جريدة عمان 1443هـ/ 2021م
لست بصدد الحديث هنا عن الفلسفة الوجوديّة، ولكن لا يمكن إدراك الهوّيّة بمعزل عن الفلسفة الوجوديّة، لما لهذه الفلسفة من أثر كبير خصوصا في القرن العشرين، وبعد الحربين العالميتين الأولى والثّانية في تشكل وعي جديد تجاه الهوّيّات، إذ ينطلق من وجوديّة الإنسان ومركزه الكونيّ.
وهذا لا يعني أنّ الوجوديّة ولادة القرن العشرين، فهي قديمة قدم الإنسان وارتباطه مع الوجود، ومع العالم من حوله، وكما يرى ليف تولستوي [ت 1910م] في كتابه في الدّين والعقل والفلسفة أنّ هناك علاقة حتميّة بين سؤال: “ما الهدف من هذا الوجود العرضي الفاني [أي الذّات الإنسانيّة] وسط هذا العالم الصّلب الأبدي؟”، وبين سؤال: “لماذا أعيش، وما العلاقة الّتي تربطني بالعالم الأبدي من حولي”، فكلّ الفلسفات والأديان جاءت لتجيب عن هذين السّؤالين، وكلّ قدّم رؤيته ومنظومته الماورائيّة والأخلاقيّة والتّشريعيّة في ذلك.
إلا أنّ غالب الفلسفات والمنظومات تتوقف عند الصّورة الأولى، أو الماهيّة المشتركة من تطوّر النّوع الإنسانيّ، فهي أصل الهوّيّات ومدارها، وبالتّالي كما يرى تولستوي أنّ هذه العلاقة بين الماهيّة والعالم الخارجي من جهة، وبين الهوّياّت المتشكلة من هذه العلاقة لا تخرج عن ثلاثة أطر، الأولى: شخصيّة فطريّة، “أي معنى الحياة في الخير الشّخصي الّذي من الممكن اكتسابه بمعزل عن الآخرين، أو بالاتّحاد معهم”، والثّانية: وثنيّة اجتماعيّة، أي “لا يكون معنى الحياة في نفع الفرد الشّخصي، بل ينتقل إلى الأسرة، الجنس، الشّعب، الدّولة، أو مجموعة من الأشخاص، ويصبح ذلك هدف الوجود”، والثّالثة: أسريّة قوميّة مسيحيّة أو إلهيّة، “أي معنى الحياة لا في تلبية هدف الفرد، أو تلبية هدف مجموعة من الأفراد، بل في تنفيذ مشيئة الّذي أرسل الإنسان إلى هذا العالم”.
ومن خلال رؤية تولستوي نجد في الأولى تغليب للفردانيّة فهي مدار العلاقة مع العالم، وفي الثّانيّة سلطة الهوّية (أسرة، مجتمع، دولة، عادات، شرائع، الخ) هي مدار العلاقة مع العالم، والفرد خاضع لها، وفي الثّالثة الأمر متعلق بمسبب الوجود، فلماذا أوجد الوجود بما فيه الإنسان، سواء كان خارج العالم، أو هو جزء من العالم، أو هو ذات العالم، إلا أنّ المدار هو تنفيذ مشيئته، وهذه المشيئة وإن تشكلت في هوّيّة أديان وشرائع، إلا أنّها جمعت بين الفرد من جهة، وبين الهوّيّات المجتمعيّة من جهة أخرى، تحت التّلازميات الثّلاث: الخالق، والعالم، والإنسان.
هنا تأتي الوجوديّة في نظري، على الأقل في المدرسة الوجوديّة السّارتريّة بعد الحرب العالميّة الثّانيّة، فترفض هذه الأطر الثّلاثة، حيث يرى سارتر [ت 1980م] في محاضرته الوجوديّة منزع إنساني أنّ “الوجود سابق عن الماهيّة”، وعليه لابدّ من “الانطلاق من الذّاتيّة”، وهذا ليس بمعنى الانطلاق من الماهيّة الأولى، أو بمشترك الماهيّة بين مختلف نوع الجنس كما عند الفلاسفة القدامى، بمعنى “أن يكون الإنسان باستمرار خارج ذاته”، وهذا ينبني أنّ هناك علاقة بين الوجوديّة والعدميّة والعبثيّة، فصورة الإنسان ما قبل الماهيّة مبنيّة على الحرّية، ومن منطلق الحريّة يخلق الإنسان أفعاله ومعتقداته وميولاته، كما يتحمل نتيجة ذلك، ومدار هذا الذّاتيّة الإنسانيّة، ونتيجة للعدميّة تعيش هذه الذّاتيّة في أجواء من القلق والخوف والموت، لهذا يرى الوجوديون اللّاهوتييون أنّ الأديان حاولت أن تجيب على هذه المساحة العدميّة.
وفي نظري مساحة الحريّة، وما قبل الماهيّة، وبالتّالي كسر استعلاء الجماعة تحت مظلّة السّلطة، أو كسر الإنسانويّة المفرطة والّتي استغلت باسم الإنسان الأعلى كما عند نيتشة [ت 1900م]، والّتي استعلها النّازيون، مع أنّ نيتشة يصنّف من الوجوديين، أو بمعنى الإنسان الكامل كما عند الغنوصيين، والّتي ولّدت الكهنوت؛ وهذا مدار جميع التّوجهات الوجوديّة، كانت ذات مرجعيّة لاهوتيّة أو إنسانيّة محضة، وهذا أشمل ممّا يراه العقاد [ت 1964م] في كتابه بين الكتب والنّاس أنّ “الإيمان بالشّخصيّة الإنسانيّة هو الصّلة الوحيدة بين المذاهب الّتي تسمّى صوابا أو خطأ باسم الوجوديّة”.
لهذا كان يميل سارتر إلى مصطلح النّزعة الإنسانيّة بدل الإنسانيّة خلافا لباقي الوجوديين ممّن سبقه فيما يبدو لي، حيث يرى “أنّ المنزع الإنساني يعني بالأساس أن يكون الإنسان باستمرار خارج ذاته”، وهذا أنّ “الذّاتيّة تعني من جهة اختيار الذّات الفرديّة بنفسها، ومن جهة أخرى استحالة تجاوز الإنسان للذّاتيّة الإنسانيّة، ومن الذّاتيّة يتولد رابط الجماعة أو الهوّيّة، “عندما نقول الإنسان مسؤول عن ذاته فإننا لا نريد القول بأنّ الإنسان مسؤول عن فرديّته الضّيقة، وإنّما هو مسؤول عن كلّ النّاس”.
وعلى هذا الوجوديّة ضدّ الإنسانيّة الفردانيّة المرتبطة بالماهيّة ومشتركاتها من جهة، وضدّ الهوّيّات الّتي تطغى على الّذاتيّة الإنسانيّة، وتعوق من حريّة وجودها، وعلاقتها بالعالم، لهذا يرى العقاد أنّ جميع الوجوديين لاهوتيين أم ملحدين “يثورون على طغيان الجماعة، ويقدّسون ضمير الفرد في مسائل الاعتقاد والتّفكير، سواء تمثل هذا الطّغيان في صورة السّلطة الدّينيّة، أو أيّة سلطة من السّلطات تحاول أن تطبع الضّمائر بطابع واحد لا محلّ فيه لحريّة التّصرف، وتفاوت الآحاد في الحس والوجدان”.
ومن خلال ما تقدّم نجد علاقة بين الذّاتية الوجوديّة، ووبين الفردانيّة تحت مظلّة الماهيّة، فكلاهما جاءا لكسر سلطة الهوّيّة أيّا كان تشكلها، ولكن دون نزع لهذه الهوّيّة، أي تبقى في مسارها الطّبيعيّ، لا أن تعوق حرّية الفرد وإبداعه، فتنقله إلى دائرة الاستبداد الجمعيّ تحت مظلّة الهوّيّة كانت لاهوتيّة أو ناسوتيّة من حيث المرجعيّة.
بيد أنّ الافتراق الدّقيق فيما بينهما أنّ الوجوديّة لمّا تنظر إلى الوجود أنّه سابق للهوّية، أي كما يقول العقاد “أنّ الفرد المحسوس هو الموجود الحقيقي، وأنّ النّوع الإنساني صورة ليست لها حقيقة خارجيّة في الوجود”؛ هذا يوّسع من دائرة حرّيته وإبداعه مع العالم من جهة، وخشية أن تتحوّل الإنسانيّة إلى إنسانويّة مستبدة لا تختلف عن سلطة الهوّيات الأخرى من جهة أخرى.
إلا أنّ الفردانيّة لمّا تنظر إلى الماهيّة فتنظر إلى المشترك في النّوع الإنسانيّ، فهي لا تعوق حريّة الفرد وذاتيّته الوجوديّة، وفي الوقت نفسه تعمّق الأنسنة في علاقة الفرد بالعالم، وفي تعامله مع الهوّيّات، وهذا يبعدنا عن العبثيّة في علاقتنا مع العالم.
وفي نظري الوجوديّة حتّى الآن لم تقدّم رؤية فلسفيّة واضحة، عدا خوفها من تشكل نزعات إنسانويّة تحول دون حرّيّة هذا الإنسان، كما تخشى ذلك من النّزعات اللّاهوتيّة الشّموليّة، ومن الهوّيات المجتمعيّة المتشكلة من الجانبين اللّاهوتي [الشّرائع]، والنّاسوتي [الأعراف والتّقاليد]، إلا أنّ مدارها في أسبقيّة الوجود على الماهيّة، ولو على المعنى الفرداني أو الذّاتي، جعلها تواجه جدل اللّاهوتيين الّذين يرون أسبقيّة الوجود من خلال تشكل الصّورة الأولى وفق المشيئة الإلهيّة، باعتباره واجب الوجود، وهذا يرجعنا إلى البرهان اللّمي الّذي يرى أنّ الحدّ الوسط علّة لثبوت المحمول للموضوع، أو الحدّ الأكبر للأصغر ذهنا وواقعا، فبما أنّ هذا الوجود يسبقه موجب الوجود كما عند اللّاهوتيين، فيكون موجب الوجوب العلّة الأولى، أو المسبب الّذي به يدرك ما يصلح هذا الإنسان بماهيّته وعلاقته مع العالم، لهذا جاءت الأديان ابتداء من حيث العلاقة الّتي أشار إليها تولستوي في بيان المسبب الأول أو واجب الوجود، فإذا أدركنا ذلك أدركنا ماهيّة الإنسان وعلاقته بالعالم.
ولهذا الانطلاق من مشتركات الماهيّة، أو الشّيء الجامع في النّزعة الإنسانيّة يجمع بين إنسانيّة الفردانيّة من جهة، وبين الهّويّات المتشكلة عبر الزّمكانيّة من جهة ثانية، فهي توسع دائرة الفردانيّة من حيث الكرامة الإنسانيّة والحرّية والإبداع من جهة، ومن جهة ثانية لا تقف موقف الخصم مع الهوّيّات، ما لم تتشكل كسلطة تحول بين الفرد وحركته في الحياة، وعلاقته مع العالم، عدا ما يربطه من عقد اجتماعيّ جامع بين الهوّيّات من جهة، وبين حركة الأفراد من جهة ثانيّة، وهو عقد ظرفيّ ليس مطلقا، متطوّر بتطوّر الحياة وفلسفتها، منطلق من كرامة الذّاتيّة الإنسانيّة.