّيّا تاريخيّا ضاغطا على العالم الإسلاميّ، وتجربة متقدّمة في النّمو والتّطوّر على الصّعيد العلميّ والصّناعيّ، وعلى صعيد النّظم الإداريّة، والتّشريعات القانونيّة والسّياسيّة والدّستوريّة”، لهذا “التّطوّرات الفكريّة في العالم الإسلاميّ على قلّتها إلّا أنّ حركتها بطيئة، وقد لا تظهر للعيان، ولا تأخذ قسطها من الاهتمام والاشتغال بوسائط النّقد والحوار والنّشر، إلّا تلك الأفكار الّتي تخرج عن المشهور، وتصطدم بالأعراف والمقدّسات”.
لهذا كانت مجلّة الكلمة من المشاريع المهمّة لثلاثة عقود مضت لأجل تحريك الجانب الفكريّ، ليس على مستوى البعد الأفقي، وإنّما على مستوى الحفر النّقديّ – كما أسلفنا -، فكان لها بند خاص لرأي تطرحه، ويتمّ نقاشه وتفكيكه، وطرحت حوله قضايا مهمّة كالأخلاق والعولمة، والفلسفة والاستشراق، كما أنّ المجلّة حوت بابا واسعا للدّراسات والأبحاث، والمراجعات النقديّة للكتب، وتسليط الضّوء حول بعص النّدوات والرّسائل الجامعيّة، والإصدارات الحديث، بجانب التّقارير والمتابعات.
والمتأمل في المجلّة أيضا يجد مع هذا التّنوّع والعمق، أنّها تشكل ذاكرة مهمّة للباحثين في الجوانب الفكريّة والاجتماعيّة في منطقة الخليج خصوصا، والعالمين العربيّ والإسلاميّ عموما، وذلك لأنّها أتت في فترة مهمّة من تصاعد التّيارات التّقليديّة الدّينيّة في العالم الإسلاميّ، وفي منطقة الخليج خصوصا، للانتعاش الماليّ في هذه المنطقة في هذه الفترة، كما أنّ التّيارات الإسلاميّة الحركيّة تنامت في هذه الفترة أيضا، كبديل عن التّيارات اليساريّة، وأثر فيها أحداث ما بعد حادثة الحرم أو حادثة جهيمان العتيبيّ (ت 1980م)، ونجاح ثورة الإمام الخمينيّ (ت 1989م)، ثمّ ارتباط الحركات الإسلاميّة بسقوط الاتّحاد السّوفييتيّ، حيث ولدت بعدها حركات امتازت بالعنف الدّينيّ كالقاعدة، مع بدايات تيارات النّقد الدّينيّ أيضا، خصوصا في دول المغرب العربيّ، يقابلها صعود التّيار القرآنيّ، وعليه أمام هذه التّجاذبات، وما كان في المنطقة من أوضاع سياسيّة سلبيّة، من الحرب العراقيّة الإيرانيّة، وحتّى الغزو العراقيّ للكويت، وظهور نظريّات العولمة وصراع الحضارات، ثمّ حوار الحضارات؛ في هذه المرحلة ولدت مجلّة الكلمة في نهاية القرن العشرين، لتعايش أهم مرحلة تعيشها المنطقة، وتحاول أن تقدّم رؤية نقديّة ليست منبتة عن ثقافتها وقيمها واجتماعها، وفي الوقت نفسه ليست منغلقة على ذاتها، كما أنّها اقتربت من الحفر المعرفيّ، ولم تتوقف عند القراءات الصّحفيّة السّطحيّة، فضلا عن استمرارها وعدم انقطاعها عن وقتها حتّى اليوم، أعطاها قيمة من المصداقيّة والثّبات.
وفي الوقت ذاته مرّت المجلّة بأكبر تحدّي في الجانب الإعلاميّ والتّقنيّ، فمن الفضائيات الّتي ظهر في غالبها مشاهير الفضائيّات، والّذين أدخلوا مجتمعاتنا إلى دائرة تسطيح المعرفة، كما أشاعوا الخلافات التّراثيّة والمذهبيّة، لتظهر بعدها المدوّنات ذات العمق الفرديّ، والمواقع الإلكترونية، وبرامج الشّات كالبالتوك وغرفها المتنوعة، إلى وسائل التّواصل الاجتماعيّ منذ 2006م وحتّى اليوم، ومع ثبات المجلّة وصمودها، وقد ساهمت المواقع ووسائل التّواصل في انتشارها، وتعدّد الكتّاب والباحثين فيها، إلّا أنّها – في نظري – بحاجة اليوم إلى انتشار رقميّ بصورة أكبر، على مستوى المقالات، أم على مستوى المجلّة ذاتها، كما لابدّ من المراجعات، وتحويل هذه القراءات العميقة إلى اتّجاهات عمليّة تسهم في رقيّ العقل العربيّ والإسلاميّ خصوصا في وسط الشّباب، كما تساهم في نهضة المجتمعات في المنطقة، حيث ما قدّمته هذه المجلّة المباركة جعلها في طليعة المجلّات العربيّة النّهضويّة المهمّة، والّتي بلا شك سيكون لها أثرها في الأجيال القادمة، وفي نهضة هذه الأمّة ونحن في بدايات النّصف الأول من القرن الحادي والعشرين.