صحيفة الفلق الالكترونيّة، 30 ديسمبر 2024م
اشتهر في الأثر قديما “أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه”، ومصداق هذا في القرآن {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النّساء: 58]، ومن المعلوم أنّ الإنسان اليوم وفق غالب فلسفة العمل (الوظائف) يعتمد على راتبه بشكل كبير، وعليه يعلّق وضعه الماليّ والأسريّ والاجتماعيّ، لسداد أقساط شهريّة عليه، أو وفاء التزامات مترتبة عليه أيضا، أو سداد للمتعلّقات الضّرورية كالكهرباء أو الماء، أو علاج ودراسة لذاته أو أسرته، أو تعلّق سفر يستمتع به.
جميع هذه الأحوال وغيرها لا يمكن أن تنتظم بدون وجود نظام واضح يحمي حقّ العامل، وخلل ذلك يؤدي إلى قلّة الإنتاجيّة، كما يؤدي إلى انتشار الأبعاد النّفسيّة السّلبيّة، وليس من السّهولة أن يصل الشّخص إلى درجة لا يستطيع توفير مستلزمات أبنائه البسيطة وهم يرون أبناء غيرهم يتمتعون ويلهون بكلّ سهولة، كما أنّه لا يستطيع في كل فترة أن يريق ماء وجهه حتّى من أقرب النّاس إليه لأجل حماية وضعه الاجتماعيّ، ممّا يغرس في ذاته الكراهيّة، وإن تحولت إلى بعد جمعيّ سوف تتطوّر إلى شيء من السّخط الّتي ينتج عنها المظاهرات العماليّة السّاخطة، ومن المعلوم أنّ المظاهرات العماليّة قد تكون الأكثر عنفا، لما يبطنونه من آثار سلبيّة مكبوتة بمثل هذه الحالات يجدون في المظاهرات أو الاعتصامات متنفسا لهم لإظهارها.
لهذا صدور نظام حماية الأجور وفق القرار الوزاري رقم 729/2024م، من قبل وزارة العمل بتأريخ 15 ديسمبر 2024م خطوة إيجابيّة في حماية حقوق العمّال، والّذي يهدف إلى “رصد عمليات صرف أجور العاملين في القطاع الخاصّ إلكترونيّا، لضمان التزام صاحب العمل بتحويل أجور العاملين لديه إلى حساباتهم لدى أحد المصارف أو المؤسّسات المالية الخاضعة لإشراف ورقابة البنك المركزيّ العمانيّ بالقدر المتفق عليه في عقد العمل، وخلال المدّة المقرّرة قانونيّا”، وقد نصّت المادّة الثّالثة أنّه “يلتزم صاحب العمل بتحويل أجور العاملين لديه عبر نظام حماية الأجور إلى أحد المصارف أو المؤسّسات المالية الخاضعة لإشراف ورقابة البنك المركزيّ العمانيّ فيما لا يتجاوز ثلاثة أيام من نهاية المدّة المتفق عليها”.
وينبغي أن تكون هناك دراسات متكاملة من قبل المختصين في تحقيق الحماية العماليّة على مستوى الأجور خصوصا، حتّى لا يحدث مستقبلا توسع في دائرة الاستثناءات الّتي تنصّ عليها المادّة السّادسة من نظام حماية الأجور، فيحدث شيء من التّحايل على النّظام، على أنّه ينبغي تفعيل قانون الحماية الاجتماعيّة بحيث تقوم على المنفعة وليس على التّبرع المحض فيما لا يتحقّق الظّلم مع صاحب العمل، كعدم وجود سيولة ماليّة حالية، بحيث لا يؤثر ارتفاعها على أجور العمال، ولا ينبغي كحالة أفقيّة الوصول إلى هذه المرحلة بحال من الأحوال.
فنحن اليوم أمام أربع أزمات نرجو تجاوزها، أو التّخفيف من أضرارها، ومعالجتها بشكل تكامليّ، وليس جزئيّا، أزمة الباحثين عن عمل، وأزمة المسرحين عن العمل، وأزمة الأجور المنخفضة فيما لا تتناسب وتكاليف الضّرورات الحياتيّة، وأزمة تأخير الأجور، هذه الجوانب الأربعة ينبغي تجفيفها أو معالجتها بشكل يجمع بين مركزيّة العلاج، والاستفادة من المداخيل حتّى على مستوى الصّدقات والزّكوات، وتشجيع وجود أوقاف دائمة للحماية الاجتماعيّة، بدل وجود جمعيّات تطوعيّة – وهي جيّدة على الحدّ الأدنى -، لكن على مستوى الدّولة الوطنيّة وفق التّقنيات الرّقميّة المتقدّمة، ينبغي أن توجه اتّجاه المركزيّة، خصوصا وعُمان سكانها ليس بتلك الوفرة ليحدث فيها شيء من التّعقيد، وفي الوقت ذاته ينبغي تفعيلها إيجابا بحيث لا تكون مجرد مخرجات، وإنّما بذاتها تتحول إلى استثمار مباشر أو غير مباشر، كتحويلها إلى قروض نفعيّة لا يتحقّق فيها الظّلم، وإنّما تتجه نحو الحماية الاجتماعيّة من جهة، والاستثمار الإيجابيّ من جهة ثانية، كما يمكن تفعيلها وقفيّا بحيث تكون طويلة أمد المردود الماديّ، وتساهم في تدوير المال بشكل ربّما يساهم في تخفيض دائرة التّضخم، أو يخفّف من آثاره على المستوى الأفقيّ العام.
لهذا وجود مؤسّسات بحثية جمعيّة في الجوانب الاقتصاديّة عموما ضرورة ملحة في نظري، تخرج بدراسات بحثيّة وفق الواقع، لا وفق دراسات فرديّة ولو كان لها عمقها، أو وفق انطباعات جزئيّة غير متكاملة، تحدث ضررا أكبر على المستوى البعيد، وأهمية هذا يعود إلى أمرين: الأول تزايد المخرجات الوطنية الباحثة عن عمل، والأمر الثّاني: ضرورة تشجيع الهجرات العماليّة الأجنبيّة ذات الكفاءة إلى البلد لتحريك السّوق، وتشجيع الاستثمار، وهذا يحتاج إلى شيء من التّوازن والجرأة، كما يحتاج أيضا إلى توفير بيئة آمنة للجانبين معا، ومتسارعة في علاجها وفق رؤية بحثية عميقة لا وفق انطباعات عاجلة، لما للسّوق اليوم من حركة سريعة ومتأثرة بما يجري في العالم سياسيّا واقتصاديّا.
لقد استطاعت عمان – والحمد لله – في السّنوات الخمس الماضية إحداث العديد من الجوانب العلاجيّة المبنية على أساس اقتصاديّ دائم، وليس مجرد تسكينات خوفا من ضغط الواقع، وصدور نظام حماية الأجور حالة جيّدة ومتقدّمة، عسى أن تتوقف حالات تأخير الأجور لشهر أو شهرين أو أكثر، والعامل لا يستطيع الحديث خوفا أن يصبح في دائرة المسرحين أو الباحثين عن عمل، وفي الوقت ذاته يعاني مرارة الواقع وآثاره، ممّا يسقط أثره على أسرته وأبنائه سلبا، وعلى المستوى الجمعيّ كما أسلفت يؤدي ذلك على المدى البعيد إلى اضطرابات أمنيّة وولائيّة خارجيّة مضرّة باستقرار الدّولة الوطنيّة إذا تحولت إلى تشكل جمعيّ وليس ردّات فعل فرديّة فحسب، عليه ينبغي وجود علاج عاجل ومتكامل مبنيّ على عمق بحثيّ يدرس جميع الزّوايا بما يخدم الوطن وأبنائه جميعا بلا تفريق بينهم.