جريدة عمان، 29 مايو 2023م
منذ فترة مبكرة في حياتنا نسمع عن العلّامة المفكر عبد الله بن الشّيخ المحفوظ بن بيّه، فلا زالت العديد من كتبته حاضرة في أذهاننا، وبعضها كانت لاحقا من حياتنا، فهي إن مالت في الجملة إلى الفقه ومقاصده، والتّصوّف ومسالكه؛ إلّا أنّها تحوي مراجعات عديدة، وفي فترة مبكرة، كمراجعاته حول المختلف والتّسامح وحروب الدّعوة أو الابتداء والجزية وغيرها، وكانت له آراءه النّاقدة والمصححة والصّحوة في أوج حضورها، فيقول في كتابه حول الإرهاب التّشخيص والحلول: “وفي العالم الإسلاميّ بالذّات، فإنّ الصّحوة الدّينيّة ظلّت عنوانا مشتركا لكلّ الدّعوات الجهاديّة والتّجديديّة الّتي واجهت الاستعمار الغربيّ للدّيار الإسلاميّة، منذ القرن التّاسع عشر حتّى خمسينيّات هذا القرن، وقد واجهت الصّحوة الإسلاميّة الشّيوعيّة حقبة من الزّمن في مناطق من العالم، إلّا أنّ الصّحوة خرجت من عباءتها تيارات متطرفة، تتخذ من التّكفير مذهبا، ومن العنف وسيلة، وأوقعت أضرارا فادحة بالأصدقاء قبل الأعداء، فشوهت صورة الصّحوة، وقدّمت ذريعة مثاليّة لأعداء الإسلام، ليهاجموا الدّين جملة وتفصيلا، وليضربوه في الصّميم”.
والمتأمل في فكر ابن بيّه يجده يقرأ الفقه من خلال مقاصدة، والتّصوّف من خلال قيمه وغاياته، والفكر من خلال سعته وانفتاحه على الآخر، فلا يقف عند حرفيّة الفقه وظاهريّته، ولا عند خرافات التّصوّف وإغراقه الميتافيزيقيّ، ولا عند ضيق الفكر والتّعصب للّذات، فهو ينطلق ابتداء من “الإسلام يعتبر جميع البشر إخوة ….. والإسلام يعترف بحقّهم في الاختلاف {ولا يزالون مختلفين …}”.
ففي الفقه ومقاصده نجد كتابه “مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات”، “وعلاقة مقاصد الشّريعة بأصول الفقه”، “وإثارات تجديديّة في حقول الإصول”، وفي التّصوّف له العديد من المقالات، آخرها مقالته الطّويلة الّتي كتبها في 26 أكتوبر 2020م حول “تأصيل التّصوّف من الكتاب والسّنة”، وموجودة على موقعه في الشّبكة العالميّة، حيث يقرّر من الابتداء أنّه “لا ينبغي التّوقف عند الاسم والعنوان، فلا مشاحّة في الألفاظ بعد فهم المقاصد، وعادة العقلاء التّسامح في الإطلاقات، خلاف ما درج عليه بعض الّذين يحاكمون بالاسم، ويحكمون عليه دون تأنّ ولا تؤدة، ولا بحث عن المحتوى، فالأسماء والمصطلحات لا عبرة بها إلا بقدر دلالتها، ولعلّ ذلك مندرج في قوله تعالى: {وعلّم آدم الأسماء كلّها}، وعليه فإنّ الأسماء والمصطلحات لا توصف ببدعة ولا ابتداع، فأكثر أسماء العلوم الإسلاميّة لم تكن معروفة في الصّدر الأوّل بهذه الأسماء كالفقه، وحتّى مصطلحات أهل الحديث من إرسال وعضل وصحة وحسن ووضع، إلّا أنّ الناس قد تواضعوا عليها واستحسنوها بقدر ما تؤديه من وظيفة البيان، وإزالة الالتباس والاكتنان، فنعمت البدعة هي، كما قال عمر، والأمر في الوضوح والبيان لا يفتقرُ إلى برهان”.
فالتّصوّف عند ابن بيّه كما أنّه تزكية وسلوك ومحبّة وتربية، وليس تواكلا وإغراقات ميتافيزيقيّة، هذا التّصوّف يرقى بالإنسان في الارتقاء في الحبّ والعشق الإلهيّ، وهي منزلة “إن لم تكن تراه فإنّه يراك”، فيرى إنّ “تصوّر أيّ إقبال وأيّ بهجة وأيّ هيبة لمن يرى الباري جلّ وعلا، بل أي فناء وانمحاء للأكوان في هذه الحالة، إنّها كمالات تسعى إليها الهمم العاليّة، وترقى إليها النّفوس المؤيدة، ولهذا بحث العلماء عن ناظم يتمثل في علم له قواعده ومصطلحاته، فهذا الفضاء المترع بالمحبّة، والمشرق بالأنوار، وهذه الرّؤى والأشواق والشّفافيّة لا يمكن إلّا أن يكون لها ناظم يجمعه، وسياق يسوقه بإزاء صور الأعمال”.
فالسّفر عند المتصوّفة هو سفر إلى الفناء من خلال العشق الإلهيّ، الّذي يرونه في صورتهم، مع ارتقاء روحهم ووجدانهم، “فلقد تصوّر الصّوفيّة السّلوكَ سَفَرا إلى الحقّ سبحانه وتعالى، رحلة روحانيّة على بساط القلبِ، تعرُج فيها النّفس بالتّدريب والتّهذيب مدراجَ السّالكين، وتَتَرَقّى في مقامات القٌرْب، رحلة سَبَق فيها المفردون الّذين لم تثقل أثقالُ المادّة كواهلهم، ولم تَعُقْهُم العوائق، أو تقطعهم العلائق”.
والتصوّف عند ابن بيّه أقرب إلى التصوّق السّنيّ الطّرقيّ، وأبعد عن التّصوّف الغارق في الماورائيّات من جهة، أو التّصوّف الفلسفيّ الغارق في الرّمزيّات الفلسفيّة كوحدة الوجود، فيشيد بجهود الشّاذليّ في تنقيّة التّصوّف، فيرى أنّه “ظهر الشّاذليّ في عصر ماجَت فيه الفتن، واضطربت القيم، والتبست المفاهيم، فادّرع التصوّف السنّيّ جلابيب قاتمة من بدع المذاهب الفلسفيّة، أذهبت رونقه، وأحالت بهجته، وكادت تذره أثرا بعد عين، فأحيى الله بالشّاذليّ ذماءه، وتدارك عثاره، وأقام سمك بنائه، وأزاح عنه حنادس الشُّبَه، فوصل ما انفصل منه بأصله النّبويّ، إذ كلّ نور لا يوقد من سراج المشكاة النبويّة فهو عين الظّلمة”.
وأمّا مراجعاته الفكريّة فأخذت حيزا كبيرا من حياته المعرفيّة الطّويلة لتساير مراجعاته الفقهيّة والمقاصديّة، فكتابه الشّهير مثلا “فتاوى فكريّة”، وكتابه “خطاب الأمن في الإسلام وثقافة التّسامح والوئام”، وكتابه “الإرهاب: التّشخيص والحلول”، وأقف سريعا مع كتابه الأخير – أي الإرهاب – فيرى إنّ “تنمية التّسامح، والتّدرب والتّمرن على الانفتاح الذّهنيّ، وحسن الاستماع، والإنصات المتبادل، والتّضامن؛ يجب أن تسود كلّ هذه المعاني في المدارس والجامعات ووسائل التّربية”.
والتّسامح مع الآخر ينطلق عند ابن بيّه – في نظري – من منطلقين أساسيين، الأول أنّ الآخر ليس مغايرا لي ولو اختلف دينا أو عرقا، بل هو أخٌ لي في الوجود، “فجميع البشر إخوة”، والثّانيّ كما أنّ الاختلاف طبيعيّ وموجود بين البشر؛ إلّا أنّ هناك المشترك، وهو كثير أيضا، فكنا ينبغي أن نلتفت إليه في الرّخاء؛ يجب أن نلتفت إلى المشترك في الشّدة، ليرتبط التّسامح بالتعّاطف، “والتّعاطف أمر تزكيه الفطرة الإنسانيّة؛ لأنّ الإنسان في وقت من الأوقات، يشعر بالانتماء المشترك إلى هذه الأرض، وإلى هذه الحياة، وأنّ حياة نفس واحدة كحياة جميع النّاس ، وموتها كموت جميع النّاس ، وذلك عبارة عن ماهيّة وحقيقة الحياة وحقيقة الموت ، فهي حقيقة واحدة لا يتغير جوهرها بالكثرة ولا بالقلّة . وتلك حقيقة قرآنية {من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعا، ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعا}”، لهذا “إنّ … التّوجهات الفكريّة عندما تتجاوز حدّها لتكون تيارا حادّا، يعبّر عن نفسه بالعنف، ويلغي وجود الآخر؛ يحكم عليها بأنّها ضارّة، وليست في صالح الإنسان”.
لهذا نجد ابن بيّه من الفاعلين في دفع حركة التّعايش والتّسامح في المجتمع الإنسانيّ عموما، وفي العالم الإسلاميّ والعربيّ خصوصا، من خلال تقريراته الفكريّة الّتي تدور في الخطّ اللّاهوتيّ القرآنيّ والتّراثيّ، ومن خلال مراجعاته في العديد من الجوانب التّراثيّة والتّأويليّة والمعاصرة، وفي الأخير نجد حضوره في “وثيقة الأخوة الإنسانيّة” قبيل زيارة البابا فرنسيس بابا الكاثوليك إلى الإمارات عام 2019م مع شيخ الأزهر أحمد الطّيب، فكان “المؤتمر العالميّ للأخوة الإنسانيّة” في العاصمة أبو ظبي في الوقت ذاته.
وفي الخميس الماضيّ 25 مايو وأنا في زيارتي لمعرض “أبو ظبي للكتاب” في دورته الثّانية والثّلاثين؛ أخبرتُ صديقي الأستاذ حمد الكعبيّ في رغبتي لزيارة ابن بيّه، وقلتُ من الابتداء يصعب زيارته، فكان وزيرا في موريتانيا لعدّه وزارات، حتّى وصل إلى رتبة نائب رئيس الوزراء، وهو حاليا رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشّرعيّ، بجانب رئاسته لمنتدى تعزيز السّلم في المجتمعات المسلمة ومؤسّسة الموطأ في أبوظبي، ورئيس مجلس إدارة المركز العالمي للتّجديد والتّرشيد في لندن، بجانب كونه نائب رئيس الاتّحاد العالميّ لعلماء المسلمين، وأستاذ الدّراسات العليا بجامعة الملك عبد العزيز في جدّة، والعديد من العضويّات، لهذا تصوّرت الرّد السّلبيّ في الابتداء، إلّا أنني تفاجأت أنّ جدول الشّيح مزدحم في الاثنين، حيث كانت زيارتنا يوم الاثنين لأبو ظبيّ، بيد أنّه يرحب باللّقاء ولو سريعا قبل الاجتماع الّذي يرأسه لأعضاء مجلس الإمارات للإفتاء الشّرعيّ، ووضع لنا موعدا سريعا في بداية الخامسة عصرا قبل الاجتماع.
ذهبتُ إلى الموعد بصحبة الأساتذة: أحمد النّوفليّ وإبراهيم الصّلتيّ وعمّار البلوشيّ، وعندما دخلنا إليه وجدتُه مع أعضاء الهيئة منهم امرأة، وبعضهم أعرفهم من خلال كتاباتهم وبرامج فتاويهم ومحاضراتهم في الفضائيات الإماراتيّة، فقام الشّيخ عبد الله بن بيّة بالتّرحيب بنا وهو يقترب من التّسعين من عمره، فرحب بنا ترحيبا مع ابتسامة لا تفارقه، فسلّمنا عليه وعلى باقي الحضور، فأمرني أن أجلس بقربه، فسألني عن الأخبار وعن بعض الجوانب المعرفيّة، وهنا أهديته كتبي الثّلاثة: الجمال الصّوتيّ: تأريخه وفلسفته الفقهيّة [مراجعة في النّص الدّينيّ حول الغناء والمعازف]، وكتاب فقه التّطرّف، وكتاب لاهوت الرّحمة في ضوء الفردانيّة: جدليّة الأنسنة والهويّة والظّرفيّة، فكان يمسك بقوّة كتابا كتابا، إلّا أنّه شدّه كتاب الجمال الصّوتيّ، وهنا تطرّق على عجل لرؤية ابن حزم، فأخبرته أنّي تطرّقت إليها مع رؤى أخرى، وهنا استأذنت للخروج لأنّه خصّص لنا شيئا قليلا من الوقت لارتباطهم باجتماع، إلّا أنهم قدّموا اعتذراهم من قبل رئيس مكتبه زين العابدين لضيق جدول سماحته، راجين تجديد الزّيارة في وقت أكثر سعة، وفي الأخير اعتذرنا لسماحته مع شكرنا له لتخصيص هذا الوقت من جدوله الضّيق، فمسك يدي بقوّة مناديا رئيس مكتبه: اكتبوا بيانات الأخوة ليشاركونا المؤتمرات، وكنت قد أرسلت له سيرتي الذّاتيّة، وأبى توديعنا إلّا واقفا مع كبر سنه، وابتسامته – كما أسلفنا – لا تفارقه، ثمّ أُرسِل لنا من مكتبه بعد شكرنا لهم رسالة “سيدي الأستاذ الكريم تشرفنا بكم، وسعدنا بإهدائاتكم الثّريّة، ونتطلع لتجديد اللّقاء، وتوثيق الصّلة …”، ومن أحد أعضاء الهيئة الشّرعيّة رسالة: “معالي الشّيخ مسرور بلقائكم ….”.