المقالات النقدية

حاكميّة الإنزال وحاكميّة الدّولة: (قراءة في تغريدة الدّكتور سعود الزّدجالي)

اطّلعت على ردات الفعل حول تغريدة الدّكتور سعود الزّدجالي ونصّها: “حتى نتجاوز هذا الفكر المتجذّر علينا أن نعيد السّياسة إلى العالم الدّنيوي وعزلها عن الفكر الدّينيّ الشّمولي، ونعيد أجزاء الحريّة الإنسانيّة، ونجعل مصدر السّيادة هو الشّعب وليس الدّين أو الله أو أهل الحل والعقد، ونضع الخطأ السّياسي انحرافا وممارسة وليس إثما أو كفرا في تطبيق الحدود الشرعيّة”.

الّذي يهمني هنا ما تعلّق حول هذه التّغريدة في قضيّة الحاكميّة، وما يترتب عليها من تكفير أو تفسيق على الأقل، مع رجوعي إلى التّغريدة بصورة سريعة في الأخير.

الخلط الّذي وقع في العقل الجمعي بعد الانفتاح على القوانين الغربيّة أنّ استيراد هذه القوانين كفر، فشاع استخدام قوله تعالى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة/ 44]، خصوصا في الدّعوة النّجديّة ونواقض الإسلام العشر، وعند بعض الإخوان المسلمين، وجماعات التّكفير والهجرة، فظهر ما يسمى بتكفير القانون المدني أو الدّساتير والحكومات القائمة عليها [يُنظر كتابنا فقه التّطرف ص: 32 – 38]، واستخدّم الإخوان المسلمون مصطلح “دستورنا القرآن” [يُنظر مقالنا: هل القانون المدني كفر؟ وما معنى دستورنا القرآن؟]، لذا ردّة الفعل جرّت إلى اعتبار الفقه الإسلامي شيئا مقدّسا، مع أنّ أغلبه اجتهاد ظرفيّ، وتأثر بالحضارات الأخرى، بل حتى بالقانون الرّوماني [يُنظر مقالنا: تأثير القانون الرّومانيّ على الفقه الإسلاميّ: القواعد الفقهيّة نموذجا]، ولهذا القانون الغربيّ تأثر بالفقه الإسلامي أيضا، هذا الخطاب العمومي غير المقعد، والّذي لم يطرح قبل هذا، ولم يتصوّر العقل الجمعيّ قبل الانفتاح على الغرب وعموميات الصّحوة أنّ الفقه وحي آخر يتعصّب له كالتّلمود البابلي، وبطبيعة الحال لم يقل أحد بهذا، إلا أنّ الخطاب العموميّ غير المقنن أدّى إلى معنى هذا في العقل الجمعي.لهذا رجع مصطلح الحاكميّة من جديد عند سيّد قطب [ت 1966م]، واستخدمت الجماعات المتطرفة نصوصه في تبرير تكفيرها للحكومات والقوانين الوضعيّة، ولمّا نتأمل القرآن الكريم سنجد الحاكميّة استخدمت في موضعين: حاكميّة الجزاء وحاكميّة الإنزال والمصدريّة، وأمّا الأول لا علاقة لنا به؛ لأنّه متعلق بالعدل الإلهيّ في العالم الآخر [يُنظر مقالنا: الخطوط الثّلاثة في القرآن الكريم: التّكوين والتّشريع والجزاء]، الّذي يهمنا هنا حاكميّة الإنزال والمصدريّة {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف/ 67].

ولعلّ سورة المائدة علّقت الحكم على ما أنزل الله من كتب سماويّة [التّوراة والإنجيل والقرآن]، هذه الكتب تطرّقت إلى تشريعات المفصّل منها قليل، والغالب مجمل، وتركت للعقل البشريّ، والظّرفيّة مساحة واسعة للتّأويل والإنزال، ومع تطرقها للعديد من التّشريعات إلا أنّها لم تتطرق إلى فلسفة الدّولة ونظامها إلا كجوانب قيميّة وأخلاقيّة ليس بالشّريطة لصيق الدّولة. [يُنظر مقالنا: مفهوم الدّولة في القرآن والخلاف في التّطبيق].

فلا يوجد هناك شيء اسمه حاكميّة الدّولة، فالرّسول – صلّى الله عليه وسلّم – نفسه أقر ممالك وهي وراثيّة كسرويّة كما في عمان أيام الجلندى، ولم ينازع مشيخيات القبائل في زمنه، بل حتى بعد فتح مكة قال: “من دخل دار أبي سفيان فهو آمن”، وهو كناية في احترام بعض الرّموز المجتمعيّة، ولم يجعل نفسه ملكا أو امبراطورا، لهذا حدث فراغ كبير بعد وفاته – عليه السّلام -، فرجع من جديد مجلس أهل الحلّ والعقد، وهو مجلس يتعامل معه العرب قديما، وليس حادثا أبان السّقيفة [يُنظر مقالنا: فلسفة الدّولة: مذهب الشّورى؛ ومقالنا: فلسفة الدّولة: مذهب القرشيّة].

ولم يظهر استخدام آية الحاكميّة طيلة الخط والخلاف الّذي حدث منذ وفاة الرّسول الأكرم وحتى بيعة عليّ إلا عند فريق من جماعة عليّ بن أبي طالب [ت 40هـ]، فأعلنوا شعار {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} فسمّوا بالمحكمة، ومع هذا لم يروى عنهم التّكفير والتّشريك بالمعنى الملي إلا ما روي عند فريق ظهر لاحقا خصوصا الأزارقة، مع إعلان فريق منهم البراءة من الإمام عليّ ومعاوية [ت 60هـ] وهو تكفير عملي لا ملي، والأزارقة والصّفريّة والنّجدات غلو فاعتبروا دار السّلطان المستبد دار شرك، والعامل معهم مشرك، واستدّلوا بقوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام/121]، وهنا ظهر الخلاف بينهم وبين عبد الله بن أباض [ت 86هـ] فسمو جماعة الأخير بالقعدة، وبغض النّظر عن صحّة ما روي عن الخوارج [يُنظر جوابنا: مصطلح الخوارج، وكتابنا فقه التّطرف، ص 55 – 58]، إلا أن قضيّة الحاكميّة لم يكن لها ظهور قوي كمصطلح إلا في القرن العشرين، أو النّصف الثّاني من القرن الرّابع عشر الهجري.

أمّا حاكميّة الدّولة كمصطلح لا ظهور له، والاعتراض عليه من جهتين: الأول حاكميّة الحاكم، والثّاني حاكميّة القوانين، أمّا حاكميّة الحاكم فظهر أولا نتيجة الصّراع على الخلافة، واعتبر الخلاف حق إلهيّ وليس بشريا، فقيل هي في العباس [ت 32]، وقيل هي في عليّ وذريته [ت 40ه] وقيل غير ذلك، [يُنظر مقالنا: فلسفة الدّولة: مذهب القرشيّة؛ ومقالنا: الزّيديّة والإباضيّة .. المشترك والمختلف]، ففي ذلك فرق عديدة، ومذاهب شتى، وقيل الخلافة شورويّة وليست كسرويّة، وقيل شورويّة في البطنين من آل البيت، وقيل شورويّة في قريش، وقيل هي جبريّة اختيار من الله، لهذا ظهر نظريّة التّغلب، وقيل غير ذلك.

وفي هذا النّظريات منهم من يوّسع حق الله ليجعل الإمام بعينة صفة واسما اختيارا من الله، ومنهم من يرى أنّ القائم كان عادلا أم ظالما هو بقضاء الله، وقيل إذا اختاره الفقيه أو أهل الحلّ والعقد هو تمثيل لما أراده الله، هذه الصّبغة الإلهية في اختيار الحاكم لا نجد لها نصّا صريحا في كتاب الله تعالى، فالله تحدّث عن قضايا فقهيّة بسيطة كغسل الجنابة في كتابة ولم يتحدّث عن اختيار الحاكم وطريقته، وترك ذلك للظّرفيّة البشريّة والعقل البشريّ.

وأمّا حاكميّة القوانين، فهو كما يُقال: حق أريد به باطل، فأغلب القوانين حتى في الفقه الإسلاميّ اجتهاديّة، والقرآن أشار إلى بعض الحدود والأحكام أغلبها مجمل – كما أسلفنا – استنبطت منها أحكاما عملية، وأحكاما قضائيّة، وأحكاما مجتمعيّة تدبيريّة، كما استنبطنا اليوم أحكاما للطّرق والطّيران والوظائف المهنيّة، ثمّ حتى الحدود بعضها من الرّوايات الظّنيّة، وبعضّهم توسّع في استخدام التّعليل، أو ربطها بالظّرفيّة التّدبيريّة.

والخلل في نظري في أمرين: الأول في حرفيّة فهم مادّة [الشّريعـة الإسلاميّة هي أساس التـّشريع] من النّظام الأساسي للدّولة، وهذه تحتاج إلى تحليل أوسع، من حيث النّص وقطعيته ودلالته، ومن حيث الاجتهاد وروحه، فالله لم ينزل موادا من السّماء، وإنّما أنزل أحكاما منها فصّله، وأغلبها أجمله، فظهر الاجتهاد والتّعليل، وظهرت الآلات وأصول الفقه، ولو قلنا بحرفيّة هذه المادّة لكان قانون الجزاء العماني نفسه معارضا لنصوص كما في الحدود إن لم نوّسع دائرة التّأويل والظّرفيّة، وأخذنا بحرفيّة النّص الشّرعي، بل حتى في نظام الحكم فالقانون يقر أنّ الحكم في عمان “سـلطاني وراثي في الذّكـور من ذريّة السّيد تركـي بن سعيد بن سلطـان”، فهل هذا يعارض الشّريعة الإسلاميّة، بالطّبع لا، فالحكم كونه وراثيّا في ذاته إذا ارتضته جماعا ليس كفرا وخروجا من الدّين.

والأمر الثّاني استخدام لفظة “الأحكام الوضعيّة” وتعميمها كمقابل للأحكام الفقهيّة، وجعل الفقهيّة لصيق الأحكام التّشريعيّة، وتوسعة مفهوم الألوهيّة في الأخير، والأولى أن نعبّر عن المستجد بالنّوازل، ودراستها بما يتفق عليه، مع أنّ مصطلح الأحكام الوضعيّة مستخدم في أصول الفقه في التّعامل مع النّص من حيث السّبب والشّرط والمانع والصّحة والبطلان، خلاف الأحكام التّكليفيّة المرتبطة بالمكلف من حيث دائرة الإلزام فعلا وتركا، ودائرة النّدب والكراهة، ودائرة الإباحة، فالوضع ارتباط بالنّص، والأحكام الوضعيّة هي اجتهادات، فهي ليس في مقابل الفقهيات؛ لأنّ الفقهيات ذاتها اجتهادات يشملها الوضع، ثمّ ليس بالشّريطة ما يسمى بالقوانين الوضعيّة تخالف النّص، فقد تكون تأويلا لنص أو تطبيقا له أو زيادة لحكم ليس له مثيل سابق.

وبعد هذه المقدّمة الطّويلة نفهم الخلل الّذي وقع فيه البعض في إسقاط تغريدة الدّكتور سعود الزّدجالي في الإساءة إلى الدّين أو الذّات الإلهيّة، وبوجه آخر توسعة دائرة الحاكميّة، وما يترتب عليها من تكفير مبطن.

إلا أنني قد أعذر من فهم تغريدة الدّكتور سعود بالخطأ، حيث أنّ الدّكتور يرى أنّ السّياسة والخطأ في تطبيقها لأنّها عمل بشريّ، لا علاقة لها بدين ولا شريعة، ولا يترتب على ذلك تكفير، وأنّ السّيادة في اختيار الحاكم ونوع النّظام هو للشّعب، وهذا كلام جميل لا يتناطح فيه عنزان إلا عند من يرى ألوهية اختيار الحاكم، وهذا مذهب شبه انقرض كنص، مع بقاء من يتمثل الجبريّة في زماننا، وهذا مبحث آخر.

إلا أنّ عبارة “مصدر السّيادة هو الشّعب وليس الدّين أو الله أو أهل الحلّ والعقد} كان ممكن صياغتها بطريقة أخرى، دون إضافة “الدّين أو الله أو أهل الحلّ والعقد”، لأنّ الدّين في الكثير من جوانبه تجسّد اجتماعيّ، وبلا شك سيتجسّد في نظام اجتماعنا المعاصر [يُنظر مقالنا: العلاقة بين العلم والدّين [إشكالية المصطلح وظرفيّة المصداق]، ومقالنا: مالك يوم الدّين].

وأما الله فقد يفسّر بمعنى الذّات الإلهيّة كحضور، وقد يفسّر بمعنى علويّة الدّولة أو لاهوتيتها، ففي الثّاني يستقيم من حيث أصل السّيادة، وأمّا الأول لا معنى له، فالأديان ومنها الإسلام أمر بقيم عليا كالعدل والمساواة وغيرها، وهي أوامر إلهيّة تشمل الدّولة والمجتمع. [ملحوظة لي بحث ينشر قريبا حول هويّة الدّولة والمجتمع وأنسنتها فيه تفصيل أكبر حول الجانب العلماني والإنساني في الدّولة والمجتمع، لذا ارجئ بعض التّفصيل للاختصار].

وأمّا أهل الحلّ والعقد فهو نظام اجتماعي قديم جدّا كما أسلفت، وليس تشريعا أو نظاما منزلا، قد تختلف تفسيراته، إلا أنّه كوجود لا زال باقيا ومستخدّما ولو في صور معاصرة.

وعلى العموم تغريدة الدّكتور الزّدجالي ليس فيها إساءة، ولا ينبغي تهويل الأمر أكثر ممّا يحتمل، وإن كنت قد أخالف الدّكتور في بعض المفردات، حيث أنّ تويتر أحيانا لا يصلح لتوصيل الأفكار التي تحتاج إلى بيان أكبر، وشرح أوسع، إلا إذا بني على مقال مسبق يشار إليه، أو يختصر له، فعلينا أن نوّسع صدورنا، وأن نتقبّل آراء بعضنا كما روي عن المسيح – عليه السّلام – أنّه قال لتلامذته: “هذه وصيتي أن تحبّوا بعضكم بعضا كما أحببتكم”.

ملحوظة: أشرت إلى عنوان المقالات والكتابات لمن أراد المزيد، وابتعادا عن التّكرار، خاصّة هذه المواضيع أشبعت بحثا.

فيسبوك 1441هـ/ 2020م

السابق
حضور ليلة الثامن من شهر الله محرم في مسجد الرسول الأعظم مشاركة لاحتفاء شيعة عمان بكربلاء الحسين
التالي
مواضع استخدام القرآن للفظتي بني إسرائيل واليهود وتطابقه تأريخيا
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً