المقالات الدينية

قراءة في جوابات القاضي سعود بن عامر المالكيّ

مع قلّة الفتاوى المحفوظة عن القاضي سعود؛ لأنّ أغلب الفتاوى كانت شفويّة ولم تحفظ كتابةً، إلا أنّ أهميتها تتمثل في الحلقة الواقعة بين عصرين، عصر ما قبل حكم السّلطان قابوس بن سعيد [1970م] وهي المرحلة المنغلقة إعلاميّا وعالميا، ومرحلة ما بعد حكمه والّتي درج محليّا أن تسمى بالنّهضة، وهي مرحلة منفتحة إعلاميّا وعالميا، ولهذا يمكن أن نطلق على القاضي سعود بالمخضرم كغيره من العلماء الّذي أدركوا المرحلتين، وهو من المخضرمين الكبار؛ لأنّه أدرك المرحلة الجديدة وعمره سبعون سنة.

كما تتمثل قيمته أنّه عاش مرحلة الضّعف في الإمامة، وبعضهم يرجع الضّعف إلى آخر سنوات الإمام محمّد بن عبد الله الخليليّ [ت 1373هـ]، وبعضهم إلى خروج الإمام غالب بن عليّ [ت 2009م] من عمان، ولكن في النّهاية لم تكن الإمامة بذات القوة؛ بسبب الانقسام العمانيّ، وضعف الموارد حينها، والانعزال عن العالم.

ويمكن أن نجمل أنّه عايش المراحل الثّلاثة: مرحلة تكوّن الإمامة وبروز شخصيات علميّة وسياسيّة لها أثرها على البعد المجتمعيّ خصوصا في داخل عمان، ومرحلة ضعف وسقوط الإمامة مع بروز تلاميذ هذه الشّخصيات، ومرحلة العهد الجديد المنفتح وبروز إشكالات جديدة.

فالقاضي سعود عاش مع ثلاث مدارس كبار بداية: مدرسة أبيه قاضي القضاة الشّيخ عامر بن خميس المالكيّ [ت 1349هـ]، ومدرسة الإمام الفقيه محمّد بن عبد الله الخليليّ، ومدرسة العلّامة الأمير عيسى بن صالح الحارثيّ [ت 1365هـ].

إلا أنّه كما يبدو من الفتاوى يظهر تأثره الكبير بمدرسة أبيه الشّيخ عامر[1]، ويشير إليه أحيانا كما في مسألة الأنواط: وسمعتُ والدي – رحمه الله – يرفع ذلك لمن يسأله يقول: إنّ الشّيخ القطب أجازه، ولم يفت في ذلك بشيء.

وهنا يظهر تأثره كأبيه بقطب الأئمة [[ت 1332هـ]، ويشير إليه أكثر من مرة كما في المسألة نفسها: لم أجد في ذلك أثرا، ويروى أنّ شيخنا القطب – رحمه الله – أجاز ذلك، ويرى أنّ الأنواط سلعة، ولذلك يجيز بيعها نسيئة.

ويظهر أيضا الإمام السّالميّ [ت 1332هـ] والشّيخ عيسى بن صالح أكثر من مرة في أجوبته، كقوله في كيفية قسمة الوصايا لغير الورثة ومراتب الورثة:  قسمة وصية الأقربين للعلماء فيها مذهبان: قيل تقسّم بينهم بالسّويّة، وقيل تقسّم بينهم حسب الأقرب فالأقرب، والقول الأخير أدركنا عليه علمائنا كالشّيخ السّالميّ، والشّيخ عيسى بن صالح، والوالد عامر بن خميس رحمهم الله، وعليه عملنا إلى اليوم.

أمّا الإمام الخليليّ فهو الشّخصية الأبرز في فتاواه، إما إسنادا إلى قوله، أو مذاكرة معه، أو تصديقا من الإمام الخليليّ نفسه، ومن ذلك قوله: وإن لم يوجد من يصوم فقد سألنا الإمام الخليليّ – رضي الله عنه – هل يصح العدول عن الصّيام إلى شيء من أنواع البر؟ فقال: إنّ الموصي أعرف بما عليه.

أمّا الأقران والمتأخرون الّذين في منزلة تلاميذه فلهم حضورهم، ومن هؤلاء سماحة الشّيخ أحمد بن حمد الخليليّ [معاصر] وهو في منزلة تلاميذه حينها، إذ يقول في مسألة جواز الإطعام بدل الصّيام لمن أوصى أن يصوم عنه: وذاكرنا الآن الشّيخ أحمد بن حمد الخليليّ  – أبقاه الله – فأجاب بالإطعام عند تعذّر أو تعسّر من يستأجر الصّوم، ولعلّه راعى منفعة الفقراء، وهو رأي سائغ، فلينظر في ذلك، ويؤخذ بعدله، والله أعلم.

ويظهر من أقرانه الشّيخ القاضي سالم بن حمّد الحارثيّ [ت 1394هـ] كثيرا، كما في مسألة الحضانة واختلاف السّعر: ولا يخفى أنّ النّاس يختلف معاشهم من رغد وغيره، وما ذكرته عن الوليين – رحمهما الله – وجدتُه وقد ذاكرتُ فيها أخانا  القاضي وهذا جوابه: أقول إنّ الّذي نعمل به ما عمل به أصحابنا، وشاع في الأثر، وهو الّذي ذكرتَه، فأمّا الآن فيحسن أن يُفرض له ريالان  في كلّ شهر؛ لكثرة الرّيالات، وغلاء الأسعار، فأصبح الرّيال يضاهي قرشا، هذا ما أتحراه من الحق، وكما تعلم أنّ التّقدير موكول على نظر القاضي، وعلى حالة النّاس، وعلى الرّخص والغلاء.

وأمّا مصادر الجوابات فيستشهد أحيانا بالقرآن الكريم كما في مسألة عدم النّية في تحديد السّورة الّتي تقرأ في الصّلاة قوله: إذا لم ينوِ المصلي في صلاته سورة معينة فلا بأس عليه في قراءة ما تيسر من القرآن لقوله تبارك وتعالى: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل/ 20].

وبصورة أكبر يستشهد بالرّواية أو الحديث والسّيرة كما في قوله: هذه الآية الكريمة مختصة بذكر الله عزّ وجل عند الذّبح، وتتناول الذّكر عند الأكل والشّرب، وفعل جميع الطّاعات لقوله – صلّى الله عليه وسلّم -: كلّ أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله فهو أجذم، أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه، ومعناه مقطوع البركة، والله أعلم.

إلا أنّ الاستشهاد بالأثر وجعله حكما أحيانا هو الأغلب؛ لتأثر بهذه المدرسة الفقهيّة التّقليديّة عند الإباضيّة، وبمدرسة أبيه العلّامة عامر بن خميس خصوصا، كما في قوله: إذا كان المشتري له شركة في المال فليس للشّفيع شفعة، هكذا في الأثر.

ويظهر من القدامي في فتاويه جابر بن زيد [ت 93هـ]، وأبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة [ت 150هـ]، ومحمّد بن محبوب [260هـ]، وأبو الحواريّ [ت 278هـ ]، وابن النّظر، وأبو الحسن البسيويّ [ت ق 4هـ].

ومع وجود العديد من النّوازل مع الحكم الجديد؛ إلا أننا لا نجد حضورها بقوة في الأجوبة، ومع ذلك وجد القليل منها كمسألة استعمال الإبر في نهار رمضان، ولعلّ كما أسلفت أنّ السّبب أنّ العديد من الفتاوى كانت شفهيّة، ولم تدون.

ومن تواضعه رحمه الله واحتياطه كان يتوقف أحيانا عن الجواب ويعلن عدم حفظه كقوله: أمّا من نسي صلاة ولم يصلّها متى ذكرها؛ فقد قصّر في ذلك، وصلاها بعد أيام فعليه التّوبة والنّدم على ذلك، ولا حفظ معي هل تلزمه الكفارة أم لا، والله أعلم، وقوله: وأمّا بنفسي فلا أقوى على الكلام في ذلك، وأنصح من استشارني في استعمال ذلك؛ لأنّ القصد مضمون في النّوط لا القرطاس، والله أعلم.

وأحيانا يذكر أكثر من قولي ليعطي للمستفتي مساحة في الاختيار، أو يشير إلى وجود الخلاف في المسألة، خصوصا إذا كان الرّأي الّذي يميل إليه مشددا فيذكر ما هو أخف، وأنّه وراد في الأثر، كقوله: أمّا إذا اشترط عليها رباية ولدها لمدّة معلومة فإذا غيرت الشّرط ونقضته للجهالة ففي المسألة خلاف، والقول بعدم إلزامها هذا الشّرط هو الأكثر عند القدماء، وممّن اعتمده الإمام ابن محبوب  – رضى الله عنهما – وكفى به مرجحا.

وفي العديد يطلب من السّائل البحث والنّظر والتّثبت، كقوله: هذا الّذي أراه، فانظر في ذلك، ولا تأخذ إلا بعدله، وقوله: هذا الّذي يبين لي، فاسأل من شئت من أهل العلم، وخذ ما وافق الحق، وقوله: فلينظر فيما قلته إن كان صوابا، وإلا فليردّ، والله أعلم.

وبما أنّه عاش أكثر حياته في ولاية بديّة، وعاش قاضيا؛ لهذا ستكون صورة الفتاوى في جملتها لا تخرج عن بديّة ومسقط رأس أجداده وادي بني خالد بالمنطقة الشّرقيّة، كذلك غالب الفتاوى تتعلق بالأحكام والدّعاوى أكثر منها في العبادات، فلا نجد مثلا فتاوى للزّكاة أو الحج أو الأيْمان!! أو ما يتعلّق بالجانب الاقتصادي والسّياسيّ ولو من جانب الافتائيّ البسيط!!

ومع هذا ما حفظ يشكل جانبا مهما لفهم مرحلة مهمّة من السّياق الافتائيّ في الجانب الدّينيّ، لا غنى عنه للباحث والمؤرخ والمتعلم والمتفقه أيضا، وهذا ما تشكله أجوبة القاضي سعود بن عامر – رحمه الله ورضي عنه -.

1440هـ/ 2019م


[1] وضعنا قراءة عامّة لفتاوى الشّيخ عامر بن خميس المالكيّ في الجوابات.

ينظر: المالكيّ: عامر بن خميس بن مسعود: فتاوى وأجوبة الشّيخ العلّامة عامر بن خميس بن مسعود المالكيّ العمانيّ، تحقيق بدر بن سالم بن حمدان العبريّ، ط مطبعة النّهضة، سلطنة عمان/ مسقط، الطّبعة الأولى، 1436هـ/ 2015م، ص: 7 – 20. من مقدّمة المحقق.

السابق
ترجمة القاضيّ الفقيه سعود بن العلّامة عامر بن خميس المالكيّ
التالي
من السّامريون
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً